لا يمكن لحركة أو ائتلاف سياسي أن يحافظ على تماسكه ويحقق أهدافه في ظل إصرار بعض مكوناته، على أن يستبدل بالخلاف الصحي في الرأي شقاقا وصراعا يتداخل فيه ما هو شخصي مع ما هو مبدئي وسياسي وأيديولوجي.

تقديم التيارات السياسية، الفروع على الأصول والهوامش على المبادئ والأهداف، يسحب من رصيدها ويقلل من شأنها ووزنها ليس فقط أمام منافسيها بل أمام الجماهير التي تسعى تلك التيارات إلى نيل رضاها وحوز ثقتها.

عندما قبلت الحركة المدنية المشاركة -وفق ضوابط- في الحوار الوطني الذي دعا إليه رئيس الجمهورية قبل عام تقريبا، لم تكن مشاركة السلطة والتحاور معها هي الهدف أو المقصد، فأهداف الحركة التي أعلنت عنها نهاية عام 2017 في بيانها التأسيسي أبعد وأشمل من مجرد الجلوس على طاولة واحدة مع ممثلي السلطة للتوافق على بعض الملفات.

بيان الحركة التأسيسي الذي كشفت عنه في مؤتمر صحفي قبل شهور من إجراء انتخابات الرئاسة 2018، تضمن أن تعمل الحركة على:

  • وضع أسس ومقومات الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، واستعادة دولة المواطنة التي تقوم على التطبيق الصارم لمواد الدستور والقانون على الجميع بلا استثناء.
  • صيانة حرية التفكير والتعبير والتنظيم والاحتجاج السلمي التى يكفلها الدستور وينظمها بمجرد الإخطار، وتحقيق التكافؤ التام فى الفرص بين المتنافسين فى كافة مجالات العمل العام سواء فيما يخص التوظيف أو الانتخابات بكافة مستوياتها، لتحظى مصر بالأكفأ والأفضل فى كل مجال.
  • مواجهة الفساد بتفعيل مبدأ الشفافية والرقابة الديمقراطية من خلال مجالس نيابية ومحلية منتخبة بنزاهة، وإعلام حر، وأجهزة رقابية مستقلة.
  • الإفراج عن كل مسجوني الرأي وتعديل قوانين الحبس الاحتياطي والتظاهر، وتحقيق العدالة الناجزة، مع احترام وتطبيق النص الدستوري الخاص بالعدالة الانتقالية.

إذن أهداف الحركة الأساسية أو مقاصدها الكبرى التي من أجلها تكتلت أحزاب متباينة في الأيديولوجيا داخل كيان واحد هو تحويل حلم إقامة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة الذي خرج من أجله ملايين المصريين في 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013 إلى واقع، وهو ما يفرض على الحركة استغلال كل الفرص واستخدام كل الأدوات وممارسة كل الضغوط لفك الحصار عن المجال العام، بما يضمن إجراء كل الانتخابات العامة بشكل تعددي وتنافسي دون وصاية أو تدخل من أجهزة السلطة التي عهد إليها بإدارة المشهد وهندسة كل الاستحقاقات الانتخابية.

التنابز والتراشق وتصعيد الخلافات على الفروع، فخ قد يؤدي ليس فقط إلى فشل الحركة وتفسخها، بل إلى دفن أهدافها في مقابر الصدقة، حينها لا يمكن إعفاء أحزاب الحركة وقادتها من تحمل المسئولية السياسية والأخلاقية على استمرار أوضاع البلاد على ما هي عليه.

من مصلحة أي سلطة مستبدة أن يتصاعد الخلاف بين معارضيها ليصل إلى حد القطيعة والتشظي، فالتعامل مع المعارضين فرادى أيسر وأسلم على أي نظام يسعى للاستمرار والتأبيد في السلطة من التعامل مع معهم ككيان متماسك محدد الأهداف ومتوافق على الحد الأدنى من آليات تحقيق تلك الأهداف.

لأجهزة الأمن المصرية تاريخ سيئ السمعة في ضرب جذور الشقاق بين الأحزاب وتفخيخها من الداخل، فقبل ثورة 25 يناير، ولأكثر من عقدين لم تنج معظم أحزاب المعارضة من الاختراقات الأمنية، فما من حزب خرج إلى النور سواء برخصة من لجنة صفوت الشريف رئيس لجنة شئون الأحزاب السياسية أو حتى بحكم محكمة إلا وكان هدفا لأجهزة الأمن.

لعبت أجهزة أمن مبارك على وتر الخلافات التي تنشب بين قادة الأحزاب المدنية التي رفضت الدخول في الحظيرة، نجحت في استقطاب بعض الناقمين والمتسلقين الطامحين ومن على رأسهم بطحة، حتى يتحقق لها مرادها بشق الحزب الواحد إلى جبهتين وفي بعض الأحيان إلى جبهات متصارعة، ولا تطمئن ولا يهدأ لها بال إلا بعد صدور قرار أو حكم بتجميد نشاط الحزب بدعوى التنازع على رئاسته.

التيار السياسي الوحيد الذي نجا من مقصلة التجميد الإداري أو القضائي هو جماعة الإخوان التي ظلت محظورة حتى اندلاع ثورة 25 يناير، ولم تُمكن أو تسعى إلى تأسيس حزب سياسي يعبر عن أفكارها وأهدافها يمارس نشاطه في النور، فالجماعة تفضل العمل في ظلام الأنفاق.

نجت الجماعة من سيناريو التجميد لأنها احترفت العمل السري على مدار تاريخها، صمد الهيكل التنظيمي الحديدي للجماعة أمام الضربات والملاحقات لأنه أُسس على مبادئ عقائدية لا تجيز للعضو مخالفة مسئوله، فالثقة في القيادة هي أحد أهم شروط الانضمام إلى الجماعة، لهذا لم يتمكن الأمن من إحداث خروقات كبيرة أو مؤثرة في بنية التنظيم الذي استوعب مئات الآلاف من الكوادر في طول مصر وعرضها، ولهذا كانت الجماعة هي التيار الوحيد الجاهز بعد ثورة 25 يناير للتفاوض مع السلطة الممثلة في المجلس العسكري على ترتيب أجندة خارطة الطريق، والمستعد أيضا لخوض كل الاستحقاقات الانتخابية وحسمها لصالحه في ظل غياب شبه كامل للآخرين.

دفع الشعب المصري كله ضريبة تلاعب أجهزة مبارك الأمنية بالأحزاب المدنية واختراقها وعقد الصفقات الانتخابية مع الجماعة التي لم تصل إلى السلطة إلا عبر الفراغ السياسي الذي نتج عن تفخيخ البدائل المؤمنة بمدنية الدولة وتهميشها والتلاعب بها.

كان أحد الضمانات التي طالبت بها الحركة المدنية قبل موافقتها على المشاركة في الحوار الوطني، الإفراج عن عدد كبير من المسجونين على ذمة قضايا رأي سواء من أعضاء وكوادر أحزاب الحركة أو من المواطنين غير المسيسين الذين تم القبض عليهم بسبب أفكارهم أو آرائهم التي نشروها على مواقع التواصل الاجتماعي.

وبعد نحو 8 شهور من إطلاق دعوة الحوار والتوافق حول ضماناته وتشكيل مجلس أمنائه، اعتبرت الحركة المدنية أن عدم الالتزام بما تم الاتفاق عليه مع السلطة بخصوص الإفراج عن سجناء الرأي «يفسد الأجواء المناسبة لبدء الحوار ويهدر فرصة البدء في مسار التحول الديمقراطي»، بحسب ما جاء في بيان أصدرته الحركة في نهاية يناير الماضي بمناسبة تأخر جلسات الحوار.

في السياسة لا يمكن لطرف قَبِلَ بالتفاوض والحوار أداة للوصول إلى توافق على أجندة أو برنامج عمل سياسي أن يحصل على كل ما يريد، فتحقيق كل طرف لأهدافه مرهون بعدد من المعطيات على رأسها وزنه السياسي ونقاط قوته وصلابة جبهته وقدرته على صناعة رأي عام قانع بصحة موقفه، من جهة، ومن جهة أخرى إدراكه لأهداف مفاوضه الحقيقية وأدوات ضغطه وسقف طموحاته والحد الأدنى لتنازلاته.

نتيجة لحالة التجريف المتعمد للحياة السياسية التي سادت البلاد خلال السنوات السبع العجاف الماضية، وكأثر مباشر لحصار السلطة للأحزاب ومقراتها وملاحقة كوادرها، تدخل الحركة المدنية الحوار السياسي وهي لا تملك من أدوات التفاوض سوى تمسكها بأهدافها المعلنة وتماسك ووحدة مكوناتها بما لا يسمح بإحداث شروخ أو ثغرات تُمكن الطرف الآخر من استغلالها في تفتيت الحركة وتفخيخها.

التلويح أو التهديد بالانسحاب من الحوار قد يكون أحد أدوات الحركة المدنية للضغط كي ينطلق الحوار في مناخ ملائم ووفق الضمانات المتوافق عليها سلفا، فالأزمات الاقتصادية والسياسية التي تحيط بالسلطة تجعلها متمسكة أكثر من الحركة بالحوار، سواء كان هدفها الرئيسي من إقامته هو إيمانها بضرورة الشروع في تنفيذ أجندة إصلاح ديمقراطي أو حتى تصدير صورة بأنها عازمة على ذلك.

انشغال أحزاب الحركة المدنية بخلافات ثانوية من عينة من الأجدر على محاورة ممثلي السلطة ومن أولى بتضمينه في كشوف العفو في تلك اللحظة يعطي السلطة الفرصة لتحميل المعارضة مسئولية إفشال الحوار وفي حال تصاعد الخلافات قد يكون استمرار الحركة المدنية نفسها ككتلة سياسية على المحك.

على الحركة المدنية ألا تقع في هذا الفخ، وأن تنتبه إلى أن الحوار ليس أكثر من أداة لتحقيق مقصدها بتوسيع المجال العام بما يسمح بتعددية سياسية حقيقية وتداول سلمي للسلطة، لاسيما أن لديها اختبارا آخر أهم وأجدى، فعجلة انتخابات الرئاسة ستدور بعد شهور قليلة وحتى الآن لم تشرع أحزابها في مناقشة لا البرنامج الانتخابي ولا الشخصية التوافقية القادرة على خوض تلك المعركة.