الفلاحون المصريون يعانون ويقاسون، مطحونون بين الدولة ممثلة في الجمعيات الزراعية والبنك الزراعي والشركات التي توكلها الحكومة لشراء الحاصلات والغلال، وبين المجتمع ممثلا في الشركات الخاصة للعديد من المنتجات الزراعية عبر الزراعة التعاقدية لبعض الحاصلات، ولتجارة الجملة لأصناف الخضروات والفاكهة.
عديد المشكلات التي تقف أمام الفلاح، وتحول نهار غالبية الفلاحين إلى ليل دامس يخشى معه الغد، مشكلات البذور أو التقاوي، الأسمدة، أسعار الطاقة خاصة السولار، تحديد أسعار توريد الحاصلات الزراعية، توفير مياه الري، تفتيت الحيازات الزراعية، حماية الثروة الحيوانية. ناهيك عن الكثير من المشكلات الاجتماعية المرتبطة بالرعاية الصحية، والتعليم، والعناية بالمرأة الريفية، وتوفير سكن للأبناء.
كل ما سبق من مشكلات تسعى الحكومة في بعض الأحيان لحله، بينما تجد سياسات وسلوكيات أخرى تبدو أنها تعرقل حلها وتقف في وجه الفلاح.
أكثر ما يبدو من مظاهر لحياة الفلاح الصعبة، هو الهجرة المستمرة من الريف إلى المدينة، أو على الأقل ترك مهنة الزراعة كلية، أو عدم التفرغ التدريجي لها، ما يستتبع بوار الأرض الصالحة للزراعة. هناك أيضا عملية التسرب من المدرسة بسبب عبء تعليم الأبناء، وانتشار الأمراض الخطيرة كالبلهارسيا بسبب عدم الاهتمام بالرعاية الصحية، واستيراد منتجات زراعية من الخارج بأعلى من أسعار توريد الفلاح المصري لها، وبوار الأرض الزراعية في بعض المناطق بسبب شح المياه، وانتشار السوق السوداء للأسمدة.. إلخ.
السؤال الأن: ما العمل؟
في هذا الموضوع سيتم التطرق لحلول تبدو غير تقليدية لثلاث من أكثر المشكلات تعقيدًا، وهي البناء على الأرض الزراعية، وأسعار الحاصلات الزراعية، والأسمدة.
مشكلة البناء على الأرض الزراعية: كان رد فعل الدولة إزاء تلك المشكلة هو القيام بأعمال هدم أو توقيع غرامات كبيرة للتصالح، بسبب بناء العديد من الفلاحين على الأرض الزراعية، لتوفير مسكن لأبنائهم. رد الفعل الحكومي إزاء ذلك هو عمل سلبي بامتياز. كان المرغوب في الواقع، قيام الدولة بعمل إيجابي يهدف إلى إفادة المجتمع بعدم بوار الأرض الزراعية المستصلحة، وتوسيع الرقعة الزرعية، وفي نفس الوقت توفير مسكن ملائم للفلاح وأسرته، عوضًا ليس فقط عن أعمال الهدم بل عن تجهيز مساكن في ذات المنطقة بما يعرف بمشروع حياة كريمة، وذلك باستغلال الظهير الصحراوي للمحافظات النيلية، فهذا الظهير إذا ما تم استغلاله لاتسعت الرقعة الزراعية، خاصة مع إجراءات معينة لترشيد استغلال المياه الخاصة بالزراعة في مصر عامة وتلك المناطق الجديدة بالظهير.
ما يطرح في هذا الصدد هو منح الفلاحين وحدهم ودون غيرهم من المواطنين أو رجال الأعمال أراضي مخصصة للزراعة، وغير قابلة للتسقيع، بتقسيمات معينة ومخططة بكفاءة من قبل متخصصين في التخطيط العمراني والزراعي، وتلك الأرض تكون بمساحات معينة (5 أفدنة مثلا) يزرع الفلاح 80% منها ويخصص 10% منها لمشروعات إنتاج حيواني، و10% للبناء الرأسي والأفقي. وبالطبع تتضمن تلك المجتمعات الجديدة وجود مجمعات خدمية تعليمية وصحية وخلافه، بحيث يكتفى الفلاح ذاتيًا من الناحية المعيشية في تلك المناطق. صحيح أنه سيكون مرتبط بمسقط رأسه الأصلي وسط الدلتا والوادي، لكنه بعد عدة سنوات ستنتقل كافة مصالحه لتلك المناطق، ما سيجعلها تشكل بلدانا جديدة بالنسبة له بعد عقدين أو ثلاثة. وبذلك تحل مشكلة البناء على الأرض الزراعية، ومعها يكون هناك توسع في الرقعة المستصلحة، وتوزيعًا أكبر للسكان، بدلا من الاكتظاظ المرهق للخدمات في المناطق الحالية التي تأن من إرهاق شديد في الخدمات.
أسعار الحاصلات الزراعية: ترتبط تلك القضية بأسعار توريد المحاصيل الاستراتيجية وعلى رأسها القمح والقطن والقصب والذرة، خاصة مع تفاقم مشكلة ارتفاع أسعار المستلزمات وعلى رأسها الأسمدة والبذور والسولار. وترجع أهمية حل تلك المشكلة، لكونها تتصل بقوت الفلاح. وتظهر صعوبتها مع تسويق الحكومة دعايتها للناس بأن الفلاح مزعج لها، وأنه يتحتم عليها تركه وفق منظور الخصخصة، أي أن عليه الاعتماد على نفسه في تسويق منتجاته. بعبارة أخرى، تتعامل الحكومة في أغلب الأحيان مع الفلاح بروح من المن، رغم أن البلدان الأخرى حتى في أعتى النظم الرأسمالية تقوم بدعم المزارعين بشكل مكثف، ويزيد هذا الدعم عند حدوث جفاف بيئي أو أزمات خارجية في أسواق التصدير.
فالقمح اليوم سعره العالمي يصل إلى نحو 360 دولار للطن أي 11ألف جنيه تقريبا، مقابل تسليم الفلاح المصري للحكومة عبر التجار بسعر 715جنيه للأردب زنة 155كم عام2022، قرر رئيس الدولة مؤخرًا رفعها إلى 1200جنيه بالنسبة لمحصول صيف2023، أي ما يعادل 7740 جنيه للطن. المؤكد أن ذلك (حتى بعد زيادة الأسعار) يشكل خسارة كبيرة للفلاح. إذ كيف تشترى الدولة طن القمح من الخارج ب 11ألف جنيه وتشتريه من الداخل ب7740جنيه؟، ألا يشكل ذلك دعمًا للفلاح الروسي أو الأوكراني، وترك الفلاح المصري في حالة من العوز؟.
نفس الأمر ربما يسري على القطن، لكن مع خلاف واحد هو أن أكثر من نصف الإنتاج يتم تصديره والباقي يصنع. فرغم أن أسعار التوريد ليست مغرية 3200جنيه للقنطار بالعام2020، ارتفعت إلى 6000 جنيه عام 2021، إلا أن ما حدث عام 2022 شكل صفعة كبرى على وجه الفلاح، إذ تركت الحكومة لشركات القطاع الخاص مهمة جمع القطن بسعر3500جنيه في بداية الموسم، أصبح قرب نهايته 4500 جنيه، سددت بعد أسابيع. فجأة وبعد أن تم تجميع غالبية المنتج، أعلنت في ديسمير الماضي أن من لديه أقطان فسيتم سداد 7200جنيه للقنطار فورًا لمن يورده. بالطبع هذا الأمر سبب إحباط كبير لغالبية الفلاحين الذين اضطروا للتوريد مبكرا لسداد الإيجارات لملاك الأرض.
بالنسبة للذرة، فالحاصل أن الدولة تركت الفلاح فريسة لمنتجي صناعة الأعلاف والدواجن، فيما بات يعرف بالزراعة التعاقدية، وهي زراعة ترتبط بالاتفاق المسبق بين شركات توريد المحاصيل والفلاحين برعاية وزارة الزراعة. هنا أيضا يحدث فرق بين السعر المحلي والسعر العالمي، وقد لا تلتزم الشركات بنص عقود التوريد، وترفض شراء المحصول كلية أو تتلكأ في جمعه، كما حدث في محاصيل أخرى كبنجر السكر في العام الزراعي قبل الماضي.
مشكلة القصب تبدو ليست سهلة هي الأخرى، فهو المحصول الرئيس للفلاح في الوجه القبلي، ارتفع سعر توريد الطن من 720جنيه للطن في يناير2021 إلى 810 في يناير2022، ثم 1100في يناير2023. ورغم كون مصر لديها اكتفاء ذاتي من السكر بنسبة 90%، إلا أنها تستورد الباقي، وقد طرحت في أكتوبر الماضي مناقصة لاستيراد 50 ألف طن. جدير بالذكر أن سعر طن السكر وفقًا للسوق المحلي، وعلى أرض المزارع أي وفقا لسعر طن القصب يصل إلى 9100جنيه للطن، باعتبار الطن ينتج 120 كجم سكر، في حين أن السعر العالمي لطن السكر اليوم هو 17400جنيه للطن. ما يجعل سعر توريد القصب من الفلاح المصري غير عادل على الإطلاق.
وهكذا، فإن على الدولة أن تسعى لدعم الفلاح بتحريك كافة تلك الأسعار، مساواة بدعمها لرجال الأعمال والصناعة بأشكال وطرق شتى، وكذلك عدم ترك الفلاح نهبًا للموردين، والوقوف موقف المتفرج أمام عقود وقعت برعاية وزارة الزراعة.
أزمة الأسمدة: هي أزمة مستفحلة، وأهميتها تعود إلى أن الأسمدة تزيد من جودة الأرض الزراعية وزيادة إنتاجها. في مصر ووفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فإن مساحة الأراضى الزراعية عام 15/2016 هي 9.1 مليون فدان، يعتقد أنها زادت اليوم لأكثر من نصف مليون فدان أخرى. وتنتج مصر وفقًا لذات الجهاز أسمدة أزوتية ونتروجينية تقدر إجمالا في ذات العام بـ 15.7 مليون طن. وتلك الكمية يفترض أن تكفي ليس فقط السوق المحلي، بل يتم التصدير منها بإجمالي 1.4 مليار دولار، وهو تصدير مقدر بنسبة 65% من إجمالي المنتج.
وفي مصر توجد 17 شركة لتصنيع الأسمدة الزراعية، أشهرها أبو قير وحلوان والإسكندرية والنصر والبحيرة وأبو زعبل والمصرية. وتلك الشركات تورد للحكومة عبر وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، من خلال التسليم للجمعيات الزراعية 55% من إنتاج شركات الأسمدة، وذلك مقابل إمداد شركات الأسمدة بالمجان أهم مصدر خام لصناعة الأسمدة وهو الغاز الطبيعي.
وتقوم الحكومة بتوزيع حصتها (آنفة الذكر) من الشركات المنتجة على الجمعيات الزراعية مقابل 245 جنية لشكارة الكيماوي زنة 50 كجم للشكارة، وذلك لملاك الأراضي الزراعية، ليرتفع هذا السعر عند التسليم نتيجة بعض الإجراءات الإدارية إلى نحو 250 جنيه. أما الشركات المنتجة فهي تقوم بتوزيع باقي منتجاتها عبر التوزيع للسوق المحلي بالسعر الحر، وعبر التصدير للخارج. ويبلغ سعر التوزيع الحر للشكارة الواحدة داخل مصر نحو 550 جنيه للشكارة. أي أن الحكومة تدعم الفلاح بنحو 250جنيه عند تسليم كل شكارة. وقد خلق شح المُسلَم للفلاح سوقًا سوداء للكيماوي، ما يدل على أن الإنتاج عامة أصبح يوجد به عجز، ناتج عن توقف بعض المصانع بسبب تضخم المديونيات، وهو ما تأكد من طلب عديد الشركات إعادة جدولة ديونها لدى البنوك، بعد أن عجز المستوردون من خارج مصر عن سداد شيكات كبيرة مستحقة لصالح الشركات المصرية بعد توريد الكميات، مما وضع تلك الشركات في حالة حرج كبير أمام البنوك المصرية.
وهكذا يلاحظ أن أزمة “الكيماوي” قد استفحلت كثيرا، وأن تلك الأزمة المستمرة نحو خمسة عقود، تبدو مفتعلة إلى حد كبير، فالغاز الطبيعي (وهو 35% من المادة الخام) متوفر والخبرة والكوادر الفنية والعمالة والأسواق بكل أنواعها متوفرة، ورغم ذلك توجد سوق سوداء خاصة في جنوب الصعيد والمحافظات النائية، وقد وصل الأمر إلى حد أن الجمعيات الزراعية تتسلم أقل من حصتها الشهرية من المصانع، بعجز مقدر بنحو 40%، بسبب عدم استلام نصيب الحكومة المقرر بـ 55% كما ذكر آنفًا.
ويطرح الكثير من المتخصصين حلولا لأزمة “الكيماوي” بإجبار شركات الإنتاج على تسليم حصة الـ55%، ورغم أن هذا الحل ليس سهلا في ظل الظروف الراهنة والآنفة الذكر، يتحدث البعض الآخر عن رفع الدعم كلية عن شكارة الكيماوي وتعويض الفلاح بدعم مقابل، مثل زيادة أسعار توريد السلع الاستراتيجية كالقصب والقطن والقمح. أو بقاء الأمر على حاله وإعادة النظر في منظومة توزيع الكيماوي على الجمعيات الزراعية، وهي المنظومة المختلة إلى حد كبير، وتعد أحد أسباب المشكلة. وفي جميع الأحوال فإن هناك حاجة لتدخل حكومي لإعادة جدولة مديونيات الشركات لدى البنوك، حتى تستطيع أن تدخل مرة أخرى إلى حلبة الإنتاج. كما أنه من المهم التفكير الجدي في قيام الحكومة نفسها بتشغيل مصانع وخطوط إنتاج جديدة، لدعم الفلاح بصورة مباشرة عوضًا عن دعمها للشركات بالغاز، مقابل نسبة الـ 55% من المنتج. والأهم أيضًا وقف العبث الناتج عن طرح بعض شركات قطاع الأعمال العام للبيع، ومن ذلك سيناء للمنجنيز المطروحة للبيع اليوم، لما سيؤدي من تحكم الأجانب في أسعار الأسمدة، وتصديرها للخارج دون إفادة السوق المصري منها.
هذه هي بعضا من المشكلات التي يعاني منها الفلاح، والأجواء المرتبطة بحلها بشكل علمي، والتي قد تسهم في إنقاذ الفلاح، وتيسير إنتاج الغذاء.