تعاني الدول النامية من أزمات مالية خطيرة، ناشئة عن ارتفاع مستويات الدين العام، وخاصة الدين الخارجي الذي يضغط على الموازنات العامة للدول، ويجعلها عرضة للصدمات المالية ومخاطر هروب رؤوس الأموال، ومزاحمة الدين العام للاستثمار المحلي والأجنبي من خلال توفير أسعار فائدة مغرية يتهافت عليها المستثمرون والبنوك على حد سواء.

كانت أزمة كوفيد-19 كاشفة لتلك الأزمات وليست منشئة لها، حيث بلغ حجم الدين العام العالمي عشية الجائحة ما يزيد عن ثلاثة أضعاف الناتج الإجمالي العالمي. ومع بدء تعافي الكوكب من صدمته الوبائية، كانت الحرب الروسية الأوكرانية رافدا جديدا للأزمات المالية، حيث ألقت بظلال كثيفة على حالة عدم اليقين في الأسواق، وتسببت في أزمات في أسعار الطاقة والغذاء، ومزيد من اضطراب لحركة التجارة وسلاسل التوريد، حتى كادت صدمات التضخم أن تعصف بمختلف دول العالم.

وفي محاولة الولايات المتحدة ومختلف الاقتصادات (خاصة الكبرى) لكبح التضخم غير المسبوق منذ عقود، اتخذت البنوك المركزية قرارات التشديد النقدي، فكان الرفع المتوالي في أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي ومن ورائه عدد من العملات الرئيسة، عاملا مؤثرا في تغذية التضخم المتسرب من تلك الدول إلى الدول المستوردة والمدينة. علما بأن الدولار الأمريكي (الأقوى نسبيا بفعل ارتفاع أسعار الفائدة) يتحكم في 80% من حجم التجارة الدولية، ونسبة غالبة من عملة الديون الخارجية. وجدير بالذكر أن الأشهر التسعة الأولى من العام الماضي قد شهدت قيام 19 دولة بتخفيض متتال في قيم عملاتها الوطنية أمام الدولار.

كيف يمكن إذن إنقاذ الدول المدينة وخاصة النامية من الغرق في أزمات عميقة للديون؟ علما بأن تلك الدول تكافح النقص الحاد في مواردها، وتقدّم خدمات الدين على أية نفقات ضرورية لغذاء وصحة وسائر خدمات السكان، وليس أدل على ذلك من سريلانكا التي اختارت ألا تتأخر يوما واحدا عن سداد خدمات ديونها، حتى ولو كان ذلك على حساب تردّى أوضاع السكان بصورة مقلقة. الجميع يدرك مخاطر التخلّف عن السداد أو تصنيف الدولة على أنها متعثّرة. هذا التصنيف من شأنه أن يرفع حجم المخاطر الائتمانية للدولة بصورة مخيفة، ويجعل الديون الجديدة (التي لا غنى عنها ولو في الأجل القصير) مكلفة للغاية وغالبا غير ممكنة.

اتفاقية لندن للديون London Debt Agreement عام 1953:

في عام 1953 وافق الحلفاء على اتفاقية لندن للديون، وهي خطة جذرية لإلغاء نصف الدين الخارجي لألمانيا، وخلق شروط سداد سخية لسداد المتبقي منها. يعتقد بعض المحللين بأن الاتفاقية كانت سببا في حفز النمو الاقتصادي لألمانيا من خلال خلق حيز مالي للاستثمار العام، وخفض تكاليف الاقتراض، واستقرار التضخم.

وقد قدّم راينهارت وتريبيش (2016) دراسة حديثة لتداعيات تخفيف عبء الديون في 45 دولة بين 1920-1939 و 1978-2010 ووجدا أن الوضع الاقتصادي للبلدان المدينة يتحسن بشكل كبير بعد تخفيف أعباء الديون، ولكن فقط إذا كان التخفيف يشمل عمليات شطب للديون، وليس مجرد إعادة لهيكلتها. توصّل الباحثان إلى أن عمليات شطب الديون تراوحت في المتوسط بين 40-50٪ خلال فترة ما بين الحربين الكبريين، وقد نتج عن تلك العمليات ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 20-30٪ في السنوات الخمس التالية على إلغاء الديون !.

ماذا تضمنت اتفاقية لندن؟

كانت العناصر الاقتصادية الرئيسة لإعادة إعمار ألمانيا الغربية هي خطة مارشال، بالإضافة إلى ثلاثة إصلاحات هيكلية: الأول والثاني هما إصلاح العملة عام 1948 واتحاد المدفوعات الأوروبي (1950-1958)، وتمثّل الإصلاح الثالث في بنود اتفاقية لندن للديون التي تم تقديمها بعد اقتناع الحلفاء بوفاء ألمانيا الغربية بشروط الإصلاحين الأوليين.

على الرغم من أن خطة مارشال جمعت مبالغ كبيرة من المساعدات المالية (13 مليار دولار)، كانت المساعدة المالية لألمانيا صغيرة نسبيًا (1.4 مليار دولار) مقارنة بما قدّم إلى المملكة المتحدة وفرنسا بالطبع.

نتج عن اتفاقية لندن ثلاث اتفاقيات هامة هي:

  • تخفيض ديون ما قبل الحرب وبعدها بنسبة كانت تعادل 22٪ من الناتج المحلي الإجمالي الألماني في عام 1952.
  • ربط سداد الديون المتبقية بالنمو الاقتصادي والصادرات في ألمانيا، بحيث لا يمكن أن تتجاوز نسبة خدمة الدين 3٪ من إيرادات الصادرات.
  • التزام الدول الدائنة بإعادة التفاوض على شروط السداد في حال تردّى أوضاع الاقتصاد الألماني، علما بأنه لم يتم اللجوء إلى تلك الاتفاقية، نظرًا للأداء المالي والاقتصادي الجيد لألمانيا في الخمسينات والستينات من القرن الماضي.

منذ أن أزالت اتفاقية لندن للديون احتمالية حدوث تعثّر جديد لألمانيا، استعاد المستثمرون الأجانب الثقة في النظام المالي، مما ساعد على تعزيز النمو الاقتصادي، واستقرار التضخم، وتخفيض تكلفة الاقتراض بشكل ملحوظ.

تختلف ظروف اتفاقية لندن عن وضع الدول المدينة المعاصرة. كان الاقتصاد الألماني ينمو بين عامي 1950 و1952 بمعدل ملحوظ قدره 8٪ سنويًا. ولأن إعادة هيكلة الديون كانت مرتبطة بخطة مارشال، وشكلت جزءًا من مجموعة واسعة من الإجراءات للتعافي الأوروبي، يجب علينا أن ننظر إلى نجاح اتفاقية لندن في سياق إصلاح العملة لعام 1948، وإنشاء اتحاد المدفوعات الأوروبي، ولحجم السكان في ألمانيا (مثلت 15.4٪ من سكان أوروبا الغربية عام 1953 مقابل 2.1٪ للدول المثقلة بالديون حاليا مثل اليونان) فهي دولة أكبر وأهم من أن تسقط، خاصة مع الدور المهم الذي لعبته كحليف للولايات المتحدة في حربها الباردة ضد الاتحاد السوفيتي، والتي امتدت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1989.

وعلى الرغم من أن ألمانيا كانت أكبر متجاوز للديون الأوروبية في القرن العشرين، فإنها تصر بشدة على أن تدفع اليونان والبرتغال وإسبانيا التزاماتها، متناسية أن أوروبا قد بُنيت جزئيًا على إسقاط الديون، حتى لا تدفع الأجيال الجديدة ثمن أخطاء الماضي. 

تجارب تاريخية لنشأة أزمات الديون:

على مر التاريخ تسبب تفاقم الديون، نتيجة توسّع الدول في الإنفاق العام بدون ضوابط، إلى تقويض اقتصادات تلك الدول، وتهديد استقلالها وأمنها القومي إلى أبعد الحدود. ومع ذلك يقدم التاريخ أيضًا حالات عديدة لدول تمكّنت من الخروج من دوامات الديون، وإرساء القواعد لازدهار طويل الأجل.

تظهر دراسة لـ “راينهارت” و”روجوف” لتاريخ العالم منذ عام 1800 أن الاقتصادات التي تتجاوز ديونها الحكومية 90 في المائة من ناتجها المحلي الإجمالي، مع استمرار تلك النسبة لفترة طويلة، قد حققت نموًا اقتصاديًا أبطأ بكثير من الدول الأقل مديونية، فالدول المثقلة بالديون شهدت في الغالب معدلات فائدة حقيقية مرتفعة، واستثمارات رأسمالية منخفضة، وعجزًا متزايدًا عن الاستثمار في البنية التحتية والتعليم.

شهدت الإمبراطورية الرومانية المستقرة ماليا في عهد أغسطس، نموا هائلا في الإنفاق على الإدارة الإمبراطورية والجيش خلال القرن الثالث. لجأ الأباطرة في تلك العصور إلى تمويل احتياجاتهم من خلال التخفيض من قيمة العملة المعدنية، مما أدى إلى حدوث تضخم جامح، تسبب في إضعاف الناتج الزراعي والطبقة الوسطى ونظام الائتمان.. مما تسبب في تراجع الاستقرار السياسي للإمبراطورية وتدهور دفاعاتها الخارجية.

كذلك قامت الإمبراطورية الإسبانية بتمويل مغامرات عسكرية أوروبية غير مستدامة، من خلال فرض ضرائب مرتفعة، والاقتراض المفرط من مصرفيي جنوة وألمانيا، وكانت النتيجة تدهور الصناعة، والمراكز التجارية الحضرية؛ وتراجع الاستثمار في الممرات المائية والجامعات الإسبانية؛ وانهيار ائتمان النظام الملكي؛ فضلا عن تواتر الأزمات المالية من أواخر القرن السادس عشر فصاعدًا؛ والتراجع الجيوسياسي بعد حملة فيليب “أرمادا” الكارثية ضد إنجلترا.

تكرر ذات النمط في فرنسا في القرن الثامن عشر، حيث قام لويس الرابع عشر بتمويل مغامراته الخارجية، ومحكمته الفخمة في فرساي بضرائب متزايدة واقتراض منفلت. أدت تلك السياسات إلى انتكاسة التصنيع في فرنسا، ودمرت الجدارة الائتمانية، وأسفرت عن أزمات مالية حادة انتهت بعنف كارثي وثورات شعبية.

كذلك كانت الصين الاقتصاد الرائد في العالم قبل عام 1800، ولكن الإنفاق المتزايد لأسرة تشينغ على الإدارة الإمبراطورية المترامية الأطراف، أدى إلى ارتفاع الضرائب والاقتراض الأجنبي في القرن التاسع عشر. كانت الأولويات المتنافسة للإنفاق العام تعني أن الصين لن تستثمر بشكل كافٍ في القنوات والري. تم إغلاق أفران الصلب التي كانت تعمل لمدة 800 عام، وفشلت شركات القطاع الخاص الحديثة المحدودة في النهوض بسبب ندرة رأس المال.

وتجدر الإشارة إلى أن المملكة المتحدة كانت أول دولة كبرى تقوّض اقتصادها من خلال الإفراط في الإنفاق على البرامج الاجتماعية، بدلا من الإنفاق على الجيوش والبيروقراطية. ابتداءً من عشرينات القرن الماضي، وخاصة ما بعد الحرب العالمية الثانية، عززت الحكومات البريطانية من الإنفاق على الإسكان العام، والمعاشات، والرعاية الصحية، وأولويات الرعاية الاجتماعية الأخرى. تسبب ذلك في أن استثمارات الدولة في مجالات التعليم والبحث العلمي والبنية الأساسية والصناعة، كانت أقل نسبيا من الدول المماثلة. بالتالي، انخفضت مستويات المعيشة إلى ما دون تلك التي كانت عليها في معظم اقتصادات أوروبا الغربية بحلول السبعينات من القرن الماضي. وقد أدى الركود الاقتصادي إلى إضعاف الجنيه الاسترليني كعملة احتياطي رائدة في الثلاثينيات من القرن الماضي، وأنهته في الخمسينات من القرن ذاته.

يزعم البعض بأن اليابان تعد استثناءً من قاعدة الأثر السلبي للديون، حيث يتجاوز حجم الدين العام بها 240% من ناتجها المحلي الإجمالي، ومع ذلك فهي تؤدي اقتصاديا بشكل ممتاز. لكن الدين الصافي لليابان أقل كثيرا من تلك النسبة، حيث تحتفظ الحكومة بمخزون كبير واستثنائي  من الأصول المالية (على عكس الولايات المتحدة الأمريكية). كذلك تمكّنت اليابان من توفير قنوات للتمويل الذاتي بصورة شبه حصرية، حيث ساعدت معدلات الادخار المحلي المرتفعة على توسّع الحكومة في الاقتراض المحلي. كما اتخذت اليابان خطوات حاسمة للحد من الإنفاق، وتتجه نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي لديها إلى الانخفاض التدريجي. ومع ذلك فإن مستويات المعيشة في دول مثل سنغافورة وتايوان وكوريا الجنوبية إما تجاوزت أو ستتجاوز قريبا المستويات اليابانية التي أسرفت حكوماتها في الاستدانة.

أما إيطاليا فقد حققت نموًا استثنائيًا بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي، لكنها انطلقت بعد ذلك في سبيل الإنفاق المنفلت، وأصبحت واحدة من أكثر دول العالم مديونية. تقدم تجربة إيطاليا دليلًا إضافيًا على أثر مزاحمة القطاع الخاص في التحصيل العلمي، والاستثمار التجاري، والنمو منذ التسعينات، وجميعها من بين أدنى المعدلات في أوروبا.

أمثلة التعافي من الاختناق بالديون:

من حسن الطالع أن التاريخ يقدم أدلة على أن الدول التي تملك مؤسسات سليمة يمكنها تحقيق ما يسميه الاقتصاديون “ضبط أوضاع المالية العامة” أي إيجاد مسارات طويلة الأجل للعودة إلى التمويل المستدام. قام الاقتصادي “ألبرتو أليسينا” بتوثيق العديد من الأمثلة على ضبط أوضاع المالية العامة، والتي يحدث العديد منها بعد الأزمات المالية. وقد وجد “أليسينا” أن أكثر حالات معالجة الديون استدامة، نتجت عادة عن تقييد وضبط الإنفاق العام وليس من الزيادات الضريبية.

من بين القوى العظمى التاريخية، تقدم بريطانيا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر المثال الأكثر دلالة على الضبط المالي. خرجت بريطانيا من حربها الفاشلة في أمريكا وحربها المنتصرة ضد فرنسا النابليونية بمستويات دين غير عادية. لكنها مارست ضبط النفس في الإنفاق، وخفضت المديونية بسرعة بعد كلا الصراعين. ثم حافظت على إجماع سياسي على الانضباط المالي لمدة مائة عام، حتى خلال فترات التوسع الإمبراطوري والإنفاق المتزايد على البرامج الاجتماعية في العصر الفيكتوري.

كذلك نجحت جهود الضبط المالي في كل من السويد والدنمارك وفنلندا، وهي ديمقراطيات غنية سعت إلى تحقيق الرفاهية للسكان، عبر التوسّع في الإنفاق الاجتماعي خلال عقدي السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، مما تسبب في معاناتها من أزمات حادة في بداية التسعينات، حتى توصلت الأحزاب لحاكمة إلى توافق في الآراء بشأن الانضباط المالي، وبدأت عمليات طويلة لتبنّي نمط الرفاهية الخاصة بكل دولة.

فقد نجحت السويد في تخفيض نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 70٪ إلى أقل من 30٪، بينما حققت الدنمارك صافي مديونية صفرية، بعد حساب الأصول الحكومية. يستحوذ ضبط المالية العامة على 80 في المائة من التأييد العام في جميع أنحاء الدول الاسكندنافية اليوم.

كما خفضت كندا نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 64 في المائة في عام 1997 إلى 31 في المائة في عام 2016، ويعكس الإنجاز الذي حققته كندا أيضًا ظهور إجماع سياسي جديد ينحاز إلى الضبط المالي، بعد الركود الاقتصادي الذي ساد في أوائل التسعينات من القرن الماضي.

دروس وعبر التاريخ واضحة، فالدول الكبرى لم تكن لتتقدم في غيبة التمويل بالدين وخاصة الدين الخارجي، الذي يعوّض تراجع الادخار المحلي. لكن الدول التي أفرطت في الإنفاق العام بغير حساب لقدرتها على سداد الديون، التي أسرفت في اقتراضها على حساب أمنها القومي واستقلال قرارها الاقتصادي والسياسي، عادة ما تتعرّض لأزمات اقتصادية عنيفة، يعقبها حركة تصحيح تقوم في الأساس على الضبط المالي بترشيد الإنفاق العام، والتوقف عن مزاحمة القطاع الخاص، والبدء في تحقيق خفض مستمر في نسبة الدين العام (خاصة الخارجي) إلى الناتج المحلي الإجمالي، عبر تخفيض قيمة الدين وليس فقط عبر زيادة قيمة الناتج المحلي. علما بأن جهود الضبط المالي يجب أن يواكبها أو يسبقها إعادة هيكلة لرصيد المديونية، وأن تشتمل إعادة الهيكلة على شطب نسبة كبيرة من المديونية التاريخية، وإلا فلن يكون الضبط المالي مستداما أو ناجحا، وستظل تدفقات رؤوس الأموال تراهن على العجز المزمن للدولة المدينة.

ومن أدوات الضبط المالي استبدال الديون بالأصول المالية، واستبدال الاقتراض بالمشاركة مع القطاع الخاص، سيما وأن معظم ديون الدول النامية تكمن في يد القطاع الخاص، من خلال استحواذه على السندات السيادية وأذون الخزانة. وتراهن مصر على برنامج إصلاحي حديث، قوامه الحد من الديون والضبط المالي، والتوقف عن مزاحمة القطاع الخاص. ويتعين على حكومة مصر أن تجد لنفسها النموذج المالي للإنفاق العام، الذي يحقق نمط التنمية المستدامة الخاص بها.