تتعامل السلطة مع أي نقد لملف حقوق الإنسان في مصر باعتباره «مزاعم وادعاءات لا سند لها»، وتصر على إنكار وجود أي انتهاكات لمواد الدستور ونصوص المواثيق والعهود الدولية، التي تعد جزءًا لا يتجزأ من النظام الدستوري والتشريعي المصري.

وفي حال مواجهاتها من قبل جهات دولية بوقائع موثقة تثبت ممارستها لمخالفات صريحة لحقوق الإنسان، تدفع السلطة بأن «الظروف والتحديات والعمليات الإرهابية التي أحاطت بمصر، وسعت إلى النيل من استقرارها»، فرضت عليها اللجوء إلى بعض الاستثناءات التي تحد من الحقوق والحريات العامة، حتى تتمكن من «مواجهة الظروف التي تهدد السلامة العامة والأمن القومي للبلاد».

تفرض المادة 40 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على الدول الأطراف في هذا العهد، تقديم تقارير عن التدابير التي اتخذتها وتمثل إعمالًا للحقوق المعترف بها فيه، وعن التقدم المحرز في التمتع بهذه الحقوق، وذلك، خلال سنة من بدء نفاذ هذا العهد إزاء الدول الأطراف المعنية، ثم كلما طلبت اللجنة “المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة” إليها ذلك،

وُتقدم جميع التقارير إلى الأمين العام للأمم المتحدة، الذي يحيلها إلى اللجنة للنظر فيها. ويشار وجوبًا في التقارير المقدمة إلى ما قد يقوم من عوامل ومصاعب تؤثر في تنفيذ أحكام هذا العهد.

بموجب تلك المادة، تقدمت مصر نهاية عام 2019 بالتقرير الدوري الخامس إلى اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، ثم أعادت إرساله بعد أن أجرت عليه بعض التعديلات في مارس من عام 2021، فوافتها اللجنة بتقرير مفصل شمل ملاحظات عديدة تصب كلها في عدم التزام مصر بمواد العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.

بعد تسلم مصر لملاحظات اللجنة على تقريرها الدوري الخامس، عملت على إعداد تقرير يتضمن الردود على تلك الملاحظات، استعدادًا لمناقشته خلال اجتماعات الدورة الـ137 لأعمال اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في مدينة جنيف بسويسرا، والتي تستعرض تقارير مصر وبنما وبيرو وسريلانكا وتركمانستان وزامبيا، بشأن تنفيذها أحكام العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

الوفد المصري الذي توجه إلى جنيف لمناقشة الملف المصري برئاسة السفيرة مشيرة خطاب، رئيسة المجلس القومى لحقوق الإنسان، عرض أول أمس تقييما لتقرير اللجنة المعنية بحقوق الإنسان وتضمن حالة الحقوق المدنية والسياسية فى مصر خلال الفترة من نوفمبر 2020 حتى سبتمبر 2022.

“خطّاب” أشارت خلال مداخلتها، إلى أن هناك إرادة سياسية لتعزيز حالة الحقوق المدنية والسياسية في مصر، مستعرضة بعض الخطوات التي جرت خلال العامين الماضيين في هذا الشأن، بدءًا من إطلاق سراح عدد من المحبوسين وإعادة دمجهم، مرورًا بإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وصولًا إلى فتح المجال لحوار وطني مع التيارات السياسية المعارضة.

وكما خلت الردود المصرية المتضمنة في التقرير من الاعتراف بأن ملف الحقوق والحريات بمصر يمر بأزمة عميقة تستوجب التوقف وإعادة النظر في العديد من الممارسات، خلت أيضًا مداخلات أعضاء الوفد المصري من الإقرار بأن هناك قصورًا يجب علاجه.

ضمن الملاحظات التي أوردتها اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في الأمم المتحدة أن السلطات المصرية تحاصر حرية الرأي والتعبير وتضع قيودًا مقننة على منصات الصحافة والإعلام. وهو الجزء الذي ستناقشه السطور القادمة، ليس لأن هذا الملف أولى من ملفات أخرى شملها تقرير اللجنة، بل لأسباب تتعلق باهتمامات صاحب المقال وإيمانه العميق بأن حرية الرأي والتعبير هي قاعدة بناء الدولة المدنية الديمقراطية التي تحترم حقوق مواطنيها.

اللجنة لفتت النظر في تقريرها إلى أن مواد قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018 لا تتوافق مع المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية «يجيز القانون حجب المواقع الصحفية والشخصية، ويفرض متطلبات إدارية وإجراءات ترخيص ترهق الأفراد الراغبين في نشر المعلومات في مصر».

وذهبت اللجنة إلى أنها تلقت معلومات موثقة تشير إلى أن معظم وسائل الإعلام تسيطر عليها السلطة التي تمارس الرقابة على المنصات الصحفية والإعلامية وتحجب العديد من مواقع الانترنت، داعية الحكومة المصرية إلى الرد على «الادعاءات المتعلقة بزيادة عدد الاعتقالات التي يتعرض بها الصحفيون».

في تقريرها على ملاحظات اللجنة فيما يخص القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير واستقلال الصحافة، قدمت مصر ردودًا إنشائية، تضمنت عرضًا جامدًا لنصوص دستورية لم يتم تفعيلها، بل للأسف صدرت تشريعات ولوائح تخالفها بشكل صريح، وضربت السلطة بعرض الحائط دعوات الجماعة الصحفية والمنظمات الحقوقية التي طالبت باحترام نصوص الدستور وتنقيح التشريعات واللوائح من المواد المخالفة لها ووقف الممارسات المقيدة لحق الصحفيين في ممارسة عملهم.

وبعد عرض التقرير المصري لمواد الدستور التي حظرت فرض الرقابة على وسائل الإعلام إلا في حالتي الحرب والتعبئة العامة، وألغت العقوبات السالبة للحرية في قضايا النشر والعلانية، وانتقاء بعض المواد من قوانين الصحافة والإعلام والتي تضمن -نظريًا- استقلال الصحافة وعدم مساءلة الصحفيين عن الرأي، أشار الرد المصري إلى أن سلطة حجب المواقع تخضع للسلطة القضائية وإلى أن المجلس الأعلى للإعلام يعمل على تسهيل كافة إجراءات ترخيض الصحف ويضمن ممارسة الصحفيين عملهم ويحيل المخالفين منهم إلى نقاباتهم للتحقيق معهم ومجازاتهم وفقًا للقانون.

وكالعادة وصف التقرير الحديث عن اعتقال الصحفيين بموجب تشريعات مكافحة الإرهاب بأنه «محض مزاعم تفتقر إلى السند».

إنكار الأزمة التي تمر بها الصحافة وتجاهل كل الدعوات التي تطالب برفع القيود عن المنصات الصحفية ووسائل الإعلام وإتاحة هامش واسع من الحرية يمكن الصحفيون من أداء واجبهم، لن يضع فقط الحكومة المصرية في خانة الأنظمة التي تنتهك الحقوق والحريات أمام المنظمات والهيئات الدولية، بل سيؤدي إلى استمرار هجر الجمهور للمنصات الصحفية التي تبث من داخل مصر، نتيجة فقدان هذا الجمهور الثقة في المحتوى الذي تقدمه تلك المنصات التي يعلم جيدًا أنها تقع تحت سيطرة السلطة.

لا يمكن لمنصات الإعلام المصرية المسيطر عليها أن تقنع الجمهور وترضي شغفه في الحصول على معلومة حقيقية وخبر موثوق ورأي مختلف، وهي تنشر وتبث محتوى لا يستعرض قضاياه، وإن فعلت تقدم وجهة نظر واحدة وتكتم كل صوت مخالف.

إذا أردنا أن نجبر الشروخ التي نالت من بنية الإعلام المصري وهزت ثقة المتلقي فيه وأدت إلى ملاحقة السلطة في المحافل الدولية بانتقادات إثر حصارها له وفرضها العديد من القيود عليه، علينا أولًا أن نعترف بأن السنوات السبع الماضية شهدت العديد من الانتهاكات في حق الصحافة والصحفيين وأصحاب الرأي، وبدلًا من الإصرار على إنكار تلك الانتهاكات نبادر بوضع خارطة طريق تتعهد فيها السلطة بجملة من الإجراءات التي تضمن تحويل نصوص الدستور ومواد العهد الدولي إلى واقع ملموس.

هناك توافق عام بين الجماعة الصحفية وجملة المهتمين بملف حرية الرأي والتعبير على عدد من الإجراءات التي تصب في علاج الأزمة، ويمكن إجمال تلك الإجراءات في:

أولًا: وقف الرقابة على وسائل الإعلام، ومنحها حرية تحديد أجندتها التحريرية، بما يسمح لها بنقل الأخبار وفق ترتيب أهميتها، واختيار القضايا والملفات التي ستشتبك معها، وتحقيق التوازن والموضوعية في عرض آراء المصادر والخبراء الذين سيناقشون تلك القضايا.

ثانيًا: مراجعة منظومة التشريعات المنظمة للعمل الصحفي، والتي تتضمن مواد تحاصر استقلال الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وتحد من ممارسة الصحفيين لمهام عملهم، وعلى رأسها قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018.

ثالثًا: إلغاء العقوبات السالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب عن طريق النشر والعلانية في قانون العقوبات رقم 58 لسنة 1937، وتعديلاته أو في أي قانون آخر، تفعيلًا للمادة 71 من الدستور التي حظرت توقيع هذا النوع من العقوبات، إلا في حالات بعينها، على أن يُخلى سبيل الصحفيين والمدونين وأصحاب الرأي المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا نشر.

رابعًا: إنهاء الممارسات الاحتكارية التي سيطرت على المشهد الإعلامي إنفاذًا لمواد الدستور والقانون، التي فرضت على الدولة ضمان حرية المنافسة بين المنصات الإعلامية، بما يتيح إنتاج محتوى صحفي متنوع.

خامسًا: رفع الحجب عن المواقع الإلكترونية الصحفية المحجوبة، وإنهاء وتسهيل إجراءات ترخيص المواقع التي تقدمت بأوراق ترخيصها للمجلس الأعلى للإعلام دون تدخل من أي جهة، مع الأخذ في الاعتبار تعديل مواد القانون واللوائح ذات الصلة، والتي قيدت إطلاق المواقع وفرضت رسوما مبالغ فيها على كل من يسعى إلى تأسيس مشروع إعلامي.

قد تكون انتخابات مجلس إدارة نقابة الصحفيين التي ستجرى خلال أيام مناسبة لأن تتكتل الجماعة الصحفية حول مطالب تواجه بها ممارسات التقييد والرقابة والاحتكار التي فَرضت على المشهد الصحفي، وعلى جميع الأطراف ذات الصلة أن تطالب برفع وصاية السلطة على الإعلام وتحويل نصوص الدستور ومواد التعهدات الدولية التي وقعت عليها مصر إلى واقع يُمكن فيه المصريون من حقهم في صحافة حرة تنقل إليهم وتعبر عنهم.