كانت التبعات الاقتصادية لأزمتي كورونا وأوكرانيا كاشفة. وكان أهم وأخطر تلك التبعات هي أزمة تعطل سلاسل الإمداد التي تَجَلَّت آثارها في ارتفاع أثمان البضائع جراء عرقلة انسيابها المعتاد بين المجتمعات، ما تسبب في ازدياد اتساع الفجوة بين العرض والطلب عليها، وبالتحديد ما ارتبط منها بالغذاء كالحبوب ليشهد العالم وضعًا إنسانيًا مأساويًا، دفع السيد “ديفيد بيزلي” المدير التنفيذي لبرنامج الغذاء العالمي للإدلاء بتصريح منذ بضعة أشهر، قال فيه نصًا: “إننا نواجه أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة وكل المؤشرات تظهر أننا لم نشهد الأسوأ بعد”.
كان الرجل مُحقًا، فبسبب تبعات الأزمتين الأخيرتين اللتين أُضيفت لهما أزمة المناخ الوجودية، ارتفع عدد الجوعى حول العالم خلال عام 2022 من 282 مليونًا إلى 345 مليونًا أي أن 63 مليون إنسان -وهو رقم مرشح للزيادة- قد انزلقوا بالفعل خلال عام واحد فقط في دائرة الجوع.
بالإضافة إلى ذلك، فقد أصدر البنك الدولي يوم الجمعة الماضي تقييمًا لأعلى عشر دول شهدت تضخمًا بأسعار الغذاء. وكانت بالترتيب التالي: زيمبابوي 285%، فينزويلا 158%، لبنان 143%، الأرجنتين 95%، تركيا 70%، سورينام 61%، غانا 60%، سيريلانكا 59%، رواندا 59%، ثم هايتي 48% ليتبدى حجم الفشل الذريع للمنظمات الدولية -وتحديدًا منظمة التجارة العالمية- في تحقيق أهدافها التي يأتي على رأسها هدف الحيلولة دون مزيد من البؤس الإنساني. وهل هناك أكثر من الجوع بؤسًا؟
يعزز كل من تصريح مدير برنامج الغذاء العالمي وإحصائَي زيادة الجوعى حول العالم وأعلى نسب لتضخم أسعار الغذاء، ما كنت قد ذهبت إليه في الجزء الأول من هذا المقال بشأن أن المنظمات الدولية التي نشأت بعد الحرب الكونية الثانية قد شاخت وشارفت على التحلل فأخفقت في التعاطي مع معضلات الواقع بسبب فقدانها لمرونة التكيف هيكليًا/تنظيميًا/مؤسسيًا وإصرارها على إتباع آلياتٍ للعمل باتت من الماضي، فلم تتمكن من مواكبة التغيرات الجوهرية التي أملاها تطور الواقع منذ مطلع العشرية الأخيرة بالقرن الماضي.
سيدفع تطور الواقع بالمجتمعات البشرية الفقيرة -على وجه التحديد- إلى إعادة النظر في تحالفاتها التي كانت تضمن -على نحوٍ ما- سلاسة إنسياب البضائع بأثمان تتحرك صعودًا وهبوطًا في أُطُرٍ مُتفَق عليها بترتيبٍ من المنظمات الدولية حيث وَلَّدَ استقرار انضواء المجتمعات الفقيرة في تلك التحالفات، واطمئنانها لقدرة المنظمات الدولية على التدخل قدرًا من الاعتمادية رسخته العولمة الغاربة شمسها، والتي احتملت المجتمعات الفقيرة آثارها السلبية مُقابل استمرار تدفق الحد الأدنى من تلك البضائع بأثمانٍ يمكن تقديرها والتحضير لها، ومن ثم السيطرة عليها.
فما أن اختلت موازين القوى الدولية واضطربت التجارة وانتقل التضخم مُعَولَمًا لكل مكان بكوكبنا الحزين، إلا وقد وجدت تلك المجتمعات نفسها غير قادرة بمفردها على مواجهة تبعات الأزمات المتوالية، فتدهورت أحوالها المالية وانخفضت احتياطياتها من النقد الأجنبي، وتفاقمت ديونها بما سيدفعها للبحث عن حلول لمشكلاتها في إطار تحالفات تكتيكية أكثر مرونة بعيدًا عن جمود التحالفات الاستراتيجية التقليدية التي عززتها منظمات دولية فقدت قدرتها على الفِعل وأخفقت في تحقيق أهدافها.
اقرأ أيضًا: التحول نحو صِيغٍ جديدة للتعاون الاقتصادي الدولي.. بين مقدمات الوجوب ومقومات النجاح (1)
تتشكل التحالفات وفق دراسةٍ لثلاث دعائم تتمثل في:
أولًا) تقييم الإمكانات المُتاحة للشركاء المُحتملين، والتي تضم إلى جوار الموارد الطبيعية، مدى جاهزية البِنى التحتية بمفهومها الشامل، الذي لا يقتصر على البنية التحتية للأشغال العامة كالطرق السريعة والشوارع والجسور ومرافق النقل العام والمطارات وإمدادات المياه والطاقة الكهربائية والنفط والغاز الطبيعي ووسائل نقلها والاتصالات بأنواعها وعناصر البيئة والزراعة والصناعة.
لكنه يمتد أيضًا ليشمل البنية التحتية الشخصية أي رأس المال البشري بكل تفاصيل ملامحه من التوزيع الديموجرافي ومستويات التعليم والتدريب ومعدلات الأجور والمعاشات، وكذلك البنية التحتية الاجتماعية كالثقافة العامة والصحة والقضاء والبناء الإداري والمناخ الاقتصادي العام.
ثانيًا) تحديد المكاسب المتوقعة وهو أمر يشمل التعرف على ما يمكن للمجتمع الحصول عليه بالإنخراط في تحالفٍ ما من مكاسب مالية واقتصادية تنتج عن التبادل التجاري من ناحية وعن تبادل فوائض رأس المال البشري بقطاعات معينة من ناحية أخرى، ومن مكاسب سياسية تنتج عن تشكيل قوى ضغط لدعم مواقف التحالف أمام التحالفات الأخرى بالمحافل الدولية من ناحية ثالثة.
ثالثًا) تقدير المخاطر القائمة والمُحتملة كمخاطر التشغيل والأسواق والإئتمان وتذبذب العملة وأسعار الفائدة واستمرارية العمل والتطور التكنولوجي بخلاف مخاطر الاستقرار السياسي والقلاقل التي يُحتَمَل أن يثيرها بعض أطراف التحالف ضد مصالح البعض الآخر التكتيكية والمرتبطة بتحالفات أخرى ربما تكون أكثر أهمية لهم.
تتكون التحالفات الجديدة، والتي يجرى مأسسة عملها من خلال معاهدات ينتج عنها إنشاء منظمات تعمل بشكل هيكلي في إطار من الحوكمة يعزز استقرارًا إداريًا، بغرض تحقيق أهداف تتمثل في:
أولًا) التبادل المباشر للبضائع سواء كانت خامًا أو تامة الصنع، أو لفوائض رأس المال البشري، أو لرؤوس الأموال، أو للتكنولوجيا، أو للخبرات العلمية، وربما يكون أفضل مثال على ذلك هو التحالف لأجل الضمان العادل لتبادل السلع الغذائية -وعلى وجه الخصوص الحبوب- بين المجتمعات المنتجة بالشَمَال والمُستهلِكة بالجنوب.
وثانيًا) التكامل الذي يقوم بموجبه عضو أو أكثر بالتحالف بإجراء عمليات تحويلية على مُنتَجٍ كان عضو آخر بالتحالف قد قام بإنتاجه بحيث يعمل أعضاء التحالف في منظومة تصنيعية مُتكامِلة.
وثالثًا) أداء مهام معينة ذات طبيعة تقتضى ترتيباتٍ من نوع خاص كتنسيق السياسات المالية والإقتصادية بين أعضاء التحالف إما لخدمة التبادل أو لخدمة أغراض أخرى بما يعزز الموقف التفاوضي مع آخرين من خارج أعضاء التحالف، وربما يكون أفضل مثال على ذلك هو التحالف لإسقاط ديون الدول الفقيرة التي تأثرت مالياتها العامة بأزمات كورونا وأوكرانيا والمناخ من خلال التفاوض الجماعي مع الدائنين الدوليين لتلافي تخفيض التصنيف الائتماني لكل دولة على حدى إن تفاوضت مُنفردةً في ظل ظروف دولية تزيد من احتمالات استجابة هؤلاء الدائنين لطلبات تحالف المدينين إن تم التجهيز لها بشكل جماعي وصياغتها على نحو يعكس عدالتها.
إن المجتمعات التي تنشد مكانًا تحت الشمس، تقوم في هذا الظرف التاريخي الاستثنائي شديد التعقيد والاضطراب بالبحث في صيغٍ مختلفة للتعاون الاقتصادي الدولى خارج سياقات التحالفات التقليدية، كي يتسنى لها المساهمة بمحض إرادتها الحرة في صُنع واقعٍ مختلف لا يفرضه الآخرون عليها ناظرةً للمخاطر المُحيطة لا بكونها باعثًا للخسائر بل باعتبارها مكمنًا للفرص.