يتمثل الهدف الأساسي من هذا المقال في تقديم وصف للاستراتيجيات والآليات التي استخدمتها الأنظمة السياسية المصرية المتعاقبة منذ مبارك (1981-2011) لإدارة السياسة في المجتمعات المحلية.
أهمية هذا النوع من السياسة أربعة أمور:
1- يظهر طبيعة ومدى التغير في الشبكات الاجتماعية من وجهاء وقيادات محلية، التي يعتمد عليها كل نظام في علاقته بالمجتمع المحلي.
2- علاقة المجتمع بأجهزة الدولة المختلفة؛ فقد اعتدنا أن نرى السياسة التي تصنع من أعلى -أي مركز السلطة- ولا نرى السياسة التي تتفاعل من أسفل. السياسة المحلية هي التي يظهر فيها كيف يدرك المواطن دولته.
3- وسيلة مهمة جدًا لتعزيز الحراك الاجتماعي والسياسي، وأحيانًا الاقتصادي داخل هذه المجتمعات. كان التعليم في دولة يوليو 52 أحد المحركات الأساسية لهذا الحراك؛ ولكن مع تدهوره وتراجع الدولة عن تعيين الخرجين وتغير هيكل الاقتصاد بعد 1974 -إعلان سياسات الانفتاح الاقتصادي- تحول الحراك نحو مجالات أخرى، لذا فقد نشأ على المستوى المحلي تجار وصناع ومقاولون ورجال أعمال لعبوا دورا في صياغة السياسة المحلية.
4- كيفية توزيع الموارد -خاصة موارد الدولة- من الوجهاء وأعيان الطبقات العليا على الطبقات الدنيا في المجتمعات المحلية.
وكقاعدة عامة فإن الأنظمة المصرية المتعاقبة اعتمدت السيطرة في ومن المركز على القرار السياسي والاقتصادي وتركت للمستوىات المحلية أن تتحول السياسة -وأقول السياسة وليست الإدارة- إلى طبيعة لا مركزية تعتمد في إدارتها على شبكات اجتماعية ترعاها أجهزة الدولة في شكل من أشكال التعاون والتكافل بينهما -أي أجهزة الدولة والشبكات المحلية.
قامت السياسة المحلية على مقايضة بسيطة ولكنها فاعلة وهو ترك المركز يتمتع بتقرير وتنفيذ السياسات العامة والاستقلال بالتشريع وضعف الرقابة بما يخدم توجهاته الأساسية في مقابل قيام الوسطاء والوكلاء على المستوى المحلي بإعادة توزيع الموارد -خاصة موارد الدولة التي باتت شحيحة- بما يضمن تعزيز شبكاتهم المحلية مع توفير الدعم والمساندة للنظام من خلال التعبئة العامة -خاصة في أوقات الانتخابات، وبما يحول دون تشكيل سياسة محلية بديلة من القوى السياسية والاجتماعية الأخرى.
سياسة مبارك المحلية
للوصول إلى تطبيق فعال للقاعدة العامة اتبع مبارك عددا من الاستراتيجيات قام الباحث محمد ميزنا في مقاله المهم عن “وجوه القاهرة القديمة”
برصد أبرز ملامحها:
1- مكّن المجال الاجتماعي والسياسي شخصيات اجتماعية معينة، مثل الوجهاء المحليين، من إقامة شبكات قوية ودخول علاقات تكافلية مع مؤسسات الدولة المختلفة، مما سمح لهم بإعادة تشكيل دورهم في النظام السياسي كوسطاء ومحكمين، وشخصيات السلطة القوية، وموزعي الموارد.
يمكن تعريف هؤلاء “الوجهاء المحليين” على نطاق واسع على أنهم وكلاء اجتماعيون واقتصاديون وسياسيون وسيطون يعملون على المستوىات الوسطى والدنيا من النظام السياسي المحلي، حيث زاد نطاق وعمق وكالتهم الاجتماعية والسياسية بشكل حاد مع تبني الدولة لسياسة الانفتاح في 1974.
في السنوات التي سبقت ثورة 25 يناير، اختار النظام الحاكم شخصيات اجتماعية مختلفة أقل شهرة للاستفادة من الأدوار الحاسمة التي يلعبونها في السياسة المحلية. أنجزوا المهمة على المستويات المحلية/الشعبية من حيث اكتساب هذا النوع من التسلل والترابط الذي يحتاجه حزب الدولة مع الطبقات الدنيا من المجتمع. يُعزى هذا عادةً إلى روسخهم داخل المجتمع وقدرتهم اللاحقة على استخدام شبكاتهم الاجتماعية للأغراض السياسية و/أو الاجتماعية التي يرغبون فيها.
إن مجرد وجود مثل هذه الشبكة المترابطة سهّل نشر الموارد من أعيان الطبقة العليا إلى الطبقات الدنيا داخل المجتمع المحلي.
2- تم تفويض جهاز الشرطة -خاصة مباحث أمن الدولة- في رعاية وإدارة هذه الشبكات لصالح النظام لعبت مؤسسات مثل جهاز الشرطة دورًا أساسيًا في العمليات السياسية للمجتمعات المحلية، كما لوحظ خلال معظم الانتخابات البرلمانية والمحلية بين عامي 2000 و2010 والتي تدخلت فيها سلطات الشرطة بشكل واضح لصالح بعض شخصيات الحزب الوطني الديمقراطي.
3- الشبكات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية متسللة تمامًا داخل الهياكل المؤسسية القائمة بالفعل، مثل الأحزاب السياسية، والمنظمات المدنية، وكيانات الدولة، وتميزت هذه الشبكات بتجانس نسبي وطول العمر مقابل الكيانات التي هم داخلها مما يعني أنهم في كثير من الأحيان يلعبون دورًا أكبر وأكثر تأثيرًا، ويتسمون بالاستقلالية عن هذه الكيانات بما يضمن استمرارهم.
تشير بعض الدراسات إلى ميل الأعيان الأقل إلى تبديل ولاءاتهم من راع (أو مجموعة من الرعاة) إلى راعٍ آخر على أساس مصلحتهم الخاصة، خاصة في ظل عدم وجود أجندة اجتماعية أو سياسية توحدهم أو تربطهم بمشروع سياسي معين، كما لعب النظام مع هذه الشبكات وفق مقولة هارون الرشيد “أمطري حيث تمطري فسيأتيني خراجك” حين أرخى لها حبل التنافس فيما بينها، ولكنه تنافس ليس على النظام وإنما حوله من خلال السماح بعودة الفائزين في الانتخابات لصفوف الحزب الوطني مرة أخرى.
يعني هذا: أن هؤلاء الأعيان من المرجح أن يظلوا لاعبين مؤثرين في اللعبة السياسية بخلاف الأسماء الكبيرة والشخصيات التي تعرضت للإجراءات القانونية وغيرها من الإجراءات التأديبية في أعقاب ثورة يناير؛ فإن الوجهاء الأقل حضورا داخل المستوىات الدنيا والمتوسطة من النظام السياسي سيكون من المستحيل عمليا على أي سلطة حاكمة تعقبهم.
4- استخدمت السياسة المحلية لملء الفراغ الذي خلفته الدولة من انسحابها عن تقديم الخدمات العامة؛ حيث جرى التنافس على موارد الدولة المحدودة ومن هنا يمكن فهم ظاهرة “نواب الخدمات” الذين يلعبون دورا كبيرا في تخصيص الموارد الشحيحة لصالح أفراد مؤثرين في هذه الشبكات أو لصالح مجتمعات محددة تعاني من نقص الخدمات العامة.
لعبت هذه الشبكات دورا أيضا في حشد وتعبئة موارد المجتمع المحلي من خلال التبرع والمشاركة المجتمعية للقيام ببعض الوظائف والأدوار التي كانت تقوم بها دولة يوليو.
وهكذا، فإن السياسات النيوليبرالية التي انتهجها النظام من آواخر الثمانينيات من القرن الماضي سمح للسياسة المحلية أن تتمدد ولكن على المستوى المحلي وفي تعاضد وتكامل مع الدولة.
5- بعد نكسة انتخابات 2005 التي فاز فيها الإخوان ب 88 مقعدًا، أُخضعت الهياكل المحلية للحزب الوطني الديمقراطي لعملية لامركزية شاملة على يد الوافدين الجدد من رجال جمال مبارك، فبدأوا في تنفيذ تشكيلات جديدة تهمش دور كثير من رجالات الحزب الوطني في نظام الحكم المحلي.
وهكذا، فإن القيادة المحلية للحزب الوطني الديمقراطي، والتي كانت متجذرة في المجتمعات، وجدت نفسها مستبدلة بـ”الوافدين” بالمظلات.
6- ولا يمكن إلا أن نختم بالإشارة إلى السياسة المحلية البديلة التي قامت بها الحركات الإسلامية وخاصة الإخوان، وهنا أؤكد على ما أشارت إليه بعض الدراسات من أن مبارك ترك للإسلاميين وغيرهم أن يقوموا بممارسة السياسة في الهامش السياسي والاقتصادي على أن يظل مسيطرا على المركزين الاقتصادي والسياسي، ولكن المعضلة مع هذه الصيغة هي إمكانية التحول عن لعب السياسة في الهامش إلى المركز -كما جرى في انتخابات 2005.
ثورة يناير والسياسة المحلية
اتسمت السياسة أعقاب يناير 2011 وحتي 2013 بالاضطراب وعدم اليقين مع عدم وضوح الرعاة المركزين وتبدلهم بشكل مستمر… إلخ. وبتحليل الانتخابات والاستفتاءات المختلفة التي جرت في هذه الفترة -وهي خمسة بجولاتها المتعددة- يمكن أن نلحظ عددًا من السمات التي اتصفت بها السياسة المحلية:
1- بالرغم من أن الثورة فتحت الباب أمام عدد كبير من القوى الاجتماعية والسياسية للعمل بحرية نسبيًا، إلا أنه يلاحظ استمرار الشبكات المحلية في أداء أدوارها سواء التي تشكلت حول نظام مبارك أو تلك التي تكونت كسياسة بديلة.
إن ما تم القضاء عليه ولو لحين هو الوجوه الكبيرة والبارزة من أعضاء الحزب الوطني المنحل.
اختفاء الحزب الوطني ككيان مؤسسي لم يقض بالضرورة على مواردهم وشبكاتهم، مما يعني أنهم كانوا لا يزالون مستعدين وقادرين على التعبئة -كما جرى مع شفيق في انتخابات الرئاسة أو في التعبئة ضد الإخوان -كما جرى في أحداث يونيو 2013.
كانت مرحلة الانتخابات الرئاسية لعام 2012 بمثابة بداية عودة مهمة لعدد من القوى والشبكات الاجتماعية والسياسية التي كانت مرتبطة سابقًا بالحزب أثناء محاولتها استعادة مصالحها التي تضررت بشدة من جراء انتفاضة 25 يناير.
2- خلقت الحالة المضطربة والصاخبة التي شابت المشهد السياسي المصري بعد 25 يناير إحساسًا عامًا بعدم الاستقرار وعدم اليقين، وعدم القدرة على التنبؤ -كما قدمت- مما جعل من الصعب للغاية الدخول في أو إقامة تحالفات أو ترتيبات سياسية واضحة أو محددة جيدًا على مستوى النخبة الكلية في النظام السياسي المصري.
3- ظلت هذه الشبكات تلعب -كما في فترة مبارك- دورًا في التعبئة الاجتماعية والسياسية ولكن ليس وراء النظام في مواجهة سياسة الإسلاميين وفي مقدمتهم الإخوان ولكن وراء قوى سياسية واجتماعية متعددة بما سمح ببروز بعض الشبكات التي كانت مهمشة على حساب الآخرىن وهذا ما لاحظته بجلاء في مدينة قنا التي عادة ما يجرى الحشد والتعبئة فيها على أساس قبلي. ظل هذا الملمح قائما بعد يناير ولكنه اتخذ مسارات جديدة حين تقدمت بعض الشبكات من داخل نفس القبيلة على حساب أخرى كانت مسيطرة ومهيمنة لعقود بحكم علاقتها بأجهزة الدولة في عهد مبارك.
وهكذا، فإن السنوات القليلة التي أعقبت يناير حتى 2013 فتحت الباب على مصراعيه للتنافس بين الشبكات القديمة، وتلك الجديدة والمهمشة.
السياسة المحلية للجمهورية الجديدة
إن تحليلا معمقًا للانتخابات والاستفتاءات التي أجريت بعد 2013 -وهي ست- يظهر عددا من السمات الأساسية للسياسة المحلية أبرزها:
1- تدار بشكل مباشر ومركزي مما يطلق عليه الأجهزة السيادية، وهي وإن ظهر بينها تنافس محدود ولكن دورها في جوهره يقوم على حشد الكل وجمع الفئات الاجتماعية على قلب رجل واحد لتحقيق الحماية ومواجهة التهديدات التي تواجه الدولة والمجتمع وفق ما أطلقنا عليه في مقالات سابقة “عقيدة الأمن القومي”.
وهنا ملاحظة جديرة بالاعتبار؛ فإن عدم إجراء الانتخابات المحلية منذ حل مجالسها في يناير 2011 حتى الآن ليس مبعثه -في تقديري- منع تسلل أو عودة الإخوان مرة أخرى؛ ولكن العدد الكبير الذي سيشارك في هذه الانتخابات (يفوق الخمسين ألفا) وما يرتبط به من شبكات سيحول دون السيطرة المركزية الكاملة على السياسة المحلية، كما إنه يتسق مع سياسة الجمهورية الجديدة التي تقوم على نزع السياسة من المجتمع وتصحير المجال العام.
تحالف الحكم في الجمهورية الجديدة لايزال ضيقا، وهناك خشية -ربما لفوبيا تكرار يناير- إن اتسع لا يمكن السيطرة عليه.
2- يلاحظ استمرار الشبكات الاجتماعية القديمة التي تشكلت قبل يناير مما يؤكد ما سبق وأشارت إليه عديد الدراسات من ديمومة الشبكات الاجتماعية على المستوى المحلى بغض النظر عن طبيعة النظام.
تأكدت هذه الظاهرة من متابعة المترشحين في انتخابات مجلس النواب لعامي 2015 و 2020. أشار الصديق د. عمرو هاشم ربيع في كتابه الذي صدر عن الأهالي في تحليله لانتخابات 2020 أن نسبة 61.7% من جملة نواب برلمان 2015، البالغ عدده 596 نائبًا، رغبوا فى الترشيح، وهى نسبة كبيرة ومرتفعة.
ويضيف: فمن بين 596 نائبا فى برلمان 2015 ترشح 368 نائبًا، ويعتبر هذا العدد كبيرًا للغاية. ورغم أن عددًا كبيرًا من النواب القدماء المرشحين بالشق الفردى لم يحالفه الحظ، إلا أن نواب القوائم، وجميعهم ترشحوا على القائمة الوطنية من أجل مصر، فازوا فى الانتخابات بفوز القائمة، ويبلغ عدد هؤلاء 94 نائبًا، ويلفت نظرنا إلى ظهور كم كبير للغاية من المرشحين من أقارب نواب حاليين وقدماء، أو أقارب مرشحين فى ذات البرلمان، أو أقارب أعضاء بمجلس الشيوخ، الذي جرى انتخابه منذ شهرين قبل بدء انتخابات مجلس النواب2020.
ما يجب أن نؤكد عليه أن الوراثة للقديم لم تحدث للجميع، وهي تدار بشكل مباشر ومركزي من الأجهزة التي يطلق عليها سيادية، لذا فمجال المبادرات فيها محدود.
3- وعلى الرغم مما جرى في الجمهورية الجديدة من استيعاب من خلال الأجهزة التي يطلق عليها سيادية لبعض الشبكات القديمة واستبعاد أخرى في عملية هندسة واضحة من قبل هذه الأجهزة؛ على الرغم من ذلك إلا أنه في نفس الوقت تمت عملية منظمة لإضعاف هذه الشبكات بتوسيع الدوائر المحلية -كما ذكر قانون 174 لسنة 2020 فى شأن تقسيم الدوائر الانتخابية فى م2 منه “أن تقسم جمهوية مصر العربية إلى مئة وثلاث وأربعين دائرة انتخابية تخصص للانتخاب بالنظام الفردى، كما تقسم إلى أربع دوائر انتخابية تخصص للانتخاب بنظام القوائم”.
نتج عن ذلك ظاهرتان مرتبطتان ببعضهما البعض:
الأولى، ضعف الحشد والتعبئة وراء سياسات النظام -كما ظهر في الانتخابات المختلفة وقد كانت أكثر بروزا في الانتخابات الرئاسية 2014 و2018.
أما الظاهرة الثانية التي يلفت إليها نظرنا الصديق عمرو هاشم فهي البطلان الكثيف للصوت عند الاقتراع، والذى تراوح فى مرحلتى الانتخاب لعام 2020 بجولتيها فى الشقين الفردى والقائمة المطلقة بين6 إلى 24%. كان أكثر ما يلفت النظر فى انتخابات مجلس النواب 2020 هو نسبة إبطال الصوت؛ إذ كانت النسبة الأكبر من الإبطال فى الشق الفردى 12.5%، وفى نظام القوائم 24.2%.
4- ظهرت بجوار هذه الشبكات مجموعات جديدة ولكنها لا تتمتع بجذور ممتدة وعميقة في المجتمع المحلي. شهدت المجالس النيابية المختلفة حضورا كثيفا لرجال الشرطة والعسكريين السابقين؛ ففي دراسة د. محمد أبو ريده عن انتخابات 2015 التي نشرت في كتاب مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية يشير إلى: “شهدت مؤهلات العلوم العسكرية المختلفة طفرة كبيرة في مجلس 2015 مقارنة بما كان عليه الوضع في البرلمانات السابقة. فقد ضم المجلس 22 من الحاصلين على مؤهلات عسكرية، يمثلون 3.7% من إجمالي أعضاء المجلس، وهي نسبة تزيد على ضعف مثيلتها في مجلس 2012 التي بلغت 1.8% من أعضاء ذلك المجلس، نزولا من نسبة بلغت 2.9% في مجلس 2010، بينما بلغت نسبة حملة هذه المؤهلات 2% في مجلس 2005، و1.8% فقط من إجمالي أعضاء مجلس الشعب عام 2000.”
ويضيف أبو ريده: زادت نسبة الأعضاء الذين سجلوا في بياناتهم في المجلس كضباط شرطة سابقين إلى أكثر من ستة أمثال ما كانت عليه في مجلس 2012، حيث بلغ عدد الأعضاء في هذه الفئة 52 عضوا يمثلون 8.7% من إجمالي أعضاء المجلس، بينما لم تتجاوز نسبتهم 1.4% من إجمالي أعضاء مجلس 2012. وتزيد هذه النسبة أيضا عن أعلى نسبة تواجد لهذه الفئة في المجالس الأربعة السابقة، والتي بلغت 7.8% في مجلس 2010، بينما لم تزد النسبة عن 4.6% في مجلس 2000 و4.5% من إجمالي أعضاء مجلس 2005.
لا توجد بيانات تتوفر عن برلمان 2020 لكن بسؤال بعض الخبراء في هذا الشأن أفادوا باستمرا نفس التركيبة.
ومن الظواهر الملفتة التي برزت مع برلمان 2015 انتقال صدارة قائمة المهن التي يعمل بها النواب للمرة الأولى إلى فئة “رجال الأعمال وأصحاب الأعمال الحرة”، بعد أن كانت محجوزة لفئة “الموظفين العموميين” خلال المجالس الأربعة السابقة منذ عام 2000. وهي ظاهرة متوقع استمرارها في برلمان 2020.
شهد مجلس 2015 -وفق تقديرات أبو ريده- طفرة غير مسبوقة في عدد النواب الذين سجلوا أنفسهم ضمن هذه الفئة، حيث بلغ عددهم 146 عضوا، يشكلون نحو ربع العدد الإجمالي لأعضاء المجلس (24.5%)، وهو ما يقترب من ضعف نسبتهم في مجلس 2012 التي بلغت 13.6%، ويظل الفارق كبير بينها وبين نظيرتها في مجلس 2010 (الذي أداره رجال جمال مبارك الجدد) الذي زادت فيه النسبة إلى 18.9%، مقارنة بنسبة بلغت 17% في مجلس 2000 و15.4% في مجلس 2005.
ويمكن أن نلفت النظر إلى مساحات التداخل بين هذه الفئات المختلفة؛ بمعنى أن قطاعا من العسكريين يمكن أن يكون في نفس الوقت من رجال الأعمال.
4- تتميز الجمهورية الجديدة بادارة الموارد على مستوى مركزي سواء في الخطط والسياسات المطبقة أو من خلال تمكين المؤسسات الأهلية الكبرى لتتعاون مع الدولة في تنفيذ هذه السياسات.
من الأمثلة؛ صندوق تحيا مصر الذي تتجمع فيه التبرعات لتدار من خلال توجيهات وأولويات يرسمها الرئيس، مما يقلل الدور الذي يمكن أن تلعبه المستويات المحلية في حشد وتعبئة الموارد لتملأ الفراغ الذي تتركه الدولة في ظل سياسات نيوليبرالية شديدة الوطأة والشراسة على المواطنين.
يفاقم الوضع غياب أجندة سياسية واجتماعية موحدة؛ بالإضافة إلى ما تحدثه السياسات النيوليبرالية من تشرذم في الأجندة الاقتصادية التي لا تجعل هناك وحدة حولها بل تشظي في المصالح وتباين في الأولويات.
5- برغم الانتقال من عدم وجود حزب مهيمن -كما في انتخابات 2015- إلى وجود حزب مستقبل وطن الذي يتمتع بالأغلبية في انتخابات 2020، إلا أن الصيغة السياسية التي تطرحها الجمهورية الجديدة تقوم على التفاعل المباشر بين القيادة السياسية للنظام وجمهوره وفق ما أطلقت عليه في مقال سابق الشعبوية التكنوقراطية.
وهكذا؛ فنحن بإزاء انتزاع للسياسة المحلية: فهي تدار بشكل مركزي ومباشر وليس عبر وسطاء، والموارد المادية والرمزية المتاحة لصيانة شبكاتها الاجتماعية محدودة، وتمتلئ بالأمن أكثر من السياسة للحيلولة دون نشأة سياسة بديلة لا يمكن السيطرة عليها، وقدرتها على الحشد والتعبئة خلف النظام وسياساته محدودة.
يخبرنا هاني عواد في كتابه الصادر بالإنجليزية آواخر العام الماضي أن مشكلة الحكم المحلي في مصر سياسية وليست فنية، وهي مرتبطة هيكليًا بمسألة شرعية الدولة والديمقراطية، ويضيف أنه “لا سبيل إلى أن تؤدي الإصلاحات غير السياسية إلى “الحكم الرشيد”، لأن مشكلة النظام سياسية”.
ويؤكد على دور هام تقوم به السياسة المحلية في استمرار الاستبداد:
“تستفيد اللامركزية غير الرسمية من الاستبداد في ثلاثة جوانب مترابطة. أولاً، يمنح صاحب السلطة القدرة على نقل السلطة دون التنازل عن السلطة القانونية، مما يسمح للأنظمة الاستبدادية بالاحتفاظ بالسيطرة الكاملة على الحكم المحلي إذا خرجت الأمور عن السيطرة. ثانيًا، إنه يساعد الاستبداد لتقليل تكاليف تقديم الخدمات العامة والهروب من الأزمة المالية عن طريق تحويل المهمات التنموية إلى المجتمعات المحلية. ثالثا وأخيرًا، يساعد الاستبداد على إدارة وإعادة تنظيم شبكات المحسوبية الضخمة والشبكات الموروثة الجديدة على المستوى المحلي، وجعلها أكثر فعالية وتنافسية وأقل تكلفة.”
باختصار، تمنح اللامركزية الاستبدادية غير الرسمية امتياز كونها مركزية سياسية ولامركزية في نفس الوقت، وبالتالي فهي توسع نطاق مناوراتها.
لكن هل المناورة لاتزال ممكنة في الجمهورية الجديدة في ظل طبيعة سياستها المحلية المركزية؟