سيبدأ صندوق النقد الدولي الأسبوع المقبل، مراجعة الإصلاحات التي طلبها من مصر لكي تحصل على الدفعة الثانية من قرض الصندوق بقيمة 247 مليون دولار من قيمة إجمالية 3 مليارات دولار ستقدم على دفعات نصف سنوية حتى 2026.
وربما تكون هي المرة الأولى التي يتدخل فيها صندوق النقد الدولي بهذه الدرجة في تفاصيل إدارة الاقتصاد المصري، ويطالب بإجراء إصلاحات تتعلق أساسا بتخارج الدولة من الاقتصاد، وضمان المنافسة العادلة والشفافة بين شركات القطاع الخاص وتلك المملوكة للدولة.
والحقيقة أن الأزمة الاقتصادية في مصر واضحة، والخروج منها يتطلب أساسا إجراءات سياسية تعيد النظر في النموذج الاقتصادي المعتمد، وحدود الدور الذي تلعبه مؤسسات وأجهزة الدولة في الاقتصاد، وإجراء تقييم موضوعي (ولو غير معلن) لحصيلة تجربة الدولة في إدارة الشأن الاقتصادي طوال السنوات التسع الماضية.
النماذج السابقة
عرفت مصر نموذجين مختلفين للتنمية الاقتصادية اختلف حولهما الناس تبعا للانحياز السياسي لكل فرد، إلا أنهما حققا بصور مختلفة قدرا من النجاح الاقتصادي والتنموي، فالنموذج الأول اعتمد على القطاع العام وفق تصور اشتراكي، وتأسست في ظله أهم قاعدة صناعية قادها القطاع العام وانتشرت شركات الغزل والنسيج والحديد والصلب والسيارات والأدوات المنزلية. وأنتجت وصدرت للعالم كله، وكان يحكمها تصور سياسي لا يقوم على الجباية من الأفراد أو شركات القطاع الخاص إنما على تأميم كثير منها لتحقيق العدالة الاجتماعية وفق نموذج اشتراكي اختلف معه ليبراليون ورأسماليون.
ولم تكن شركات القطاع العام فوق النقد أو المحاسبة، إنما كثيرا ما انتقد أداء مسئوليها حتى في الستينيات، ونشرت تحقيقات عن حالات فساد وسوء إدارة وظل نقدها مباحا والاختلاف مع النموذج نفسه واردا، وهو ما حدث في السبعينيات حيث انتقلت البلاد من الاقتصاد الاشتراكي إلي الرأسمالي واستقرت في ثمانينيات القرن الماضي على بناء نموذج جديد اعتمد على القطاع الخاص وظهرت شركات ومصانع كبرى يملكها رجال أعمال مصريون فتأسست في عام 1983 شركة جهينة لصفوان ثابت وحديد عز وسيراميكا كليوباترا والنساجون الشرقيون والسويدي وآخرون، بجانب عشرات الشركات المتوسطة والكبيرة التي امتلكها القطاع الخاص.
ولم يكن دور هذه الشركات محل اتفاق من الجميع وتعرض بعضها لنقد شديد بسبب سياسات الخصخصة التي طبقت طوال عهدي السادات ومبارك، كما لم تكن هذه الشركات بما فيها المنتجة فوق النقد وبالذات من دخلوا المجال السياسي كأحمد عز وآخرين.
المؤكد أن حصيلة ما جرى في هاتين الخبرتين المختلفتين يقول أن مصر بحاجة لتصحيح سلبيات كل نموذج وليس إعادة إنتاج لعيوب أي منهما، وأن المطلوب حضور القطاع العام في الصناعات الاستراتيجية والثقيلة، وإذا دخل في إنتاج سلع متوسطة القيمة فيكون ذلك عبر نظام شفاف للمحاسبة وعادل في المنافسة، كما تحتاج مصر لدعم القطاع الخاص وخلق بيئة آمنة للاستثمار تشجعه على القيام بمسئولياته الاجتماعية بعيدا عن نظام الجباية حتى يقدم أفضل ما لديه في السوق المحلي والعالمي دون خوف أو ترهيب.
لماذا البعد السياسي؟
إذا كانت الدولة تقول أنها تعتمد من حيث المبدأ على القطاعين العام والخاص، وأنها تشجع الأخير على التنمية والاستثمار، ومع ذلك لا زالت التقارير الدولية تشير إلى عدم قيامها بالإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، وأن القواعد التي تحكم المنافسة بين الشركات التابعة لأجهزة الدولة ومؤسساتها من جهة، والقطاع الخاص من جهة أخرى، لا تحكمها الشفافية وعدالة المنافسة.
ويصبح السؤال المطروح هل يمكن للدولة أن تقوم بالإصلاحات المطلوبة وتُحدِث تخارجا تدريجيا لمؤسساتها؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فهل الأمر مجرد قرار اقتصادي إصلاحي أم إنه بالأساس قرار سياسي يتطلب مراجعة ليس فقط للخبرة الاقتصادية إنما للإطار السياسي الحاكم؟.
الحقيقة أن صعوبة إجراء الحكم الحالي للإصلاحات الاقتصادية المطلوبة ترجع لكون المستهدفين من هذا الإصلاح هم الحلفاء الأساسيين له داخل مؤسسات الدولة، لأنه همش السياسة والأحزاب، وغيب النقابات، وتراجعت القوة الناعمة المصرية من صحافة وإعلام وثقافة وفنون، وبالتالي سنجد أن الظهير الشعبي والمدني الذي كان حاضرا في العهود الجمهورية السابقة بدرجات متفاوتة غاب تقريبا في العهد الحالي، مما يجعل الحكم مطالب بأن يقلص حضور وامتيازات مؤسسات بات ينظر لها على أنها “الحزب الحاكم” وسند الشرعية القائمة وليست مجرد مؤسسات قوية مسيطرة.
المؤكد أن الظهير الشعبي المدني حضر في كل تجاربنا السابقة بجوار دور مؤكد للأجهزة ومؤسسات الدولة، فكانت تنظيمات الحزب الواحد حاضرة ومؤثرة في عهد عبد الناصر وخاصة منظمة الشباب والتنظيم الطليعي، وكانت النقابات المهنية ودور رجال الأعمال والهامش السياسي الذي أعطى لمختلف القوى السياسية والحزبية دورا كبيرا في وجود حالة سياسية مؤيدة ومعارضة للرئيس مبارك.
والمؤكد أن مصر عرفت دائما حاضنة شعبية وسياسية مثلت دائما أحد أطراف معادلة الحكم القائم، ولولا هذه الحاضنة لما أقدم عبد الناصر على إصلاحاته السياسية عقب 67 وطالت المؤسسة العسكرية وأجهزة الأمن، وأعاد تعريف دورهما وحضورهما في المجال المدني والعام.
يقينا ستظل هناك صعوبات سياسية هيكلية تعطل من فرص الإصلاح الاقتصادي في مصر وقد تكون الحوارات القائمة حاليا بين بعض أجهزة الدولة وأطراف من المعارضة والإفراج عن أعداد من المحبوسين احتياطيا مؤشر عن تقدير ولو متأخر أن هناك احتياجا للظهير الشعبي والمدني في معادلة الحكم، وأن تغيير المعادلة الحالية بشراكات مدنية وسياسية حقيقية هو أحد الفرص لإجراء إصلاحات اقتصادية حقيقية.