مثل كل الأزمات في مصر، تتمثل أزمة الصحافة أول ما تتمثل في إنكار حقيقة الأزمة، وأحيانًا إنكار وجودها من الأساس. تلك هي الأزمة الحقيقية في مصر اليوم.
أزمة الصحافة هي أزمة وطن مأزوم، ومجتمع مكبل بالقيود، هي أزمة حرية بالأساس.
لا يمكننا الحديث عن طريق للخروج من كل هذه الأزمات التي تحيط بنا في الداخل، وتأتينا من الخارج في وجود أزمة تعبير، وفي وجود مصادرة للحريات، وفي وجود صحافة مٌكممة، وإعلام لا يصدر إلا عن صوت واحد، ولا حديث فيه يعلو فوق حديث السلطة.
المشكلة أن أهل السلطة يغفلون، أو يتغافلون، عن حقيقة أن حرية الصحافة واستقلال الإعلام يُخدم على القضايا الوطنية، وأن تكميم الأفواه ومصادرة الحريات وكسر الأقلام لا يمكن أن يكون وصفة لإصلاح الأحول.
حرية الصحافة واستقلال وسائل الإعلام واحدة من أهم المخارج، بل هي المخرج الرئيسي، ليس من أزمة تجتاح مهنة الصحافة فقط، ولكنها تعبد الطريق أمام الخروج من أزمات الوطن.
تعدد الأزمات وتفاقمها يدعونا إلى تعدد الآراء حول طرق مواجهتها، وسُبل التعامل تجاهها، وحرية الصحافة والإعلام، هي ضمانة الخروج الآمن من كل هذه المآزق.
**
منذ 18 شهرًا، اطلع العالم على «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان»، وفيها أن المبادرة بإعدادها جاءت «ترجمة لقناعة وطنية ذاتية بضرورة اعتماد مقاربة شاملة وجدية لتعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية». وظل العالم المهتم بحقوق الإنسان يتابع ما يجري على أرض الواقع، فلا يجد هذه «القناعة الذاتية» محققة بأي نسبة، ولا هي واردة في التطبيق العملي بأي صورة.
تعترف الدولة أمام العالم بالأزمة، وتنكرها أمام مواطنيها. في سطور استراتيجيتها الوطنية لحقوق الانسان، تؤكد أن هناك «قصورًا في ملف الحقوق والحريات، وتتعهد بإصلاح الخلل الذي شاب هذا الملف خلال السنوات الماضية»، ولكنها لا تعترف بأي درجة من درجات الشفافية بهذا القصور، بل وتنفي وجوده، فكيف تصلح خللًا تنكره، تلك هي المشكلة.
تعهدت السلطة بضمان «إعلاء قيم الحرية والكرامة والإنسانية والعدالة الاجتماعية»، احترامًا لرغبة وإرادة الشعب المصري الذي «قام بثورتين مطالبا بالإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي».
ولكن يبقى الكلام كلامًا يكذبه الفعل.
**
أزمة الصحافة هي أزمة الحرية في مصر، قبل أن تكون أزمة ورق ومستلزمات الطباعة. هي على الحقيقة أزمة مجتمع مغلق، وحريات مصادرة، ورأي عام مغيب، وحوار مقطوع، ونقد ممنوع، وقلوب خائفة، وعقول واجفة.
الحديث عن ضعف المحتوى في الصحف المصرية هو تغطية عن أزمة الصحافة الحقيقية، حيث ضعف المحتوى مظهر من مظاهرها، هو نتيجة طبيعية لضعف منسوب الحرية، وخفض السقف ومصادرة الهوامش التي كانت متاحة من قبل ثماني سنوات.
أزمة الصحافة اعترفت بها الورقة الحكومية التي صدرت للتصدير إلى الخارج باسم «الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان» والتي أكدت ـ وهذا كلام السلطة وليس حديث المعارضة ـ «غياب التنوع في وسائل الإعلام ما يجعلها لا تعكس بالقدر اللازم تعددية الرؤى والآراء».
المشكلة أننا نعترف أمام العالم بالأزمة على حقيقتها، ثم ننكر وجودها في حديثنا إلى أنفسنا.
مضى 18 شهرًا على إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وفيها حديث كثير عن الصحافة والإعلام، وفيها مستهدفات يجب تحقيقها «على رأسها إصدار قانون لتنظيم حق الحصول على المعلومات، وتعزيز مناخ حرية التعبير والتعددية وتنوع الآراء إزاء مختلف القضايا العامة، ومراجعة القوانين القائمة لضمان كفالة ممارسة الحق في التعبير عن الرأي».
ورغم ذلك، ظلت هذه المستهدفات أحبارًا سالت على أوراق وضعت في أدراج النسيان، كأنها لم تكن إلا ذرًا للرماد في عيون الباحثين عن طريق للخروج من كل تلك الأزمات، ومن بينها أزمة الصحافة ومأساة الاعلام.
**
تدرك السلطة أن مواد الدستور تحصن حق المواطنين في التعبير عن رأيهم بكل الوسائل، وتكفل حقهم في الحصول على المعلومات ونشرها، وتشدد على ضرورة الالتزام باستقلالية الصحف ووسائل الإعلام، وحظر فرض الرقابة عليها إلا في زمن الحرب والتعبئة العامة، وعدم توقيع عقوبات سالبة للحرية في الجرائم التي تقع عن طريق النشر والعلانية.
ولكنها رغم ذلك تضرب بتلك النصوص عرض الحائط، وتحولها إلى نصوص ميتة لا حياة فيها إلا بالقدر الذي تسمح به، وفي الظروف التي تراها مناسبة لها.
وتدرك السلطة بنص كلامها أن «تعدد وسائل الإعلام وتنوعها، لا تعكس بالقدر اللازم تعددية في الرؤى والآراء». والحقيقة أنها لا تعكس بأي قدرٍ أي تنوعٍ في الرؤى، ولا تظهر بأي شكلٍ أي تعددٍ في الآراء.
والسؤال: ألم تكن تلك الشهور الثمانية عشر التي مرَّت على إصدار تلك الوثيقة كافيةً لتحويلها إلى واقع ملموس، وحقيقة قائمة؟
**
أزمة الصحافة هي جزء لا يتجزأ من أزمة غياب الحوار العام في البلد. ويكفي أن نشير سريعًا إلى أننا إزاء دعوة إلى حوار وطني أطلقت منذ ما يقارب العام، ولكنه لم يبدأ، وإذا بدأ لا يمكن التكهن بأنه سيكون جادًا، ومفيدًا، ومنتجًا.
الصحافة بحسب طبيعة وظيفتها هي قاطرة الحوار العام في الوطن، وهي وقود التحاور بين السلطة والمجتمع، وهي الزيت الذي يشعل مصابيح البحث عن الحقيقة.
حين تُحال القاطرة إلى المعاش المبكر، فلا ضمانة لقيام حوار وطني حقيقي، وحين يُصادر الوقود، فلا قيامة للتحاور الموضوعي، وإذا صودرت مصابيح المعرفة فلا شيء غير دياجير الظلام.
**
لفت نظري لدى مطالعة تعليق وزير العدل المصري المستشار عمر مروان أمام اللجنة المعنية بحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة في جنيف، أنه حرص على ذكر الحوار الوطني، الذي قال إنه انطلق في يوليو 2022 الماضي، وقال إنه جاء شاملًا لمختلف الاتجاهات السياسية ليكون رافدًا لرسم السياسات المستقبلية!.
رغم أن قطار الحوار لم يفارق محطته الأولى، ولم تتحرك عجلاته على القضيب من لحظة الدعوة إليه قبل حوالي العام.
وكذلك أشار الوزير إلى ارتفاع عدد التراخيص الممنوحة لوسائل الإعلام من المجلس الأعلى للإعلام الذي بلغ 806 تراخيص حتى نهاية 2022. رغم أنها في ظل الأحوال التي تمارس فيها المهنة ليست إلا عددًا في الليمون كما يقال، فهل تُحس منهم من أحدٍ أو تسمع لهم ركزا؟
**
أوجاع الصحفيين كثيرة، أكبرها أن الصحافة هي المهنة الوحيدة التي يُحبس بسببها الذين يمارسونها على الوجه الصحيح لها، فهي مهنة البحث عن الحقائق في بحر لُجيٍ من التعتيم، وعدم توفر المعلومات، وإصرار حكومي على الإخفاء، حتى صارت عملية النشر مجازفة غير محسوبة العواقب، قد تودي بالناشر والكاتب إلى ما لا يُحمد عقباه.
إلى وقت قريب كانت مصر تحتل المركز الثالث على العالم في حبس الصحفيين طبقًا لبيانات لجنة حماية الصحفيين الدولية، أن يجد الصحفي نفسه حبيس الزنازين بسبب كلمته، أو رأيه، أو بسبب التعبير عن هذا الرأي، هي على الحقيقة مأساة كبرى، ووجع شديد.
أن يتم التعامل مع الصحفي باعتباره مرتكبًا جريمة حين يزاول مهنته موجع ومؤسف، فضلًا عن كونه غير قانوني، ولا دستوري، حتى وصل الأمر إلى أن يرفع الصحفيون شعارًا مؤسفًا في جوهره يصرخ في وجه قمع الصحفيين وحبسهم بأن: «الصحافة ليست جريمة»!
**
من أوجاع الصحفيين أن أعدادهم ـ بسبب توجهات سياسات خاطئة، وخطايا نقابية كثيرة ـ تضاعفت وقفزت في السنوات العشر الأخيرة لتقترب من ضعفي العدد الذي كانت عليه طوال تاريخها، كان يمكن أن يكون هذا خبر مفرح، ونبأ سعيد لو روعي معيار الكفاءة واعتبِر معيار التأهيل للعمل في الصحافة.
الأسوأ أن تزايد أعداد الصحفيين واكبه تناقص في أعداد الصحف الصادرة، تناقص يبدو مخيبًا للآمال خاصة إذا عرفنا أن عدد الصحف حسب إحصائية للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء وصل إلى 59 صحيفة، عوضًا عن 142 في عام 2010، هذا التراجع الذي يصل إلى النصف أدى إلى وضع وجد الصحفيون فيه أنفسهم وقد تكدست بهم مكاتب وطرقات الصحف القائمة، حتى تحولت أكثريتهم إلى بطالة مقنعة، وصارت غالبية الصحفيين بلا عمل خاصة في الصحف القومية.
**
ومن أوجاعنا التي لا تعترف بها السلطة، ولا تلقى نظرة تعاطف من المجتمع تتمثل في أن أجور الصحفيين صارت من أدنى الأجور في المجتمع، وقد كانت في السابق ـ سواء قبل صدور قانون تنظيم الصحافة في أوائل الستينيات من القرن الماضي أم بعده ـ تتراوح بين المراتب الثلاثة الأولى للأجور في الدولة.
أذكر أن الراحل سامي شرف سكرتير الرئيس عبد الناصر للمعلومات قال لي مرة أن راتب رئيس تحرير جريدة قومية (يقصد الأستاذ هيكل) كان يفوق راتب رئيس الجمهورية وقتها (جمال عبد الناصر). حيث كان يحصل على 500 جنيه شهريًا بدون الاستقطاعات التي كانت تخفض راتب الرئيس ولا تبقى له غير 397 جنيهاً فقط، رغم أن هيكل لم يتقاض راتبًا عن عمله كرئيس لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام.
وحين قرر الرئيس أنور السادات نقل عدد من الصحفيين إلى جهات حكومية بعد أزمة بيان المثقفين في فبراير 1972 الذي طالبه بعدم التسويف في اتخاذ قرار الحرب، كانت مشكلة هذه الجهات الحكومية أن رواتب الصحفيين تفوق أحيانًا ما يتحصل عليه كبار الموظفين في الوزارات المنقولين إليها.
**
يعاني الصحفيون اليوم من تدني أجورهم حتى صار الحد الأدنى للعمالة في القطاع الخاص (3000 جنيه) يزيد عن ضعف الحد الأدنى الذي يعين عليه الصحفي (1200 جنيه)، وخرج الصحفيون نهائيًا من التصنيف في جدول الأجور في مصر، بعد أن كانوا يتصدرون هذا التصنيف أزمانًا طويلة.
الوضع الاقتصادي للصحفيين بلغ حد الخطر حسب تعبير نقيب الصحفيين الأسبق يحيى قلاش، وهو التعبير الذي حمله إلى أكثر من وزير للمالية وإلى رئيسي حكومة في فترته النقابية، وقد فوجئ بأن الحكومة نفسها لديها تصور خاطئ عن أجور الصحفيين، وقال له بعض المسئولين إنه يعتقد أنها تصل إلى 10 آلاف في الشهر، وكانت أدنى من ذلك كثيرًا، وكان ذلك قبل التعويمات المتتابعة لقيمة الجنيه المصري.
**
كل الصحف (قومية وحزبية وخاصة) تعاني من أزمة تمويل، وقد لا يدرك البعض أن الانخفاض المستمر في قيمة الجنيه المصري ينعكس سلبًا على الصحافة في مصر، ربما بأكثر مما ينعكس في مجالاتٍ أخرى، حيث ترتفع باستمرار قيمة وأسعار مستلزمات طباعة الصحف، إضافة إلى انكماش سوق الإعلانات، التي كانت في الماضي القريب مصدرًا رئيسيا لعمليات التمويل.
وتعاني كل الصحف كذلك من أزمة توزيع في ظل تراجع مستوى معيشة الطبقة الوسطى، التي كانت تعتمد عليها تلك الصحف في توزيعها، ولا شك في أن تراجع إقبال الناس عن شراء الصحف ضمن حالة إحجام عامة عن قراءة الصحف، تفاقم من الأزمة المالية في الصحف.
**
أكبر خطأ ترتكبه السلطة في حق نفسها قبل أن يكون في حق الصحافة أو في حقوق الصحفيين ذلك التصور الذي ينبني عليها طرق تعاملها مع «ملف الصحافة والإعلام».
ذلك التصور الذي يقوم على فرضية هي الأخرى خاطئة تفترض أن ما جرى في 25 يناير 2011 وما بعده هو نتيجة مباشرة لخطأ ارتكبه نظام مبارك حين سمح بهامش لحرية التعبير أودى به في نهاية الأمر إلى التخلي عن منصب رئيس الجمهورية.
هناك ألف سبب وسبب لهذه النهاية التي صار إليها مصير الرئيس مبارك غير هامش حرية التعبير الذي سمح به في العشرية الأخيرة من مدة حكمه الطويلة.
**
يتجاهلون تغول جهاز الشرطة وتزايد ممارساتها القمعية باطراد أدى الى أن ينحصر مطلب يوم 25 يناير في إقالة حبيب العادلي بالإضافة إلى تطلعات إلى الحرية والعدالة والكرامة.
يتجاهلون طول مدة حكم الرئيس مبارك التي وصلت الى 30 سنة كانت قابلة للزيادة الى 36 سنة لو ترشح في انتخابات 2011.
ويتجاهلون مشروع توريث الحكم لنجله جمال الذي دمر إمكانية استمراره في الحكم قبل أن يدمر فرص نجله في خلافته، خاصة وأن التوريث كان يشبه الحرام الدستوري لدى أغلبية الشعب المصري، ولم يلق أي استجابة على مستوى القوات المسلحة المصرية، ولم يكن مستساغًا لدى قيادة هذه القوات.
**
كل هذه الأسباب هي الأصل في إزاحة حكم مبارك، قبل أن يكون هامش الحرية المحكوم بالقبضة الحديدية لحبيب العادلي.
وعلى العكس من هذا التصور الخاطئ فإن هذا الهامش المُدعى عليه بالمسئولية عن إسقاط مبارك هو على الحقيقة الذي مدَّد عمره الرئاسي، وأعطاه فرص الاستمرار مع التعديل، ولكنه أهدر الفرصة وأضاعها كلها، وضيَّع على مصر إمكانية تجنب الكثير من المخاطر التي هددت المسيرة الوطنية خلال السنوات العشر الأخيرة.
حرية الصحافة لا تصنع الفوضى، ولكنها تقي منها، لا تُغلق الأبواب أمام التغيير، ولكنها تُرشده، لا تؤلب على الحاضر، ولكنها تستشرف المستقبل.
الصحافة مهنة في أزمة، والصحفيون تضربهم أوجاعهم، في ظل نقابة مصادرة.
ولكن تلك قضية أخرى نتناولها الأسبوع المقبل.