بتفاقم الأزمة الاقتصادية، تطرح الأسئلة القلقة نفسها على جدول أعمال المستقبل المنظور: إلى أين من هنا؟.. وما الأثمان الفادحة التي قد يدفعها البلد من أمنه واستقراره وحياة مواطنيه؟.. وكيف يمكن وقف النزيف بقدر ما هو ممكن؟
المخاوف الماثلة لا سبيل إلى نفيها بالادعاء، أو غض الطرف عنها بالتجاهل.
الوقوع في فخ الديون وبيع الأصول العامة لتسديد الفوائد المتراكمة دون أمل كبير في مغادرة ذلك الوضع الكارثي بأي مدى منظور مأساة كبرى تتهدد النسيج الاجتماعي أخطارها بما هو فوق طاقة الأمن.
وصاية صندوق النقد الدولي وارتهان القرارين الاقتصادي والسياسي لجهات الإقراض تنال من الأمن القومي المصري وتمنع عن البلد حقه في أن يصنع مصيره وفق مصالحه الاستراتيجية وحدها.
هذه مأساة أخرى تكاد تعيدنا بالاستغراق في الديون إلى تجربة “الخديو إسماعيل” وآثارها المروعة التي وصلت ذروتها بالاحتلال البريطاني لمصر عام (1882).
في اللحظة الراهنة هناك معضلتان تعترضان المصير المصري على خلفية الضجر الاجتماعي من ارتفاعات أسعار السلع الرئيسية بصورة غير مسبوقة واختفاء بعضها من الأسواق لفترات طويلة.
الأولى: أن مصر لا تحتمل بقاء الأوضاع الحالية على ما هي عليه ولا تتحمل أي فوضى واسعة في بنية مجتمعها.
والثانية: أن المعارضة السياسية محاصرة وضعيفة فيما المعارضة الاجتماعية عشوائية ومخيفة.
الانفجار العشوائي تلوح أخطاره في المكان دون أن يكون هناك جهدًا سياسيًا يحاول أن يبني تماسكًا حقيقيًا يجنب البلد فواتيره الباهظة.
هذه مهمة السياسة لا الأمن.
الحوار الوطني بذاته قيمة سياسية، لكنه معطل في بلد مأزوم تتآكل فيه الشرعية على نحو مفزع.
بعد عام كامل على إطلاق الدعوة الرئاسية إليه مدخلًا لإعادة النظر في الأولويات والسياسات، لم يكن هناك تبادلًا للآراء والأفكار بحرية، ولا تبدت أية ملامح تدعو للثقة في جدية الحوار نفسه.
لم تكن هناك شروط مسبقة للحوار الوطني المفترض، غير أن متطلبات نجاحه اقتضت تحسين البيئة العامة المسمومة بإنهاء ملف محبوسي الرأي.
أخذت الإفراجات وقتًا أطول مما هو طبيعي، وجرى التعنت دون مقتضى في الإفراج عن أسماء بعينها.
لم يكن بوسع “الحركة المدنية”، الطرف الرئيسي الآخر في الحوار، أن تحتمل اتهامها بالتقصير الفادح، إذا لم تضع الإفراج عن محبوسي الرأي على رأس أولوياتها.
هكذا بدت معادلة الحوار مغلقة.
لا السلطة أنهت ذلك الملف بالسرعة اللازمة لإحداث أثره الإيجابي على البيئة العامة.. ولا المعارضة كانت موحدة ومواقفها تراوحت بين المشاركة المشروطة، أو تجميدها بدواعي عدم الالتزام بالتعهدات التي تلقتها في مسألة الإفراجات.
راوحت فكرة الحوار الوطني مكانها.
لم تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ولم تعقد جلسة واحدة تنظر في أعماله الحقيقية.
استهلِك الوقت في إجراءات تنشئ لجانًا تتفرع عنها لجان!
أزهقت روح الحوار وكادت أن تزهق معها أية صدقية، أو أية رهانات على تحسين البيئة العامة ومراجعة السياسات والأولويات التي أفضت إلى الأزمة المستحكمة.
من يتحمل مسئولية الإفشال المبكر للحوار الوطني؟
كان ذلك سؤالًا ملحًا طرحه تعطيل الحوار بالاستغراق في الإجراءات المطولة.
على نطاق واسع قيل وتردد أن الهدف الرئيسي من دعوة الحوار استخدامه كورقة سياسية لتحسين الصورة أمام العالم دون أن تتوافر متطلباته، أو إدراك ضروراته.
يكتسب أي حوار جديته من شفافيته واتساع أفقه على التنوع الطبيعي في مجتمعه.. والأهم من ذلك كله: الالتزام بمخرجاته لا اعتبارها توصيات يؤخذ أو لا يؤخذ بها!
إذا صحت فرضية توظيف فكرة الحوار لمقتضى الدعايات الدولية، فإن النتائج بدت سلبية تمامًا.
عندما تكون هناك دعوة للحوار، ثم لا يحدث حوار، فإن الصورة السياسية السلبية تتأكد بالصحف ومراكز الأبحاث والمنظمات الحقوقية الدولية ومراكز الحكم والتأثير في العالم بأسره.
تحسين الصورة مسألة إجراءات على الأرض لا دعايات في الفراغ.
هناك مراجعة أممية منتظرة خلال أيام للسجل المصري في حقوق الإنسان.
القضية ليست أن تمر أو لا تمر المراجعة الأممية بأقل خسائر ممكنة.
هذه حسابات دول ومصالح متبادلة.
القضية أن تكون هناك صورة حقيقية ومصدقة أو لا تكون.
بصورة أو أخرى أفلتت فرصة كبيرة لتحسين السجل المصري وصورة نظام الحكم نفسه.
عقب الدعوة الرئاسية للحوار الوطني وصل إلى القاهرة ليومين ناشر “النيويورك تايمز” “آرثر سالزبرجر”.
كان لديه سؤال واحد: ماذا يحدث في مصر؟.. وهل يمكن أن تكون الدعوة إلى الحوار جدية؟.. أم أنه خدعة؟
قبل أن يغادر نيويورك طلب أن يلتقيني، وعلى مدى الساعة والنصف الساعة أخذ يستفسر عن الحوار ومعناه وما قد يسفر عنه، لكنه لم يكن مطمئنا، شأن الصحفيين الدوليين كلهم، أن هناك شيئًا جديدًا يحدث.
الشكوك لها أسبابها ودواعيها المتراكمة، وقد كان مأساويًا بالنسبة للبلد كله، أنها تأكدت حيث كان يفترض بالتمني أن تخف وطأتها بتحسن ملحوظ في أحوال حقوق الإنسان.
قرب نهاية ذلك الحوار على نيل القاهرة أخبرني “سالزبرجر” أنه أرسل طلبًا رسميًا لإجراء حوار مع الرئيس المصري “عبدالفتاح السيسي” لكنه لم يتلق ردًا حتى الآن.
إذا كان هناك قرار سياسي بإنهاء ملف محبوسي الرأي من غير المتورطين في عنف وإرهاب وفق التعهدات التي قطعت أثناء الاجتماعات التمهيدية، فقد أهدرت فرصة لم يكن يصح أن تفلت بإعلان إنهاء الملف المؤلم على صفحات أكثر الصحف الأمريكية تأثيرًا ونفوذًا، جاء رجلها الأول إلى القاهرة، وطلب بنفسه أن يحاور رأس النظام.
الإجراءات على الأرض تحسن كل صورة وتفتح كل أفق دون حاجة إلى استئجار شركات علاقات عامة دولية، ندفع أتعابها أو تدفعها بالنيابة بعض الدول الخليجية ويكون الفشل عنوانها الدائم.
حسب المعلومات المتوافرة، فإن هناك اتجاهًا الآن للإفراج عن دفعة جديدة من محبوسي الرأي، تضم “أحمد دومة”، تمهيدًا للبدء في الحوار الفعلي، الذي يشترط لنجاحه أن يكون جديًا وشفافًا ومنتجًا، لا استهلاكًا للوقت فيما لا جدوى منه.
بالتوقيت نفسه، هناك مراجعة أخرى، من طبيعة مختلفة، في شهر مارس الحالي، تدخل مباشرة في ملف الأزمة الاقتصادية.
إنها المراجعة الأولى لبرنامج صندوق النقد الدولي ومدى الالتزام المصري بمقتضياته وتفاهماته، وأهمها التحول الدائم إلى نظام صرف مرن والضبط المالي لضمان تراجع مسار الدين العام وتقليص دور الدولة في الاقتصاد.
حسب تقارير دولية مطلعة وموثوقة، فإن هناك انخفاضًا جديدًا متوقعًا في قيمة الجنيه المصري.
الانهيار المتصاعد للعملة الوطنية يرتب أوضاعًا اجتماعية كارثية إضافية، عنوانها: إحكام وصاية الصندوق على الاقتصاد المصري.
من زاوية المصلحة الوطنية العليا، فإنه لا بد من وقف النزيف الاقتصادي الذي يدفع شرائح من الطبقة الوسطى إلى دائرة الفقر والفئات الأكثر فقرًا إلى دائرة العجز عن الحياة نفسها.
وقف النزيف بالحوار الجدي يستدعي إعادة النظر في السياسات والأولويات، والاعتراف الكامل بالأزمة، وأسبابها ومسئوليتها، دون انتحال أعذار الجائحة والحرب الأوكرانية تفسيرًا لها، كأن السياسات والألويات الحالية إنجازات بذاتها، وما يقال في التقارير الدولية المنشورة وداخل الشوارع المصرية نفسها محض شائعات ودعايات مغرضة.
إذا لم نعترف بالأزمة، فإنه يصعب مواجهتها أو التخفيف من كوارثها.
المشكلة الحقيقية، أنه ليس هناك ما يوحي بأي استعداد لإدخال تعديلات جوهرية على السياسات والأولويات الاقتصادية الحالية.
هذه معضلة كبرى تعترض الحوار الوطني قبل أن يبدأ.
أسوأ ما قد يحدث بعد فترة طويلة من تعطيل الحوار هو إجهاضه نهائيًا بالالتفاف عليه.
يستلفت الانتباه هنا ما أعلنه مجلس الوزراء عن تدشين منصة “حوار” للتواصل مع المواطنين وتوسيع “أفضل مشاركة مستدامة في عملية صنع القرار”، وأن إنشاء تلك المنصة تنفيذ لتوصيات المؤتمر الاقتصادي (مصر 2022).
هكذا بالحرف، رغم أنه لم يكن هناك احترام لتوصيات ذلك المؤتمر ولا التزام بمخرجاته، ولا يتوقع أن ينظر أحد من كبار المسئولين فيما قد يرد من أفكار على تلك المنصة!
الحوار ضروري عندما يكون حقيقيًا ومصدقًا ومنتجًا للأمل في مستقبل آخر.
إذا غابت جديته تبددت صدقيته.