خلال أيام، تزور بعثة صندوق النقد الدولي مصر، في أول مراجعة لبرنامج التمويل الجديد بين الطرفين، الذي حصلت بموجبه القاهرة على 347 مليون دولار كشريحة أولى من بين 9 شرائح تمويلية، تستمر حتى نهاية 2026، بقيمة إجمالية قدرها 3 مليارات دولار.
يُفترض أن تحصل مصر على الشريحة الثانية من قرص صندوق النقد بقيمة 247 مليون دولار، حال اجتيازها المراجعة الأولى لما تم تحقيقه من تعهدات الحكومة أو إصلاحاتها. وقد تضمنت سعر صرف مرن للجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، وتخفيض سيطرة الدولة ومؤسساتها على الاقتصاد، بطرح مجموعة من الشركات الحكومية في البورصة أو لمستثمرين “مستثمر استراتيجي”.
تدور تساؤلات حول المطلوب من الحكومة قبل الحصول على باقي الشرائح التمويلية المتبقية، وما نفذته من بنود الصندوق السبعة. وهي: تحرير سعر الصرف، وسعر فائدة واحد، وضبط مالي لإدارة الديون وتخفيض نسبتها للناتج المحلي، وسد فجوة التمويل، وتخارج الحكومة ومؤسساتها من المشاريع الاقتصادية، وفتح مساحة أكبر للخصخصة وتنشيط القطاع الخاص، وتبني سياسة نقدية متشددة لخفض التضخم.
اقرأ أيضًا: ماذا تخبرنا قطع “البانيه” و”الملابس الداخلية” عن التضخم في مصر؟
من المقرر أن تحسم البعثة مصير الشريحة الثانية، خلال أيام فقط، نظرًا لانعقاد اجتماعات الربيع لعام 2023 لصندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي في الفترة من يوم الاثنين 10 إبريل/ نيسان حتى يوم الأحد 16 من الشهر ذاته، في مقر الصندوق ومجموعة البنك الدولي في واشنطن.
سعر الصرف.. ماذا في الطريق؟
سمح البنك المركزي، في إطار الاتفاق مع الصندوق، بسعر صرف مرن للجنيه؛ ليهبط إلى مستوى 30 جنيهًا للدولار الواحد. لكن لا تزال توقعات بنوك الاستثمار تدور في فلك المزيد من التخفيض، ليس فقط من أجل الصندوق. ولكن لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر، خاصة من دول الخليج العربي.
تريد دول الخليج قبل ضخ استثمارات جديدة بمصر حاليًا التأكد من جدية مصر في تنفيذ الإصلاحات التي وعدت بها صندوق النقد الدولي. وفي مقدمتها سعر الصرف. ذلك من أجل ضمان الحصول على عائد من الاستثمارات التي سيتم ضخها دون تأثير مستقبلي بتقلب سعر الصرف، بحسب مصادر غربية، قالت نصًا إن دول الخليج تلعب “لعبة صعبة” مع مصر.
توقع بنك سوستيه جنرال تخفيضًا جديدًا بقيمة الجنيه، الذي يحتل المرتبة الخامسة كأسوأ العملات أداًء، لينهي الربع الحالي (يناير/ كانون الثاني ـ مارس/ آذار 2023)، دون مستوياته الحالية، بنحو 10%، ليبلغ مستوى 34 جنيهًا.
تربط كارلا سليم، خبيرة اقتصادية ببنك تشارتد ستاندرد، مصير الجنيه بتوافر الأموال الساخنة، التي حال تأخرها قد تدفع الجنيه للهبوط مقابل الدولار، إلى مستويات تتراوح بين 33 و35 جنيهًا، لتحفيز الاستثمارات الخليجية للدخول، وإعادة الأموال الساخنة من جديد للاقتصاد المصري.
لكن الدكتور أحمد العطيفي، محلل أسواق المال، له رأي آخر. إذ يرى أن الاعتماد على أدوات الدين والاستثمارات الأجنبية الساخنة في زيادة الاحتياطي النقدي معالجة خطأ بخطأـ وتخفيض الجنيه لجذب استثمارات ساخنة -وليس استثمار مباشر- هو خطأ أكبر.
حينما خفض البنك المركزي سعر صرف الجنيه في 4 يناير/ كانون الثاني الماضي، تحدث البنك المركزي عن دخول أموال ساخنة بقيمة 950 مليون دولار. لكنه لم يعلن بعدها عن حجم الأموال التي دخلت الاقتصاد كأحد انعكاسات تراجع قيمة العملة، ومشكلة تلك الأموال الساخنة في خروجها السريع بحثًا عن المكاسب مثلما حدث منذ ديسمبر/ كانون الأول 2022، حينما خرج 22 مليار دولار من مصر لهثا وراء رفع الفائدة الأمريكية.
سياسة نقدية.. تشددية
تخفيض سعر صرف الجنيه من شأنه أن يلقي بظلال على التضخم. وهي إحدى السياسات المزدوجة التي لا يتناولها صندوق النقد الدولي. إذ يطالب بأمرين متناقضين في الوقت ذاته؛ تحرير سعر الصرف (الذي يرفع أسعار المنتجات المستوردة)، وضبط التضخم عبر سياسة نقدية “تشددية” تتضمن رفع الفائدة لاستهداف السيولة.
وقد حذرت المدير العام للصندوق، كريستالينا جورجيفا، حذرت على هامش اجتماعات وزراء مالية ومحافظيّ الدول الأعضاء بمجموعة العشرين، أخيرًا، البنوك المركزية العالمية من تخفيف وتيرة العمل بإحكام للسيطرة على معدلات التضخم المرتفعة حاليًا، وتراجعها للمعدل المستهدف لعودة استقرار الأسعار.
وسجل المعدل السنوي للتضخم العام بمصر 25.8% في يناير/ كانون الثاني الماضي. ذلك مقابل 21.3% في ديسمبر/ كانون الأول 2022، بحسب الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء. بينما بلغ المعدل السنوي للتضخم الأساسي، الذي يعده البنك المركزي 31.2%، مقابل 24.4% في الفترة المقارنة.
وقررت لجنة السياسة النقديـة للبنك المركزي، في اجتماعهـا الأخير، الإبقاء على سعري عائد الإيداع والإقراض لليلة واحدة وسعر العملية الرئيسية للبنك المركزي عند مستوى 16.25%، و17.25%، و16.75% على الترتيب. كما تم الإبقاء على سعر الائتمان والخصم عند مستوى 16.75%.
تثبيت الفائدة -حينها- خالف توقعات الخبراء الذين رجحوا أن تستمر السياسة النقدية المصرية في تبني منحى “حاسم ومتشدد” وفقًا للالتزامات أمام صندوق النقد الدولي. وأكدوا أن أسعار الفائدة الحقيقية سلبية (الفائدة الحقيقة هي سعر الفائدة المعلنة من قبل البنك المركزي، مطروحًا منه معدل التضخم).
تعقد لجنة السياسة النقدية، اجتماعًا في 30 مارس/ آذار المقبل، لحسم ملف الفائدة وسط توقعات برفعها بنحو 100 نقطة أساس (1%) لتسجل معدلات الإيداع 17.25% والإقراض 18.25%، بعد سلسلة من عمليات الرفع العام الماضي بنحو 800 نقطة من 8.25%، و9.25%، و8.75% للإيداع والإقراض والعملية الرئيسية بالبنك المركزي، على الترتيب إلى 16.25% و17.25% و16.75%.
الكلفة الاجتماعية
سارة سعدون، باحثة أولى بالفقر وعدم المساواة في “هيومن رايتس ووتش”، تقول إن غلاء الأسعار جعل ملايين المصريين يكافحون للحصول على الغذاء وباقي حقوقهم الاقتصادية. ذلك رغم أن توسيع برنامج المساعدات عبر التحويلات النقدية في إطار برنامج صندوق النقد الدولي الجديد خطوة إيجابية. لكنها غير كافية لحماية الناس من التكاليف المتصاعدة التي يفاقمها البرنامج”.
تحاول الحكومة في المقابل تخفيف الضغط الاقتصادي على القطاعات الفقيرة عبر برنامجَي “تكافل وكرامة” الجديدين للتحويلات النقدية واللذين يوفران الدعم للعائلات التي لديها أطفال ومسنون، وذوي إعاقة، وذلك عبر توسعة البرنامجين مع حلول نهاية يناير 2023. يتضمن البرنامج أيضًا هدفًا لزيادة الحد الأدنى للإنفاق الاجتماعي، والمحدد بميزانيتَي وزارتَي الصحة والتضامن الاجتماعي، ليصبح 153 مليار جنيه في 24 يناير 2023، مقارنةً بـ115 مليار (7.3 مليار دولار في أول فبراير 2022) في العام السابق.
اقرأ أيضًا: قراءة في ورقة بحثية عن الدعم.. من يرسم سياسات الحماية الاجتماعية في مصر؟
لكن سعدون ترى أن الحد الأدنى للإنفاق الاجتماعي المتزايد يبدو في قرض صندوق النقد الدولي الجديد رائعًا على الورق، لكن هذه الزيادة في الحقيقة تم تفرّيغها من محتواها بسبب انخفاض قيمة العملة، وكان ينبغي لصندوق النقد ومصر تعديل الحد الأدنى للإنفاق لضمان أن يكون كافيا لحماية حقوق الناس.
ويحذر معهد الشرق الأوسط بواشنطن أيضًا من تلك النقطة إذ يشير لرد الفعل الاجتماعي المحتمل إذا استمرت نفقات المعيشة لغالبية المصريين في الارتفاع، ويشير إلى نكات تداولها المصريون على وسائل التواصل الاجتماعي ونشروا نكاتًا وانطباعات ساخرة عن قيمة الجنيه أمام السلع الأساسية.
بحسب المعهد، فإن فقراء مصر ليسوا وحدهم الذين اشتكوا من عدم قدرتهم على تغطية نفقاتهم واضطروا إلى تغيير عاداتهم الغذائية للتعامل مع ارتفاع الأسعار – كما أن المصريين من الطبقة المتوسطة والعليا يبدون مثل تلك المشاعر.
أسعار الوقود
من بين الشروط التي يفترض أن تلتزم الحكومة المصرية بتنفيذها ربط أسعار المنتجات البترولية بالأسعار العالمية. خاصة وأن الصندوق يرى أن آلية التسعير التلقائي التي تطبقها الحكومة لم تتواز مع الارتفاعات التي شهدتها أسعار النفط عالميًا خلال العام المالي الماضي.
كان يفترض انعقاد لجنة التسعير التلقائي لإعلان أسعار البنزين الجديدة للربع الأول من 2023 (يناير – مارس). لكن جميع التوقعات تدور في اتجاه صدور قرار يراعي البعد الاجتماعي للمواطن وعدم تحميل موازنة الدولة أعباء إضافية بتثبيت أسعار الوقود وعدم رفعها حتى لو كانت تلك النقطة أحد عناصر الاتفاق مع صندوق النقد.
الدكتور شريف المصري، رئيس النقابة المستقلة للعاملين بمكتبة الإسكندرية، يحذر هو الآخر من عواقب روشتة الصندوق السلبية على مستوى التنمية البشرية في العديد من البلدان العربية ـ ومن بينها مصر ــ التي تشكو من نقص كبير في الطاقات البشرية المتوفرة من مدرسين وأطباء وممرضين وعاملين في الحقل الاجتماعي.
يحذر المصري من تراجع القدرة الشرائية للعاملين في القطاع العام، خاصة في القطاعات الاجتماعية الحيوية، مما أدى إلى زيادة ظاهرة الغياب عن العمل وتنامي العمل في القطاع غير الرسمي وتفاقم هجرة العقول والكفاءات إلى الخارج، وسيؤدي كل هذا إلى تراجع ملحوظ في الخدمات العمومية المقدمة، خاصة في الأحياء الشعبية بالمدن وفي القرى.
تخارج الحكومة.. ماذا بعد 32 شركة؟
من بين الملفات التي ستراجعها بعثة صندوق النقد الدولي برنامج تقليص دور الدولة في الاقتصاد، وما يسمى بـ”مزاحمتها” للقطاع الخاص. فخطاب النوايا الذي سلمته الحكومة المصرية إلى صندوق النقد الدولي والمرفق باتفاقية القرض في الواقع يتضمن أن “الحكومة المصرية ملتزمة بإدارة تنفيذ مشروعات الاستثمار العام بما يحقق الانسجام مع الاقتصاد الكلي”. وسيتم إبطاء الإنفاق على المشاريع العامة، بما في ذلك المشاريع الوطنية.
قررت الحكومة طرح 32 شركة مملوكة للدولة في البورصة أو لمستثمر استراتيجي على مدار عام. وتشمل 18 قطاعا ونشاطا اقتصاديا. بينما 25% من تلك الشركات سيتم الانتهاء منه خلال 6 أشهر. وتتضمن الشركات المطروحة شركات بمجال الكهرباء والتأمين، بجانب بنوك مثل القاهرة، والمصرف المتحد، والبنك العربى الإفريقى الدولى.
وتخطط الدولة المصرية لجمع 6 مليارات دولار ببيع حصص بالشركات المملوكة للدولة ضمن برنامج الطروحات الحكومية، مع إتاحة أصول أخرى بقيمة 40 مليار دولار للشراكة مع القطاع الخاص (المحلي أو الأجنبي) خلال الأربع سنوات المقبلة، لرفع معدلات مشاركة القطاع الخاص في إجمالي الاستثمارات إلى 65٪.
ويقول أحمد العطيفي إن أفضل طريق هو المشاركة مع الأجانب وليس البيع. فالمشاركة بزيادة رأس المال مصلحة لكل الأطراف. وهي تجربة المغرب حاليًا في جذب أكبر المصانع عالميًا.
ويضيف “العطيفي” أن الحل يكمن أيضًا في حوافز للاستثمارات الأجنبية المباشرة وأهمها إعفاءات ضريبية لفترة ٥ سنوات، بشرط أن تكون العمالة مصرية، وإعادة ضح نصف الأرباح على الأقل بتوسعات داخل مصر، وليس تحويل الأرباح كلها للخارج. وهو يرى أن الاستثمار بأدوات الدين للأجانب يجب وضع قيود له لأن سلبياته واضحة، وهي أكثر من مزاياه خاصة في طبيعة الاقتصاد المصري، فليس كل التجارب التي نجحت بدول ممكن تعميمها على أخرى.
سعر فائدة واحد
نقل البنك المركزي المصري تبعية الكثير من مبادرات التمويل منخفضة العائد (8%) لجهات حكومية معنية، كجزء من شروط صندوق النقد الدولي لتوحيد الدعم. وأصبحت وزارات الإسكان والمالية والسياحة مسئولة عن التمويل بأسعار الفائدة المدعومة لمشروعات السياحة والإسكان. فيما جرى تكليف وزارة المالية بمتابعة المبادرات ذات الفائدة المنخفضة واتخاذ القرارات وتحديد الضوابط المتعلقة بالمبادرات، والمستفيدين والتكاليف، والجدول الزمني وغيرها.
كما حظر قرار لمجلس الوزراء مستقبلًا على جميع الجهات أو الهيئات، بما في ذلك البنك المركزي، إعداد أو صياغة أو تمويل أي مبادرة جديدة أو تعديل أي مبادرة قائمة يترتب عليها أعباء مالية مباشرة أو غير مباشرة على الخزانة العامة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء بناء على دراسة تعدها وزارة المالية.
كما تعهدت الحكومة المصرية بتحقيق فائض أولي قدره 1.7% خلال العام المالي الجاري 2023 – 2022. وهو أعلى قليلًا من الفائض البالغ 1.6% الذي كانت تستهدفها الحكومة في البداية، بالإضافة إلى تحسين عجز الحساب الجاري إلى 2% على المدى المتوسط، وتضمنت التعهدات التزام الحكومة بتعديل ضريبة الدمغة وتبسيط ضريبة القيمة المضافة.
الحلول الواجبة
الخبيرة الاقتصادية الدكتورة عالية المهدي، تقول إن صندوق النقد الدولي، لا يهتم بمعالجة المشكلة الحقيقية. لكن المشاكل الظاهرية المالية فقط، من عجز ميزان المدفوعات، وتحرير سعر الصرف، وموازنة الدولة ما يجعل الاقتصاد في حالة اعتماد مرضي مزمن عليه.
تضيف “المهدي” أن الاقتصاد مصر يمر في مسار دائري منذ 2016/ 2017، بقرض من الصندوق، ثم تحرير لسعر الصرف، فارتفاع معدل التضخم ليتجاوز 31%، ثم رفع سعر الفائدة، ثم جذب لرؤوس اموال ساخنة، ثم فرحة جمة بسبب تلك الأموال، ثم ألم شديد عند انسحابها السريع من السوق.
وتوضح لـ”مصر 360″ أن النتيجة الأساسية لتلك البرامج هي انخفاض الدخول الحقيقية للأفراد وزيادة معدلات الفقر وتردي مستوي المعيشة وزيادة التزامات مصر تجاه الخارج، وعدم معالجة المشكلة الأساسية، في رفع القدرة على الإنتاج والإنتاجية وتنويع المنتجات من سلع وخدمات، وزيادة الاعتماد علي أنفسنا في توفير احتياجاتنا الأساسية من السلع الغذائية والاستهلاكية ومدخلات الانتاج الضرورية.
حتى عملية بيع أصول الدولة التي ينادي بها الصندوق وتقوم بها حاليًا الحكومة لا تدل سوي علي نقل حقوق الملكية من العام للخاص، وإدخال بعض الموارد المالية من العملات الحرة للحكومة، مطالبة باستثمارات في انتاج منتجات لسلع مفيدة للمستهلك وللتصدير، وتجاوز التفكير العقيم تحت الأقدام والنظر للأجل المتوسط والطويل (من سنة لخمس سنوات).