رغم الحديث الحكومي عن تحقيق نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي من الأسماك، إلا أنها اتجهت مؤخرًا إلى استيراد الأسماك الروسية لمواجهة الارتفاع المتزايد في أسعار الأسماك، وتعاقدت مع 34 شركة جديدة للتوريد، ليرتفع عدد الشركات الروسية الموردة للأسماك إلى مصر إلى 89 شركة.
قرار الحكومة في نظر متابعين يمثل استسهالا في زيادة الاستيراد، دون معالجة للمشكلات التي يعاني منها القطاع، وعلى رأسها أزمة ارتفاع أسعار الأعلاف وارتفاع الأدوية البيطرية، ما يثير مخاوف عدة، منها تراجع الإنتاج المحلي الذي يحقق شبه اكتفاء ذاتي حاليًا، وتتصاعد هذه المخاوف قياسا على ما يحدث في قطاع الدواجن الذي بدأ يعاني بعدما كان يحقق وفرة من الدواجن بأسعار جيدة.
يبلغ إجمالي الإنتاج السنوي في مصر من الأسماك 2 مليون طن بنسبة اكتفاء ذاتي تصل إلى حوالى 85%، فضلًا عن أن الدولة المصرية تحتل المركز الأول إفريقيًا والسادس عالميًا في الاستزراع السمكي وتحتل أيضًا المركز الثالث في إنتاج البلطي (المعتبر أكلة شعبية) وسوف تزيد نسبة الاكتفاء الذاتي وفوائض للتصدير مع دخول كل المشروعات القومية الإنتاج بكامل طاقتها. وفق المعلن والمقدر.
ويهدد فتح باب الاستيراد مجددًا، عمل 208 آلاف عامل بقطاع الصيد البحري الحر، إضافة إلى 2 مليون عامل في قطاع الاستزراع السمكي.
في ظل كل ذلك، كيف يتم قراءة قرار الاستيراد؟
أزمة توفير الأعلاف
بحسب الدكتورة منى محرز، نائب وزير الزراعة للثروة الحيوانية والداجنة والسمكية سابقا، تبلغ تكلفة العلف %70 من تكلفة تربية الأسماك، ويحتاج إنتاج كيلو جرام سمك كمية أعلاف ما بين 800 و900 جرام. هذا طبقا لحسابات معامل التحويل الغذائي في إنتاج الأسماك من المزارع.
تقول محرز لـ”مصر 360″: “يعتمد 80% من الإنتاج المحلي على الاستزراع السمكي، والذي يعتمد بدوره وبشكل أساسي على الأعلاف المستوردة والأدوية، وكلاهما يتأثر بتغير سعد الدولار”.
وتضاعفت أسعار الأعلاف خلال العامين الماضيين، بنسبة تزيد على 100%، مدفوعة بارتفاع تكلفة استيراد المواد الخام، مع تحرير سعر صرف الجنيه بداية من عام 2016، ليرتفع من 9 آلاف جنيه إلى 18 ألفًا عام 2019، ويقفز إلى 27 ألفًا عام 2022، ويعود ليسجل 22 ألف جنيه للطن في الفترة الأخيرة.
ورغم ارتفاع الأسعار، حققت أسعار الأسماك ثباتًا نسبيًا خلال شهري يناير/ كانون الثاني وفبراير/ شباط الماضيين، لاستقرار أسعار الأعلاف في الأسواق، وفقًا للدكتور يوسف العبد رئيس لجنة الأدوية البيطرية بالاتحاد العام للغرف التجارية. مشيرًا إلى أن الدولة اتجهت مؤخرًا إلى استحداث تكنولوجيا حديثة في عملية التربية للاستفادة العظمى من الأعلاف وتقليل الهدر بالمزارع مع الحفاظ على جودة الأسماك بما يحقق التنافسية العالمية.
وأضاف “العبد” أن مصر تُصنف الأولى في إنتاج أسماك البوري والوقار عربيًا وإفريقيًا، والسادسة عالميًا في إنتاج البلطي من الاستزراع بالمحافظات الشاطئية (بورسعيد، ودمياط، وكفر الشيخ).
حجم الإنتاج المحلي
يعتمد الإنتاج المحلي على الاستزراع السمكي، الذي يبلغ حجم إنتاجه 72.5% من الإنتاج الكلي، بما يمثل 2,31 مليون طن عام 2021، مقابل 27,5% من المصائد الطبيعية، وفقًا لدراسة واقع ومستقبل الإنتاج السمكي في مصر في ظل المتغيرات المعاصرة.
وبذلت الدولة جهودًا في إنتاج الأسماك، واتجهت لتطهير البحيرات والتوسع في مشروعات الاستزراع السمكي، وتسهيل نقل وتوطين تكنولوجيا الاستزراع السمكي بشكل كبير، ليحقق معدل نمو من 16% سنويًا في 2015 إلى 35% عام 2021.
تشير الدراسة إلى أن القطاع السمكي يعاني من العديد من التحديات. منها: ارتفاع تكاليف الإنتاج، والآثار السلبية الناجمة عن التغيرات المناخية، وإغراق السوق المحلي بالمنتجات السمكية المستوردة التي تؤثر على القدرات التنافسية للمنتج المحلي، فضلًا عن التحديات المتعلقة بإنتاج الأسماك بالجودة المطلوبة وفق الاشتراطات والمواصفات القياسية.
متوسط استهلاك الفرد
يقول الدكتور خالد الحسيني، رئيس هيئة تنمية الثروة السمكية السابق، إن مصر لديها اكتفاء ذاتي من الأسماك. وقد تجاوز الإنتاج المحلي أكثر من 2 مليون طن سنويًا، ليبلغ نصيب استهلاك الفرد 20,1 كيلو في العام.
وبتحليل بيانات الاستيراد في مصر، فإن 65% منه استيراد لـ (جمبرى وسبيط). بينما تتفاوت نسب المستورد من الأنواع الأخرى، على سبيل المثال، أسماك الماكريل ما بين 10 إلى 20% من المستورد.
ويضيف “الحسيني”، في حديثه لـ”مصر 360″، أن “الدولة في الفترة الأخيرة اتجهت إلى تطهير البحيرات الشمالية المرتبطة بالبحر المتوسط لرفع كفاءة الطاقة الإنتاجية من المسطحات الحرة لتقليل استهلاك الأعلاف”.
ويرفض “الحسيني” اعتبار فتح الاستيراد مجددًا “استسهالًا”. يقول إن الكميات المنتجة من بعض أنواع الأسماك أقل من احتياجات السوق. وهو ما يدفع الدولة لاستيرادها. بينما يعتبر أن خطوة الحكومة الأخيرة، حلًا مؤقتًا لمواجهة ارتفاع الأسعار.
الشواطئ البحرية
رغم امتلاك مصر مساحات شاسعة من الشواطئ البحرية بطول 2936 كم على امتدد البحرين الأحمر والمتوسط شمالًا و12 بحيرة طبيعية وصناعية، تعاني مصر من مشكلة في توافر الأسماك.
يبين “الحسيني” أن هناك عوامل تحد من إنتاج مصر السمكي، منها أن مصر تقع في الجنوب الشرقي من البحر المتوسط، وهي منطقة تنتشر فيها الملوثات، بما يؤثر على حياة الأحياء البحرية.
كذلك يؤدي الصرف الصحي والصناعي الذي يصل إلى بحيرة المنزلة عن طريق مصرف بحر البقر، ويمتد للبحر المتوسط إلى زيادة التلوث. ما يؤثر على الأسماك.
ويشير “الحسيني” إلى أن الاتحاد الأوربي يواجه ندرة الأسماك بالتعاقد مع بعض الدول مثل الصومال وموريتانيا لصيدها من شواطئها المتنوعة والغنية بسبب التقاء المياه الدافئة مع الباردة، والتي تعمل على تجميع عناصر الغذاء.
ويضيف: “نحتاج إلى خطوات لزيادة الإنتاج، منها ربط عملية تطهير البحيرات مع تنمية الوعي لدى الصيادين، وتطبيق القانون بمراجعة أدوات الصيد، وحظر صيد الأسماك الصغيرة، ومن أجل الحفاظ على الثروة السمكية، يجب تقليل الملوثات والمخلفات”.
أيضا، تحتاج حركة إنتاج الأسماك إلى التوسع، ذلك ضمن تكتلات اقتصادية بجانب الاتجاه لتصنيع أسطول من السفن الكبيرة المجهزة، والتي تستطيع الصيد في أعالي البحار بالمياه الاقتصادية في البحر المتوسط، ومحليا ينبغي تنشيط الجمعيات التعاونية لصائدي الأسماك.
أنواع جديدة لبحيرة ناصر
تبلغ مساحة بحيرة ناصر 5250 كيلو متر مربع. وهي من أكبر البحيرات الصناعية في العالم، يعيش بها أكثر من 50 نوعًا من الأسماك، وتنتج 26 ألف طن سنويًا. ويمثل الصيد بالمياه الشاطئية للبحيرة 20% والعميقة 80%، وفقًا للدكتور أحمد عبد المنعم المزين الأستاذ بكلية الزراعة، والذي يشير إلى وفرة تواجد عناصر القاعدة الغذائية الطبيعية للبحيرة.
وبالرغم من ذلك، يضيف “المزين” أن هناك ندرة من الأسماك بهذه المنطقة. ولذلك، فإن هذه المنطقة توصف من الناحية الإنتاجية بأنها (منطقة صحراوية)، وللاستغلال الأمثل لهذه المنطقة، فإنه يستلزم إدخال أصناف أسماك جديدة.
ووفقًا لرئيس الهيئة السابق الدكتور خالد الحسيني، فإن منظمة (الجيكا) اليابانية وهي هيئة حكومية مستقلة تختص بمساعدة النمو الاقتصادي والاجتماعي في الدول النامية، أقرت أن بحيرة ناصر يبلغ أقصى إنتاج لها 65 ألف طن سنويًا. كما لا يمكن تجاوز نسبة استخراج الأسماك منها بأكثر من 40% من إنتاجها للحفاظ على التنمية المستدامة لأحيائها البحرية.
حجم إنتاج بركة غليون
يعد المشروع القومي للاستزراع السمكي بالجزيرة الخضراء بمركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ واحدًا من أهم المشروعات التي تستهدف الدولة منه توفير الأسماك، وهى المزرعة الأكبر بمنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وتكلف إنشائها مليار و700 مليون جنيه بمشاركة 52 شركة وطنية.
شملت المرحلة الأولى منها، إنشاء 1359 حوضا للأسماك البحرية والجمبري وأسماك المياه العذبة. ذلك بطاقة 100طن في اليوم، إضافة إلى وجود منطقة صناعية على مساحة 55 فدانًا، تتكون من مصنع تجهيز للأسماك والجمبري.
وقد خُطط للمشروع بأن يكون متكاملًا، فهناك مصنع لإنتاج العلف، تبلغ طاقة إنتاجه 180 ألف طن سنويًا، منها 120 ألف طن لأعلاف الأسماك، والمتبقي للجمبري. ويركز المشروع على إنتاج الأصناف الشعبية التي تستهدف محدودي الدخل مثل البلطي والقاروص واللوط والتونة وينتقي منها أصنافًا أخرى للتصدير. حيث يبلغ حجم تصدير الأسماك من 18 إلى 20 ألف طن في السنة، وفقًا لرئيس هيئة الثروة السمكية السابق.
جودة المنتج
عن اعتماد بعض المزارع على مخلفات الدواجن لتقليل تكلفة الأعلاف، أوضحت الدكتورة منى محرز، أن ذلك يضر بالبيئة المائية ويسبب تلوث المياه وزيادة الميكروبات التي تسبب مرض الأسماك أو موتها فلا يمكن الاعتماد عليها في التربية.
وأكدت أن مخلفات الدجاج تعتمد عليها مصانع الأعلاف، لكنها تدخل أولا عملية تسمى (الكوكرز) وهي تقوم بطبخ هذه المخلفات وتجفيفها ما يقضي على أي ميكروبات بها.
مشيرة إلى أن الدولة اعتمدت العديد من التدابير لدعم وتطوير قطاع الصيد بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة، ونفذت مصر منها مشروعًا فيما يتعلق بحفظ وحماية النظام الإيكولوجي للأسماك المستزرعة.
وقالت محرز أن هناك خطة تشمل زيادة الإنتاج والتوسع في الاستزراع التكاملي بين الأسماك والنبات وتدوير المياه وتعظيم العائد من وحدة المياه وذلك للاستزراع السمكي ثم استخدام المياه في ري النباتات، واستخدام مياه أحواض الأسماك في الزراعة.
كذلك التوسع في استزراع القشريات خاصة الجمبري وإنشاء الأقفاص السمكية البحرية بالتعاون مع القطاع الخاص، علاوة على رفع كفاءة وتطوير المواقع الإنتاجية التابعة للهيئة العامة لتنمية الثروة السمكية لزيادة الإنتاجية.
علاج الأزمة
ولأهمية الاستزراع السمكي في مصر في سد الفجوة الغذائية الكبيرة كبديل آمن من البروتين والتغذية السليمة، وضع دكتور يوسف العبد رئيس لجنة الأدوية البيطرية بالاتحاد العام للغرف التجارية، روشتة علاج عاجلة، منها ضخ استثمارات جديدة في القطاع السمكي، والاعتماد الفعلي على الموارد الطبيعية، والبدء فورًا في تطوير وتحسين السلالات خاصة البلطي المصري.
وينادي “العبد” بنشر ثقافة البلطي الأحمر الذي يمكن زراعته في مياه شبه مالحة ويعطي أحجامًا وأوزانًا كبيرة في نفس فترة الاستزراع العادية.
كذلك، الاعتماد على تكنولوجيا الاستزراع الحديثة والتوسع في مصانع ومشروعات تصنيع وتعليب الأسماك، وتطبيق نظام الاستزراع المكثف والاستغلال الأمثل للموارد المائية المتاحة. بالإضافة إلى استزراع أنواع جديدة في البيئة المصرية وعمل مشروعات نموذجية مثل استزراع أسماك السلمون وخيار البحر والمحار، الذي نجحت فيه دول الخليج مثل السعودية والإمارات.
وأخيرًا، تشجيع البحث العلمي والبدء في عمل خريطة وبائية حقيقية للأمراض في البيئة المصرية، وإجراء حوار مجتمعي دوري يشمل كل قطاعات الصناعة من مزارعين وصيادين ومصانع أعلاف وهيئات حكومية وخاصة وجمعيات أهلية للعمل يدًا بيد للتطوير ووضع حل جذري للمشاكل المتأصلة في هذا القطاع.