أحوالنا لا تخفى عليك، بل لا تخفى على الغرباء وزوّار هذا البلد، الذي ترهلت فيه الإدارة على نحو غير مسبوق، وقد لا أضيف جديدًا هنا أكثر من تركيز الوعي على بعض هذه الهموم التي نتعايش معها باعتبارها أمورًا طبيعية، وهي ليست كذلك، بل إن إصلاح بعضها أو معظمها لا يكلفنا شيئًا أكثر من الحزم الإداري.

منطقة الأزهر الشريف

لا تحتاج هذه المنطقة إلى من يذكرك بأهميتها التاريخية ورمزيتها الدينية، أو قيمتها السياحية، وهي الآن تشهد رواجًا سياحيًّا ملحوظًا، ولا تخفى أهمية هذه المنطقة على الحكومات المتتابعة، ولا يمكننا هنا إلا الإشادة بما يبذل فيها من تطوير.

ورغم ذلك، فلك أن تتساءل عن هذه الفوضى التي تضرب كل شبر فيها.. لن أتحدث عن الشحاذين الذين تجدهم في كل ركن، ولا عن المطاعم والمقاهي التي لا تنشغل بجودة ما تقدمه، ولا تجد من يحاسبها على ذلك.. سوف أترك كل ذلك رغم أهميته وأكتفي بالإشارة إلى المخاطر الكبيرة التي يجدها المواطنون والسائحون الذين يسيرون على أقدامهم، بعد أن احتل البائعون وأصحاب المحال الأرصفة، فعلى امتداد شارع الأزهر أو (شارع جوهر القائد) لا يكتفي أصحاب المحال في بعض الأجزاء بإشغال جزء من الرصيف، وإنما يضعون بضاعتهم على (كل) الرصيف، الأمر الذي يجبر السائرين إلى النزول إلى نهر الشارع، ولك أن تتخيل ما يصاحب ذلك من مخاطر كبيرة، وما ينتج عنه من ضجيج تصدره أبواق السيارات التي ضاق بها المكان!

لن أتحدث عن جودة البضاعة التي تقدم في هذه المحال للسائحين، ولا الطريقة المبتذلة التي ينادي بها أصحاب المقاهي عليهم.. فقط أقول: إن هذه الفوضى تجعل كل أعمال التطوير غير ملحوظة، واللافت أن هذا يحدث وسط حضور أمني ومروري ملحوظ!

مستشفى الحسين الجامعي

في الأيام القليلة الماضية قضيت رفقة زوجتي عدة أيام بهذه المستشفى، وشاهدت عن قرب الدور الذي تقوم به هذه المؤسسة الطبية لخدمة الحي وسكانه، ولا يمكنك في كل الأحوال إلا أن تشيد بالترتيب الهرمي الحازم الذي يقوم عليه النظام الطبيّ الأكاديمي بشكل عام: من النواب (بدرجاتهم المختلفة) إلى المدرسين والأساتذة.. ففي هذا النظام يتراجع الخطأ في التشخيص إلى أقصى درجة؛ فهناك أكثر من عين تراجع المريض وتتابع تقارير الأشعة ونتائج التحليل، ثم هناك أكثر من عين تتابع تطور الحالة بعد التشخيص والعلاج، فما فات هذا الطبيب يدركه طبيب آخر.

ففي الحالات الحرجة مثلا، يمكنك أن تشاهد أكثر من جيل طبي حول هذه الحالة أو تلك: من النواب المقيمين إلى المدرسين المساعدين فالأساتذة، وهذا لا يضمن دقة التشخيص فحسب ولكنه يضمن شيئًا آخر لا يقل أهمية، وهو نقل الخبرات الطبية بسلاسة من جيل إلى جيل.. وكأن هذا النظام يجبر عوار التعليم الطبي في مرحلة الـ”بكالوريوس”.

ورغم هذا النظام الواضح (ولك أن تقول: الصارم) إلا أنه يغيب عنه مراعاة البعد النفسي للمرضى، فهم يتعاملون مع المرضى كلهم بطريقة واحدة، أو باعتبارهم حالات لا خصوصية لها، يُشخّصون الحالة ثم يصفون الدواء ويتابعون تطورها، ولكن المريض نفسه غائب تماما من اهتمامهم وانشغالهم، وهو غائب من مناهج تعليم الطب في مصر.. وهذه واحدة من أزمات تعليم الطب (وأسلوب) الأطباء في مصر، فالأطباء لا يتحدثون بما يكفي لمرضاهم، ولا يشرحون لهم بما يكفي طبيعة المرض، وهذا حق المريض في كل الأعراف مهما كان حظه من التعليم والإدراك.. من المؤسف هنا أن أذكرك بأن صمت الأطباء المصريين مع مرضاهم بات مضرب الأمثال..!

فإذا تركنا هذا الجانب العلمي إلى الجانب الإداري العام، فأنت لا تحتاج لأكثر من ساعة واحدة تقضيها في مستشفى الحسين لتشاهد الفوضى في كل مكان: من الزوار الذين يدخلون في أي ساعة من اليوم، وهو ما يجعل المستشفى مكانًا شديد الزحام، إلى طاقم العمال والتمريض الذي لا يكفّ عن الصراخ ليلا أو نهارًا، مما يجعل من شعار: “نرجو من السادة الزوار التزام الهدوء رعاية للمرضى” شعارًا هزليا..! وانتهاء بجدران المستشفى التي تضع لافتات كثيفة تحذر الناس من التدخين حتى لا يقعوا تحت طائلة القانون، ورغم ذلك، فلا يوجد مكان في المستشفى لا تشم منه رائحة دخان السجائر، وليس من المستغرب مثلا أن تجد جماعة من الناس يدخنون معًا أمام غرف الرعاية المركزة!!

الخلاصة:

أن تتخفف منطقة الأزهر ومستشفى الحسين الجامعي من كثير من المتاعب والمواجع لا يحتاج إلى أموال أو تشريعات، وإنما إلى تطبيق القانون وحزم الإدارة.

نشرات سرية في معرض الكتاب

انتهى معرض الكتاب، ولم تنته الكتابة عنه، كان الجميع يتوقع تراجعًا ملحوظًا لأعداد الزائرين، بعد موجة الغلاء غير المسبوقة، ولكن الذي حدث هو العكس تمامًا، فالحضور فاق كل التوقعات، فقد صرح الأستاذ إسلام بيومي مدير المعرض لقناة النهار بأن الأعداد وصلت إلى ثلاثة ملايين وستمائة ألف، كما أن مبيعات الكتب في هيئة الكتاب – وهي إصدارات معروفة بتنوعها ورصانتها – وصلت إلى 200 ألف نسخة.. هذه أرقام مبشرة، وقد تستنتج منها مثلا أن الثقافة المصرية بخير، وأن الغلاء الفاحش الذي طال المأكل والملبس والمواصلات وكل تفاصيل الحياة اليومية لم يؤثر في محبة المصريين للكتاب وتقديرهم له. وهذا استنتاج أقلّ ما يُقال فيه أنه متسرع.

فالحقيقة -إذا افترضنا صحة أرقام أعداد الزائرين- أن الثقافة تأثرت، شأنها شأن غيرها من أمور الحياة، وأن مبيعات هيئة الكتاب ليست حُجّة على غيرها، فأنت في النهاية أمام هيئة مدعومة حكوميًّا بضرائب المواطنين، ورغم ذلك فإن مطبوعاتها الجديدة قد تأثرت بالأزمة على نحْوٍ بالغ، فقد كسرت أسعار المطبوعات الجديدة بالهيئة حاجز المائة جنيه، وهو رقم كبير مقارنة بأسعار الكتب التي كانت تنشرها الهيئة نفسها قبل عامين..!

وإذا تركنا هيئة الكتاب إلى دور النشر الخاصة، بدت لك الأزمة واضحة، ليس هذا فحسب، بل يمكنك الحديث عن تراجع مزرٍ لدور الكتاب، ورغم أن دور النشر الخاصة لا تقدم إحصاءات عن حجم المبيعات بها، وذلك لأسباب معروفة، لا مجال هنا للحديث عنها. رغم ذلك فإني أقول لك من تجارب مباشرة ومن واقع عقود مبرمة بين الكُتَّاب ودور النشر الخاصة بأن هناك تراجعًا ملحوظًا في الكتب النقدية والفكرية والسياسية مقارنة بحجم الكتب الإبداعية والفنية، هناك حضور ملحوظ لعناوين كتب البيست سيلر، وذلك مقابل غياب طاغ أيضًا للكتب الفكرية.. وفوق كل هذا، فقد خفضت دور النشر من عدد النسخ المطبوعة للكتاب الواحد، هناك دور نشر مهمة لا تطبع أكثر خمسمائة نسخة من الكتاب الواحد، بعض دور النشر الخاصة لا تطبع أكثر من مئتي نسخة للكتب الفكرية والنقدية..!!

فإذا قارنت هذه الأعداد الهزيلة جدا بأعداد السكان المرتفعة جدا باتت لك الأزمة واضحة، أو قل: لم نعد إزاء أزمة، وإنما كارثة..! فالمنشورات الحديثة أقرب إلى النشرات السرية..!!

الخلاصة

يجب التفكير جديًّا في دعم الكتاب، بل يجب التفكير جديًّا في دعم الثقافة بشكل عام، فما اكتسبت مصر صورتها الذهنية وتأثيرها الممتد في محيطها الإقليمي إلا بالثقافة الجادة: من الكتاب إلى السينما والمسرح والموسيقا وباقي الفنون.