مضت عدة شهور منذ دعوة الرئيس لحوار وطني حول أولويات العمل خلال الفترة المقبلة. مرت فترة الإعداد للحوار بعدد من المحطات، أبرزها كان اختيار الحركة المدنية الديمقراطية، لكي تكون المظلة السياسية للمعارضة في جلسات الحوار. وعلى هذا الأساس قدمت الحركة مرشحين لعضوية مجلس أمناء الحوار. كما اقترحت عددا من المقررين ومساعديهم لإدارة اللجان المختلفة.

أصدر مجلس أمناء الحوار عددًا من البيانات تباعًا، أعلن فيها ما تم من خطوات، كان أبرزها إصدار محاور الحوار وتقسيم الموضوعات على اللجان المختلفة، ثم توقفت الماكينة تمامًا. تمر الأسابيع والشهور ولا يظهر أن هناك تحركًا بخصوص إعلان أسماء المدعوين للمشاركة في الحوار، والموعد المرتقب لبداية الجلسات.

خلال الأسابيع الماضية، بدأت تخرج عدد من التصريحات من جانب قياديين في الحركة المدنية يلوحون بالانسحاب من الحوار الذي لم يبدأ بعد. ترافق ذلك مع تصريحات من سياسيين آخرين يتهمون المعارضة بتعطيل الحوار، ووضع الشروط والعراقيل أمام السلطة، مقابل المشاركة في الحوار.

حتى لحظة كتابة المقال لم يصدر أي بيان واضح من الحركة المدنية يحدد موقف الحركة النهائي من الحوار، والرد على ادعاءات تعطيل الحوار.

منذ أيام أجرى الوزير السابق والقيادي بالحركة المدنية “كمال أبوعيطة”، حوارًا صحفيًا تحدث فيه بوضوح عن رغبته في انسحاب الحركة من الحوار، في حالة رفض السلطة الإفراج عن سجناء الرأي.

لم تضع المعارضة شروطًا مسبقة قبل بداية التجهيز للحوار، ولكنها طلبت عددًا من الخطوات لإثبات “حسن النية” من جانب الدولة. وهو ما ترى الدولة أنها قد قدمته بالفعل، بالإفراج عن مئات المحبوسين خلال الشهور الماضية، وتراه المعارضة غير كاف، خصوصًا مع استمرار الأمن في القبض على آخرين في قضايا رأي جديدة، وعدم خروج باقي السجناء إلى الآن.

باختصار، انحصرت مطالب المعارضة حول الإفراج عن السجناء قبل بدء الحوار. وهو ما ترفضه السلطة، وتصر على الاستمرار في مسارها بإصدار قائمة إفراج كل عدة أسابيع.

أتصور أن عملية التفاوض من البداية بنيت على أساس غير متين، وتحت ضغط وجود عشرات الكوادر السياسية والشخصيات المؤثرة داخل السجون. وهو ما تسبب في اعتبار المعارضة أن الهدف الرئيسي لدخول الحوار هو الإفراج عن أكبر عدد ممكن من سجناء الرأي. وهو ما تطور فيما بعد إلى تحول هؤلاء السجناء لأوراق تفاوضية على طاولة الإعداد للحوار.

السلطة لديها تخوفات أخرى بشأن انسحاب المعارضة من الحوار قبل ختامه. وهو تصور مفهوم وفقًا لتاريخ المعارضة الطويل من المواقف المشابهة، وتاريخ النظام الطويل في عدم الرغبة بتغيير سياساته، أو حتى إجراء إصلاحات حقيقية، واكتفاء السلطة ببعض التغييرات الشكلية، والتي لم تحقق المرجو منها حتى الآن، ولعل “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الانسان” مثال بارز على ذلك.

نقف الآن في لحظة فاصلة بشأن بدء الحوار. حيث يتمسك كلا الطرفين بمواقفهما. وهو ما ينذر بضياع فرصة الحوار، باعتباره آلية تحقق تواصلا فعّالا بين السلطة والمعارضة، دون الدخول في صدام يهدد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتأزمة بالفعل.

بالرغم من أن موقف المعارضة يبدو مثاليًا في تلويحها بالانسحاب من الحوار، إلا أنني في هذه اللحظة لا أرى في مزيد من الانسحابات حلًا، السبب الرئيسي في وجود معارضة حاليًا بعد سنوات من الضغوط من جانب السلطة، هو أن هناك عشرات من الأشخاص رفضت الانسحاب من السياسة، وحاولت بشتى الطرق فتح منافذ للتعبير عن رأيها، ومحاولة إيجاد مساحات للعمل السياسي، وفي سبيل ذلك، دفعت المعارضة الثمن غاليًا عبر العشرات من سجناء الرأي ممن قضوا شهورًا وسنوات خلف القضبان.

كنت من أكثر المعارضين لفكرة مقاطعة الاستحقاقات الدستورية، باعتبارها “موسم سياسي” لا يمكن تجاهله، بنفس المنطق أرى الحوار موسمًا جديدًا للسياسة، فرصة لبيع بضاعتنا التي تهالكت في مخازنها، واستغلال ذلك الموسم أيًا كانت قيود الدولة هو واجب، يفرضه علينا حاجة المجتمع الماسة إلى السياسة، ورغبة الشعب في سماع أصوات مختلفة وسياسات بديلة.

وجود المعارضة في الحوار الوطني هو حق انتزعته المعارضة بعد نضال طويل. وبالرغم من أن الحوار غير ملزم بتوصياته ليتم تنفيذها، إلا أن تلك التوصيات سوف تكون شاهدة على محاولة المعارضة بكل الطرق تغيير الأوضاع الحالية، والمسئولية الوحيدة تقع على عاتق السلطة التي بيدها تنفيذ تلك المخرجات أو استمرارها في نفس السياسات.