تعتبر وحدة المكون العسكري السوداني من أكثر القضايا أهمية فيما يتعلق بمستقبل السودان وصيانته من الصراعات المسلحة والفشل السياسي، وربما بسبب هذه الأهمية احتلت مسألة الإصلاح الأمني وزنا مضاعفا في كل من الاتفاق الإطاري بين المكون المدني والعسكري واتفاق جوبا للسلام الموقع مع الفصائل المسلحة، نظرا لتعدد القوى العسكرية الحائزة للسلاح في السودان داخل وخارج الاتفاقات العسكرية والسياسية، وهي القوى القادرة على استخدام القوة بعيدا عن مؤسسة الدولة على عدة مستويات منها ماهو سياسي ومنها ما هو قبلي ومنها ما هو جهوي.
وفي هذا السياق، فإن الإرادة السياسية لقادة القوى العسكرية في دعم عمليتي الإصلاح الأمني والاستقرار السياسي للسودان تشكل رمانة الميزان في المستقبل السوداني على المستوى المنظور.
وعلي عكس المرجو تبدو الحالة التافسية بين الطرفين الرئيسيين في المكون العسكري السوداني تنذر بخطر مهدد للسودان ولاستمرار العملية السياسية معا، وهما كل من القوات المسلحة السودانية برئاسة الفريق عبد الفتاح البرهان، ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع.
ولبيان ملامح الصورة من قريب للسياقين المصري والعربي نشير إلى أن كيان القوات المسلحة السودانية ينافسه على استخدام القوة فصائل مسلحة امتلكت هذه القدرة لثلاثة أسباب، هي حروب أهلية ممتدة على أساس عرقي، وتهميش تنموي لأطراف السودان، ونظم سياسية سلطوية وقمعية سعت للتمكين والاستمرار عبر استحداث قوى مسلحة موازية للجيش القومي لحماية النظام السياسي.
ومن أبرز هذه القوى قوات الدعم السريع التي اكتسبت شرعية سياسية وعسكرية في أغسطس 2013 بقرار جمهوري، وذلك على خلفية اتساع العمليات العسكرية ضد الحكومة المركزية من ناحية ومخاوف الرئيس المخلوع عمر البشير من انقلاب الجيش ضده وخصوصا أنه قد نشطت في هذا التوقيت مبادرات دولية وإقليمية غير معلنه لتدبير خروج آمن للبشير نتيجة الاحتقان السياسي الداخلي، وهي المحاولات التي فشلت وتمت مواجهتها بتدابير محلية تسمح باستمرار النظام السياسي رغم تصاعد العمليات العسكرية ضده في مناطق شمال وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق فضلا عن إقليم درافور الذي شهد ميلاد قوات الدعم السريع التي كانت تسمى جنجويد وتم استخدامها في الصراع على السلطة في الخرطوم مع مطلع الألفية ولكن تمت إعادة هيكلتها وباتت تحت قيادة جهاز الأمن والمخابرات الوطني.
وعلى الرغم من كل هذه التدابير لحماية النظام السياسي للبشير فإن قوة الاحتقانات السياسية والاقتصادية المتراكمة لابد وأن تسفر عن تغير كيفي، من هنا انفجرت الثورة الشعبية ضد البشير وأزاحته في أغسطس 2019.
في هذه البيئة المضطربة سياسيا أعاد قائد الدعم السريع تموضعه السياسي وانقلب على البشير وأعلن مولاته لتحالف الثورة الحرية والتغيير، حيث لم يقتصر هذا التموضع على النطاق المحلي، ولكنه امتد ليتسع على المستوى الإقليمي ويسعى لنقاط ارتكاز على المستوى الدولي.
وقد سعى حميدتي لمراكمة عناصر القوة والتأثير في المعادلة السياسية السودانية الداخلية ففضلا عن علاقاته الخليجية المؤسسة عن دور قواته في حرب اليمن والصراعات في ليبيا، سعى إلى علاقات دولية خصوصا على الصعيد الروسي فنسج علاقات مع موسكو عبر دعمها عشية الحرب الروسية الأوكرانية، كما يملك علاقات مع شركة فاغنر العسكرية الروسية التي أتاحت له أدوار في كل من إفريقيا الوسطى وتشاد، وذلك كله فضلا عن اتساع قدراته الاقتصادية التي أتاحت له تملكا للعقارات والمباني في العاصمة السودانية.
وبطبيعة الحال أثار ارتفاع الوزن النسبي لقوات الدعم السريع حساسية قيادات وقاعد القوات المسلحة السودانية، وأصبحت ضاغطة على قيادة القوات المسلحة السودانية من حيث دورها في إتاحة الفرصة لحميدتي للتضخم الاقتصادي على المستوى الداخلي، أو السماح بالدعم المتوالي لقوات حميدتي على المستوى التسليحي، أو إتاحة أدوار سياسية عبر دور في عقد اتفاق جوبا للسلام مع الفصائل المسلحة في أكتوبر 2020.
في هذا السياق فإن حساسية المكون المدني إزاء حميدتي وقواته قد سجلت معدلات أقل من الرفض رغم التركيب الميليشاوي لهذه القوات وذلك نظرا إلى أن القوى السياسية السودانية قد رأت أن انحياز قوات الدعم السريع لها أو للاتفاق الإطاري هو معادل قادر على تحجيم قائد القوات المسلحة ورئيس المجلس السيادي عبد الفتاح البرهان في الاستقواء على القوى الثورية وعسكرة المشهد السياسي، ولم تأخذ بعين الاعتبار أمرين: الأول أن قوات الدعم السريع كانت شريكا في قمع الثورة على نحو دموي، والثاني هو عدم استقرار تموضع حميدتي لدعم التحول الديمقراطي وإسناد قوى الحرية والتغيير، وربما يكون التصحيح الذي قام به ياسر عرمان مؤخرا الناطق باسم الحرية والتغيير مهما وربما أيضا مطلوبا بإلحاح في تقديري حين قال إنه لا تطبيق للاتفاق الإطاري في ضوء الخلافات بين أطراف المكون العسكري. وإن كان هذا التصريح هو رد على مقولات مماثلة للبرهان عن المكون المدني. ولكن أيضا لا يمكن إنكار أيضا أن هذا التصريح في تقديري يعني أن كفتي المكونين العسكريين الرئيسيين واحدة لدى قوى الحرية والتغيير أو هكذا أتمنى.
المشهد الراهن يشير بوضوح إلى انخفاض نسبي لحميدتي في المعادلة الداخلية، نتيجة تراجع لوزنه في التحالفات مع دول الخليج، رغم زيارته الأخيرة لأبوظبي ردا على زيارة البرهان لدبي في إطار اجتماع لقادة الحكومات العالمية وأخرى لأبوظبي، ذلك أنه هناك متغيرات قد برزت في المشهدين اليمني والليبي تراجع معها دور قوات حميدتي، وذلك فضلا عن وعي قد تبلور لدى المكون المدني أن إسناد حميدتي له متغير وغير أصيل، وأن للرجل تقلباته السياسية، وبالتالي من الخطورة بمكان الاعتماد عليه كداعم للتحول الديمقراطي، أما ثالث هذه الملامح فهو الاتفاق الأخير بين مايسمي بالكتلة الديمقراطية، وعبد العزيز الحلو قائد جناح من الحركة الشعبية، وهو الأمر الذي يعني أن جزءا من المكون المدني يتحالف مع مكون عسكري مؤثر.
أما العنصر المؤثر أكثر من غيره فهو طبيعية الشرعية النسبية الإقليمية والدولية التي يحوزها الفريق عبد الفتاح البرهان راهنا وهي التي تتيح له حضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة مثلا، أو اجتماعات الحكومات في دبي، فضلا عن علاقات مع القاهرة متميزة، وذلك في مقابل حساسية أوربية وأمريكية إزاء حميدتي بسبب ما رشح عن علاقاته مع فاغنر فضلا عن علاقات مفقودة لحميدتي بالقاهرة.
ولعل خطاب حميدتي الأخير يدشن مرحلة من تراجع محسوب لحميدتي بعد أن كانت الخرطوم تتحسب قبيل هذا الخطاب لاشتباكات مسلحة بين القوات المسلحة وقوات حميدتي نتيجة تصاعد مؤشرات المشهد التنافسي.
في هذا الخطاب قدم حميدتي اعتذارا عن دعم البرهان في 25 أكتوبر 2021 حينما أطاح برئيس الوزراء المدني، وانسحابا من مغازلات سياسية سابقة تجاه قوى النظام القديم، وكذلك دعما للاتفاق الإطاري الموقع بين المكونين المدني والعسكري في السودان في ديسمبر 2022، وذلك نظرا لوعيه بطبيعة الدعم والدفع الدولي الذي يحوزه هذا الاتفاق.
وقد ترتب على دعم حميدتي للاتفاق الإطاري استنفار كبير في صفوف الإسلامويين السودانيين، إذ اعتبروا هذا الموقف دعما جديدا للاتفاق الإطاري الذي يقفون ضده، على اعتبار أنه قوة مضافة للمكون المدني الذي يتم تصنيفه من جانب الإسلامويين على أنه منتم لليسار بشكل عام، مستهدفا ثأرا من الإسلامويين على النحو الذي جرى من جانب لجنة إزالة التمكين التي قامت بمصادرة مؤسساتهم وأموالهم، في مراحل سابقة، وعادت بموجب الاتفاق الإطاري ولكن بمحددات عمل جديدة وبمظلة قانونية أكثر انضباطا.
أما على صعيد القوات المسلحة السودانية، فقد ترتب على اعتذار حميدتي على دعمه لتحركات البرهان ضد الحكومة المدنية فضلا عن ضغوط رموز في المجلس السيادي أن اتخذ رئيس المجلس السيادي عدة قرارات من شأنها تحجيم قدرات قوات حميدتي –الدعم السريع- خصوصا وأن هناك خلافات بشأن الصلاحيات العسكرية لهذه القوات في دارفور، من ناحية وأدوار لها في تغييرات سياسية في إفريقيا الوسطي من ناحية أخري، وهو أمر له إنعكاسات دولية وكان مثارا في زيارة وزير الخارجية الروسي للخرطوم مؤخرا.
إجمالا يبدو المشهد السياسي والعسكري في السودان مقلقا في هذه المرحلة حيث مازالت التنافسات والملاسنات قائمة على الصعيد الداخلي وهو ما يجعل الاتفاق الإطاري المدعوم دوليا على المحك، كما أن المخاوف تتصاعد بشأن احتمال اندلاع اشتباكات مسلحة رغم النفي الذي يسوقه حميدتي بهذا الشأن في تصريحاته.