كيف يمكن للشعب أن يعبر عن إرادته في إطار الدستور والقانون رغم القبضة الحديدية للجمهورية الجديدة من 2014 وما بعدها؟

قبل الجواب أود أن أسجل الخطابين التاليين:

1- الخطاب الأول من القائد العام الفيلد مارشال اللنبي موجه إلى قائد ثورة 1919 الزعيم سعد زغلول بتاريخ 21 ديسمبر 1921، ونص الخطاب كما يلي:

“صاحب المعالي،

أتشرف بأن أخبركم أنه بناءً على تعليمات المارشال القائد العام أبلغ معاليكم الأمر الآتي:

سعد باشا زغلول ممنوع بهذا تحت الأحكام العرفية من إلقاء الخطب، ومن حضور اجتماعات عامة، ومن استقبال وفود، ومن الكتابة إلى الجرائد، ومن الاشتراك في الشؤون السياسية، وعليه أن يغادر القاهرة بلا تأخير، وأن يقيم في مسكنه بالريف، وذلك تحت مراقبة مدير المديرية.

الإمضاء: اللنبي.

2 – الخطاب الثاني هو رد سعد زغلول على الخطاب المذكور أعلاه، بتاريخ 22 ديسمبر 1921، ونصه كما يلي:

جناب الجنرال كلايتون مستشار وزارة الداخلية.

أتشرف بإخباركم أني استلمت خطابكم بتاريخ اليوم، الذي تُبلغني فيه بأمر جناب الفيلد مارشال اللنبي، بمنعي من الاشتغال بالسياسة، وإلزامي بالسفر إلى عزبتي، بلا تأخير، للإقامة بها تحت مراقبة المدير.

وهذا أمر ظالم أحتج عليه بكل قوتي، إذ ليس هناك ما يبرره، وبما أني موكل من قبل الأمة للسعي في استقلالها، فليس لغيرها سلطة تُخليني من القيام بهذا الواجب المقدس، لهذا سأبقى في مركزي مخلصا لواجبي، وللقوة أن تفعل بنا ما تشاء أفرادا وجماعات، فإنا جميعا مُستعدون للقاء ما تأتي به، بجنان ثابت وضمير هادئ، علما أن كل عنف تستعمله ضد مساعينا المشروعة إنما يساعد البلاد على تحقيق أمانيها في الاستقلال التام.

أرجو أن تقبلوا فائق احتراماتي.

الإمضاء: سعد زغلول.

(من ص 32 و33 من كتاب “مصطفى النحاس: مذكرات النفي” تقديم وتحقيق دكتور عماد أبو غازي).

– القبضة الحديدية معناها تحريم السياسة بالقوة، قوة السلطة وقدرتها على القهر والقمع والبطش، وتحريم السياسة معناه مصادرة جملة الحقوق والحريات والواجبات التي باتت من ألف باء حقوق الشعوب في العصر الحديث، عصر ما بعد الثورتين الأمريكية 1776 ثم الفرنسية 1789، وقد دخلت مصر هذا العصر الحديث بالتدريج عند الاحتكاك مع الثورة الفرنسية من خلال حملة نابليون 1798 ثم من خلال البعثات التعليمية إلى أوروبا على مدار القرن التاسع عشر، ثم جرب المصريون انتزاع حرياتهم وحقوقهم بشكل تطبيقي مع فصول الثورة الوطنية ما بين إفلاس مصر 1876 والغزو البريطاني 1882 تحت مسمى الثورة العرابية، ثم كافحوا لأجل حرياتهم العامة على مدى النصف الأول من القرن العشرين، ثم صودرت منهم هذه الحريات -كلها أو بعضها بمقادير متفاوتة- في الفترة من ثورة 23 يوليو 1952 حتى قامت ثورة 25 يناير 2011 تسترد الحريات المفقودة لوقت وجيز، ثم عادت الأمور إلى النقيض تماما بعد قيام الجمهورية الجديدة 2014.

الجمهورية الجديدة رأت أن الاشتغال بالسياسة بما هي وعاء للحريات العامة خطر على الدولة، فحرمت السياسة ليس على الشعب فقط، ولكن على الدولة ذاتها، الدولة لم تعد آلة أو ماكينة سياسية تدير مصالح الشعب من خلال تفاهمات وتوافقات عامة تستمد أصولها من الدستور والقانون، لكن أصبحت مجرد جهاز إدارة بالقوة التحكمية التعسفية، بيروقراطية عسكرية أمنية ضخمة.

في عام 1914 اعتبرت سلطة الاحتلال البريطاني أن دخول بريطانيا طرفا محاربا في الحرب العالمية الأولى يبرر لها أن تفرض الأحكام العرفية، وتجمد نشاط الجمعية التشريعية، وتعطل الصحف، وتوقف نشاط الأحزاب، وتصادر الحريات العامة كافة، وتمنع أي نشاط سياسي، وتعزل الخديو دون إرادة الشعب، وتعين ابن أخيه سلطانا دون إذن من الشعب، وتضع يدها على اقتصاد البلاد ومقدراتها كافة لخدمة أغراضها الحربية دون إذن من الشعب.

ثم في 2014 وما بعدها بدأ المصريون يعيشون حالةً مشابهةً من القهر المحيط بهم من كل الجهات، فقد رأت الجمهورية الجديدة أنها في حالة حرب متعددة المعاني، حرب لاسترداد الدولة والحفاظ عليها، حرب في مواجهة الإرهاب، ثم ما يحلو لها أن تطلق عليه مسمى حروب الجيل الرابع، وهكذا، ثم تحت هذا الغطاء نزعت الجمهورية الجديدة كافة الحريات العامة والحقوق العامة المنصوص عليها في الدستور والتي تمتع بها المصريون عقب ثورة 25 يناير 2011 كما تمتعوا ببعض منها على فترات متقطعة في المائة عام الأخيرة، من إعلان الحماية البريطانية 1914 حتى قيام الجمهورية الجديدة 2014، ثم من 2014 حتى كتابة هذه السطور والمصريون يعيشون عند مستوى الصفر من الحريات، سواء حريات الترشح والانتخاب والتصويت والدعاية والعمل الجماهيري، أو حريات العمل الحزبي والحشد والتعبئة السياسية، أو حريات العمل النقابي وحقوق التظاهر والإضراب، أو حريات الصحافة والكتابة والتعبير والإعلام والتفكير والنشر، أو حريات النشاط الاقتصادي والمبادرات الخاصة وحريات التجارة والتصنيع والمنافسة.

الجمهورية الجديدة فرمت الجميع، وجابت عاليها واطيها، فتساوت الرؤوس، ثم اندفست كل الرؤوس في الرمال أو في الطين، وباستثناء رأس الحاكم العسكري الفرد المطلق فلا قيمة ولا معنى لأي رأس في البلد، لا قيمة ولا معنى ولا حساب لأي مسئول أو وزير في الحكم أو خارج الحكم، لا قيمة ولا معنى ولا حساب لأي شخصية عامة يحترمها الناس ولا لأي رجل أعمال له وزن في السوق ولا لعضو في البرلمان ولا لقيادة حزبية، ولا لأي مخلوق فيك يا مصر، تم تصفير الحريات والحقوق والواجبات العامة، فاستتبع ذلك تصغير كل الرموز والشخصيات العامة، من قَبِل بتصفير الحريات وخنس وسكت صغر نفسه بنفسه في أعين الحكام وأعين الناس، ومن رفض واحتج وأظهر ذلك علنا تمت استضافته في السجون ليعلم قدره وليعلم الناس وزنه وحجمه.

هذه حالة لم تحدث من قبل خلال المائة عام التي سبقت إعلان الجمهورية الجديدة 2014، وحتى تجربة القهر التي أعقبت إعلان الحماية 1914 لم تكن بهذه القسوة والشدة، كانت سلطة الاحتلال تمارس القهر مع الاحتفاظ بالأبواب مواربة دون إحكام الإغلاق على المقهورين، وكذلك دون تعمد الإذلال المهين الذين يحط من كرامة الإنسان في عين نفسه وفي أعين أهله وقومه.

مشكلة الجمهورية الجديدة أنها أسرفت في القهر حتى أيأست المصريين منها فلا ينتظرون منها إلا القهر ومعه الفقر، ولا يكادون يتخيلونها غير ذلك، أصبحت مسألة وجودية تربط بين صورة الجمهورية الجديدة في الذهن والخيال والتصور العام مقترنة بعبوس وجهها وما في يديها من قبضة من حديد ومن قبضة من نار تتوعد وتتهدد، ثم أسرفت في الترويع حتى أيأست المصريين من أنفسهم، يأسوا منها فلا يتعشمون في إصلاح يأتي عن طريقها، ثم يأسوا من أنفسهم بحيث لا يتعشمون في قدرتهم على الوقوف أمامها أو مساءلتها عن حقوقهم أو مطالبتها بحرياتهم، هذه حالة من اليأس المكتمل الحلقات، يأسه لا يأتيه الأمل من أي جانب، فلا أمل في الحكم وقد اعتاد القهر، ولا أمل في الشعب وقد سكتت خاصته وعامته معا بعدما اكتظت السجون من النخب والعوام على مدى ما يقرب من عشر سنوات. مشكلة الجمهورية الجديدة أنها تركت عند كل مصري إحساسا يقينيا مؤكدا لا شك فيه أنه مغلول اليدين، مكبل القدمين، مكمم الشفتين، صفر الحول، صفر القوة، صفر الحق، صفر الحرية، وإذا اجتمع مع كل ذلك إفقار لا يتوقف، فمعناه أن المواطن لم يعد لديه ما يخاف فقده.

السؤال: هل هذه هي نهاية التاريخ؟.

الجواب: نحن أمام بداية جديدة للتاريخ.

هكذا درس التاريخ، فالقهر الأول 1914 وما أعقبه من قنوط ويأس لم يكن نهاية التاريخ، العكس هو الصحيح، كان بداية لتاريخ جديد، لم يوقفه القهر عن البزوغ ولم يحجبه اليأس عن الطلوع، بدأ التاريخ بعد يومين فقط من توقف مدافع الحرب العالمية الأولى، ففي 11 نوفمبر 1918 توقفت الحرب، ثم في 13 نوفمبر 1918 كان سعد زغلول ومعه علي شعراوي وعبدالعزيز فهمي في مواجهة سير رينجالد وينجت المعتمد البريطاني يقولون له: هذه الحرب قد توقفت، فلا مبرر لكم في كل هذا القهر، كما لا مبرر لكم في استمرار الاحتلال، نحن -المصريين- نريد الحرية في بلدنا، كما نريد التحرر منكم والاستقلال عنكم. ثم في غضون عشرة أيام فقط، كان قد تشكل الوفد المصري، وجمعت له الأمة التوكيلات التي تمنحه شرعية الحديث عنها وتمثيلها أمام سلطة الاحتلال وأمام العالم.

كانت مساعي المصريين سلمية وتفاوضية وقانونية، غير أن ذلك لم يجد أذنا صاغية لدى سلطات الاحتلال، فاستدعت سعد زغلول ورفاقه يوم 6 مارس ووجهت لهم الإنذار بالتوقف عن مساعيهم، ثم ألقت عليهم القبض في اليوم الثاني، ثم عاقبتهم بالنفي خارج مصر في اليوم الثالث، فاندلعت ثورة لم تكن في حسبان أي مخلوق، اندلعت في خلال 24 ساعة، اندلعت في مصر من أقصاها إلى أقصاها، اندلعت شعلة من نار طال احتباسه في الصدور والقلوب، اندلعت فخرج المارد العملاق من القمقم، اندلعت فارتجت الإمبراطورية العاتية التي لم تكن تغيب عنها الشمس، اندلعت فشهد التاريخ لحظة ميلاد مجيدة للشعب المصري الجديد، ولد الشعب من رحم يأسه وقنوطه، ولد عملاقا فحطم أغلاله وكسر قيوده وأطلق خياله مع ريح الحق يدور معها حيث دارت، خرج المصريون من دائرة القهر إلى دائرة القوة، خرجوا من الحبس إلى الكفاح العنيد من أجل الحرية. وبتعبير المؤرخ طارق البشري في ص 77 من كتابه “دراسات في الديمقراطية” يقول: “عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى الأولى قامت ثورة 1919، كانت باكورة ثورات الشعوب المستعمرة بعد الحرب، امتدت موجتها فشملت مصر كلها حتى بلغت أعماق الريف، وأظهر الشعب المصري بها كيف يكون ثائرا موحدا مصمما عنيفا على خصومه. ثم يقول: “هزت الثورة كل قوائم الاستبداد والاستعمار في مصر، وكانت بداية النهاية لكافة النظم الاجتماعية والسياسية الرجعية، وامتد ظلها على الفترة اللاحقة إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث الجماهير تصارع لتحقيق أهدافها، وحيث الرجعية تجاهد لطمس آثارها وتبديد شبحها المؤرق، ثم أصبحت من ذكريات الماضي البطولي للشعب المصري”. انتهى الاقتباس من البشري.

وإذ نستدعي خبرة المصريين في كيف قاوموا قهر ما بعد 1914 حتى نفهم مصير ومآل قهر ما بعد 2014، يلزم أن نتوقف عند محطتين هامتين:

– أولاهما محطة اليأس والقنوط، كيف تتشكل في التاريخ الواقعي المعيش، ثم كيف تحتوي الشعب كله، وكيف تنشر الظلام في روحه وضميره وعقله وقلبه، ثم كيف تفقده وعيه بذاته وثقته في نفسه، ثم كيف توهن من عزيمته أمام سطوة قاهريه وجلاديه؟

-وآخرهما محطة القارعة أو يوم القيامة- بتعبير سعد زغلول وعباس العقاد – كيف تنضج الظروف، وتتجمع الشروط، وتتهيأ اللحظة الموعودة، فترى الشعب بأكمله يهب صاحيا من كهوفه ومراقده، وكيف ينبعث من تحت الرماد ومن ثنايا الظلام، وكيف يدب بقدميه فوق الأرض فيحطم أغلاله ويقف في وجه ظالميه يقاومهم ويكافحهم بكل ما يستطيع، حلت الشجاعة مكان الخوف، وحلت الإرادة مكان الخور، وحلت العزيمة مكان الهزيمة.

– كل قهر طويل المدى يعقبه يأس عميق، وكل يأس عميق يعقبه زلزال شديد.

وفي السطور التالية نتناول بإيجاز القصتين معا، قصة اليأس، ثم قصة القارعة، قصة تكبيل الشعب بقسوة ثم قصة تحطيم الأغلال بقوة.

1- قصة اليأس: قبل الثورة بعام واحد فقط، كانت مصر يحيطها الظلام من خارجها ومن داخلها، الاحتلال يذيقها الهوان، وهي في حالة ضعف وخذلان، السلطان نفسه بلا قيمة، والنخب السياسية والفكرية بلاقيمة، والشعب في حال من التحلل والتعفن والتفكك لا يُرجى له منها قيام ولا شفاء.

أ – ولتكن البداية من ضعف السلطان ذاته ويأسه بعد أن تركه الإنجليز بدون أي سلطة إلا سد خانة أن البلد لها سلطان، سلطان بلا سلطة، السلطة في يد الاحتلال، يقول سعد باشا زغلول في ص 133 من الجزء الثامن من مذكراته عن يوم 20 مارس 1918: “قال لي إسماعيل صدقي إن عظمة السلطان -يقصد السلطان ثم الملك أحمد فؤاد الأول- في أشد حالات الحيرة، لأنه مملوء بالإحساسات الصادقة، ويود أن يرى شعبه رافلا في حلل التقدم والسعادة، لكنه لا يجد مُعينا، لا من أمته، ولا من وزرائه، فلا يزوره وزير من الوزراء، ولا يعرضه عليه أي وزير أمرا يختص بوزارته، ومجلس الوزراء لا يعرض على السلطان أمرا إلا بعد عرضه على الإنجليز والاتفاق معهم عليه، ولقد بلغ الأمر من رئيس الوزراء حسين رشدي أن عرض أمر تسعير القطن على السلطان باللغة الانجليزية التي لا يفهمها السلطان”. ثم يقول سعد زغلول إنه رد على هذا القول من إسماعيل صدقي فقال: “إنه ليس من فائدتنا أن يبقى الأمير منعزلا عن أمته، وأن تبقى أمته منعزلة عنه، واليوم كلنا عاجزون عن العمل -يقصد السلطان والشعب معا- ولكن من يعلم ما يأتي به المستقبل؟”. ثم يذكر سعد زغلول أن إسماعيل صدقي ختم بالقول “هذه هو المطلوب الآن، فإذا أقبلت الأمة على أميرها، وأكثر العقلاء من أفرادها الاجتماع به، وعرفهم وعرفوه، كان في ذلك خير للجميع”.

ثم في ص 136 من مذكراته عن يوم 21 مارس 1918 يقص سعد زغلول لقاءه مع السلطان بنفسه فيقول: “تقابلت اليوم مع عظمة السلطان، حيث استدعاني اليوم الساعة 11 صباحا، فلقيني بكل بشاشة وإكرام، ثم شرع يشكو من الأحوال عموما ومن الوزراء خصوصا. وقال إن الوزراء يتجنبونه، ولا يعرضون عليه شيئا من أعمالهم، ويسألهم السلطان عن ماذا يصنعون؟ فلا يقولون له شيئا، وفي المسائل الهامة يعرضونها عليه بعد الاتفاق عليها مع الانجليز، كما حصل في مسألة احتكار القطن، وقال السلطان أن أكثر الوزراء يرشحون أنفسهم لرئاسة مجلس الوزراء لكن الإنكليز يعلمون كل أحوالهم ويحتقرونهم غاية الاحتقار.

وفي ص 73 من مذكراته عن يوم 25 ديسمبر 1917 يسجل سعد زغلول في مقابلة مع السلطان عجزه عن أن تكون له كلمة في تعيين وتغيير الوزراء وأن مرد الأمر إلى الاحتلال لا إلى سلطان البلاد، يقول سعد زغلول “عُدتُ إلى سراي عابدين لكتابة اسمي في سجل التشريفات، ولما علم بي عظمة السلطان، وبأني قد كتبت اسمي، دعاني إليه، وتلطف في المقابلة، وقال السلطان: لقد تكلمت مع ونجت طويلا -ريجنالد وينجت المعتمد البريطاني- في حقوقي بالنسبة إلى تعيين الوزراء، وهي الحقوق التي كانت للخديو -يقصد الخديو عباس حلمي الثاني- ثم هي الحقوق التي كانت لأخي المرحوم -يقصد شقيقه وسلفه السلطان حسين كامل- فقال وينجت إن الحماية من شأنها ألا تُبقي تلك الحقوق على حالها، وقلتُ له: إني لا أقبل أدنى تغيير فيها وأريد أن أخدم بلادي بكل ما أوتيت من قوة وحق”. انتهى الاقتباس. والمعنى منها وفيها واضح أشد الوضوح، سلطان البلاد منزوع كافة الحقوق والصلاحيات وليس له من السلطة غير اللقب والتشريفات فقط.

ب – ثم عن يأس النخب السياسية والفكرية، وفي ذك الوقت كان رجال السياسة في عمومهم من المفكرين والمثقفين وذوي التعليم الرفيع، يقول في ص 88 من مذكراته عن يوم 30 يناير 1918: ” دُعيتُ لوليمة أمس عند محمد باشا محمود، ولم يكن فيها غير شعراوي باشا، ولطفي السيد، وعبد العزيز فهمي، ومضينا أغلب الوقت في حديث أهمه كان يختص بحالة مصر ومصيرها، وقد أبدى عبد العزيز فهمي اليأس من صلاحها، واتفق الحاضرون على صعوبة شأنها، ولكنهم لم يقطعوا العشم الذي قطعه عبد العزيز، يقصد لم يبلغ منهم اليأس من الإصلاح مثلما بلغ من نفس عبد العزيز فهمي، وانصرفنا ونفسي غير منشرحة، لأني شعرت أن روح التضامن لم تكن قويةً فينا، وأن حب الذات له سلطان علينا”.

ثم يذكر سعد زغلول في مواضع مختلفة وكثيرة ومتكررة من مذكراته عن العام السابق على الثورة، كيف كانت النخبة رفيعة المستوى الأدبي والمادي والمهتمة بالقضية الوطنية، كيف كانت غارقة في اليأس، وكيف ذهب بهم اليأس إلى صالات لعب القمار، وكيف كان هو -شخصيا- يشعر من نفسه بالخجل والوضاعة من جراء ضعف نفسه وهزالها وعدم صلابتها وسقوطها في مستنقع هذه الرذيلة، يكاد الجزء الثامن من المذكرات الذي يتناول أوضاع البلاد قبل عام من الثورة أن يكون سجلا صادقا وأمينا لأحوال النخب الوطنية عندما تيأس وتقنط وتسلم نفسها للمقادير دون مقاومة ودون احتجاج يشرف النفس ويطهرها. لدرجة أنه يحكي أنه في ليلة واحدة خسر سعد زغلول 227 جنيها، كما خسر رئيس الوزراء حسين رشدي 500 جنيه، كما ورد في ص 102، وفي كثير من الصفحات يوبخ نفسه ويلومها ويعنفها بقسوة ويتوجه إلى الله بدعاء طويل وقنوت خاشع لعله يأخذ بيده وينقذه من هذا الهلاك الروحي والمادي والأدبي الضار بمركزه في المجتمع والمؤذي لصورته في عين نفسه.

ثم يتحدث عن بعض نماذج النخبة المستعدين لخدمة الاحتلال دون قيد ولا شرط، ففي ص 82 من مذكراته عن أول يناير 1918 حتى العاشر من الشهر ذاته، فهو يذكر أحد الباشوات بالاسم عينه الإنجليز في منصب كبير، ثم يعقب بالقول “إن السبب في تعيينه أن الإنجليز تأكدوا أنه من الذين لا يهتمون إلا بمصالح أنفسهم، وسواء عليهم خربت البلاد أو عمرت، ثم يقول “وإذا صدق حدسي، فإن لهذا الرجل مستقبلا كبيرا، إذا طال زمن الحماية في هذه البلاد، لأن فيه كل الصفات التي تناسب حكومتها”.

ج – ثم يتحدث عن دواعي اليأس بين عامة الشعب وما هو عليه من تشرزم وتبعثر وانقسام فيقول في ص 105 من مذكراته عن يوم 28 فبراير 1918: “لقد أصبحت مملوءا من اليأس من صلاح حالنا، فقد عم الفساد بيننا وطم، حتى أنك لا تجد شقيقين متفقين، ولا صديقين مخلصين، ولا متجاورين متحابين، ولا قريبين متحدين، بل كل يشكو من كل، ولا يمكن أن يكون المجموع كاملا وأفراده ناقصون”.

2 – قصة القارعة: بعد هذا اليأس والضعف والهوان الذي ارتسمت ملامحه على ملامح الأيام طوال عام 1918، نرى مصر أخرى مع مطلع الربيع من مارس 1919، فبعد أن بادرت النخبة الوطنية وتحركت في نوفمبر 1918، لم يمر أكثر من ثمانين يوما حتى كانت ثورة المصريين في 9 مارس بعد يوم واحد من نفي الزعيم سعد زغلول تملأ أخبارها العالم كله، أعظم ثورة أعقبت الحرب العظمى الأولى، هذه الثورة التي وصفها سعد زغلول من منفاه بأنها “القارعة”.

يقول في ص 71 وما بعدها عن يوم 2 إبريل 1919 من الجزء التاسع من المذكرات وهو في المنفى: “أخبار ما حصل من المظاهرات بعد قيامنا ومن أجل إبعادنا، ملأت قلوبنا سرورا وابتهاجا، حتى كادت تُحبب السجن إلينا، وأفعمتنا شكرا لأمتنا، وهانت علينا نفوسنا نفدي بها هذه البلاد “ثم يتأسف حزنا على أرواح شهداء الثورة فيقول: “نعم، مازج هذا السرور كثير من الأسف على النفوس التي أزهقت، وعلى الدماء التي أهرقت”. ثم يتساءل: “ولكن أي مجد قام بغير هذه الضحايا؟ وأي أمة بلغت مناها بغير أن يخاطر أبناؤها بأعز ما لديهم؟.

ثم يقول: “ولقد توهم حزب الاستعمار أنه سيبتلع مصر بمجرد أن يُبعد بعض أبنائها من بلادهم -يقصد نفيه هو وزملاءه إلى خارج البلاد- ولكن ساء ما توهم، فإن البلاد من أقصاها إلى أقصاها تطلب الاستقلال، ولا تحمل للطامعين فيها إلا كل حقد وضغينة”. ثم يقول: “ومهما كانت من طبيعة الحوادث التي حصلت في مصر بعد قيامنا، يقصد بعد نفيه، فإنها جاءت قارعة شديدة فوق ما كان يقدر المقدرون، وعكست القصد على حزب الاستعمار، فألفتت -أي لفتت انتباه- العالم كله إلى أن هناك أمة مظلومة تطلب الإنصاف”.

ونجد تفسير وشرح معنى القارعة كما يقصده سعد باشا زغلول في ص 221 وما بعدها من كتاب عباس العقاد “سعد زغلول: سيرة وتحية” في فصل عنوانه “القارعة”، يقول العقاد: “لا بد لنا من قارعة، تلك هي الكلمة التي كان يرددها سعد في الأسبوعين الأخيرين قبل نفيه، لأنه كان يرى أن السكوت يتبعه سكوت، وأن الحركة تتبعها حركة، ولم يكن جازما أن الثورة آتية بعد القارعة التي كان يتصدى لها ويستبطئ وقوعها، لأن المعسكرات – يقصد معسكرات الانجليز والقلاع والمطارات في مصر كانت تعج بالجيوش وتزدحم بالمدافع والدبابات والطائرات، والمصريون مجردون من كل سلاح حتى الهراوات والمُدى وبنادق الصيد، والخطب ممنوعة، والصحف مراقبة، والذهاب والإياب بمرصد من الجواسيس والعيون، فإذا تعذرت الثورة على المصريين فغير عجيب أن تتعذر، وغير لزام أن تثور أمة في هذه القيود، وهي لا ترجو بالثورة العزلاء أن تغلب الغالبين المزودين بكل سلاح.

ثم يقول العقاد: “لم يكن -يقصد سعد زغلول- جازما بأن الثورة آتية، ولكنه كان جازما بأنها إذا أتت فلن يكون مجيئها إلا بقارعة تشعل نيران الغضب في الأمة الوادعة المتحفزة، وفي وسعه هو أن يتصدى للقارعة المرجوة المرهوبة، فليتصدى إذن لها، وليعمل ما في وسعه، وعلى المقادير بقية التدبير”.

ثم يقول العقاد: “وعندنا، أن سعدا لو كان جازما بالثورة جزما لا تردد فيه، لكانت بطولته دون هذه البطولة ونصيبه من الإقدام دون هذا النصيب، لأنه يُقدم ولا يخشى الخطر الذي يُقدم عليه، ويجازف ويعلم أن غضب الثورة يحميه. أما أن يُقدم وهو لا يُبالي أن يستهدف للنكال دون أن يتبعه أحد أو يقفو ضربته ضارب فتلك هي البطولة العليا، لأنها بطولة الواجب، وهي أعلى وأقوم من بطولة الحساب والتقدير”. انتهى الاقتباس من العقاد.

***

الرحلة من القهر إلى التحرر، ومن اليأس إلى القارعة، ومن الرضوخ للقيود إلى تحطيم الأغلال، لم تكن مجرد انتقال مباغت قدري مفاجئ من وضع مهين مذل للمصريين جميعا إلى وضع فيه حرية وشرف وعزة وكرامة، لم يتم التحول بعصا سحرية ولم ينفلق بحر الظلم والاستبداد بعصا موسى، لكن كانت هناك عملية تاريخية لأمرين: تجميع القدرات المتاحة للمصريين حتى يتمكنوا من رفع رؤوسهم في وجه طغيان سلطة الاحتلال، ثم بناء وتجهيز ما ليس متوفرا من هذه القدرات، بين هزيمة العرابيين 1882 واندلاع الثورة المجيدة في 9 مارس 1919 كافحت أجيال من المصريين لبناء القدرات الوطنية سواء مادية أو أدبية وسواء فكرية أو اجتماعية وسواء ثقافية أو علمية، بين التاريخين خاض المصريون كفاحا شريفا مكنهم في اللحظة المناسبة من إضاءة التاريخ بثورة كانت ومازالت ذروة الاستنارة في مسيرتنا الحديثة.

الطغيان يقود إلى اليأس ثم فرط اليأس يقود إلى تحطيم الأغلال،

لكن بشرط امتلاك القدرات وبناء الإمكانات،

ثم الرهان على نضج الوقت وتهيؤ الظروف دون استعجال.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى.