خلال عدة أشهر فقط، استطاعت منصة “هوج بول” الإيقاع بنحو 600 ألف مواطن مصري من طبقات اجتماعية دون المتوسطة، حولوا لها مبالغ تتراوح بمليارات الجنيهات، سعيًا وراء ربح يومي عبر التنقيب عن العملات المشفرة.
لا يوجد تقدير رسمي للأموال التي جمعتها المنصة إلى الآن، في ظل استمرار تقديم البلاغات لأقسام الشركة. بينما تدور التقديرات حول 200 و300 مليون دولار، أي ما يعادل ما بين 6 و9 مليارات جنيه مصري. على اعتبار أن متوسط ما جمعوه من الشخص الواحد يتراوح بين 10 و15 ألف جنيه.
رغم تكرار قضايا توظيف الأموال في مصر على مدار الأعوام الماضية. لكن “هوج بول” لها طبيعة خاصة. ذلك لارتباطها بالتنقيب عن العملات الرقمية. وهو نشاط محظور من البنك المركزي المصري. ما يعني أن الضحايا مدانون في الوقت ذاته. ما يجعل قطاعا كبيرا منهم غير قادر حتى على تقديم بلاغ لأقسام الشرطة.
وبحسب بيان وزارة الداخلية، فإن إدارة الموقع “تضم 29 شخصًا “13 منهم يحملون جنسية إحدى الدول الأجنبية، واتخذوا من فيلتين سكنيتين بالقاهرة مقرًا لمزاولة نشاطهم غير المشروع. وكانوا بصدد إطلاق تطبيق إلكتروني آخر تحت مسمى RIOT (تعني الشغب بالعربية)، لذات الغرض، ومن أجل استكمال نشاطهم الإجرامي. وأنهم جمعوا حوالي 19 مليون جنيه قبل إلقاء القبض على بعضهم”.
توقيت القضية ذاته يثير العديد من التساؤلات؛ فالضحايا تم جمع أموالهم في توقيت طرحت فيه الدولة عبر أذرعها البنكية “الأهلي، ومصر، والقاهرة”، شهادات سنوية بعائد يصل إلى 25%. وهو معدل فائدة غير مسبوق. وإن تم إعلانه في ظل معدلات تضخم غير مسبوقة أيضا.
“هوج بول” واستقطاب الفقراء
لطالما عمدت شبكات توظيف الأموال على مداعبة جميع الطبقات الاجتماعية. لكن “هوج بول” استقطبت الشباب من الطبقات الفقيرة وما دون المتوسطة، بتقليص المبلغ الذي يمكن استثماره إلى حدود الألف جنيه فقط.
داعبت الشركة في البداية الشباب المهووس بعالم العملات الرقمية بعروض لشراء آلات مساعدة للتنقيب للعملات الرقمية، في خارج مصر. وهي فكرة جربها بعض الشباب بالفعل عبر التعاقد مع شركات للتنقيب عن العملات الرقمية عن بعد في كازاخستان، على أن يتم اقتسام العائد.
الجهاز الذي روجت له الشركة لا يتعدى 10 دولارات “320 جنيهًا” مصري، ويدر عائدًا يوميًا بقيمة دولار “32 جنيهًا”. وكلما اشتريت عدد أكبر من الأجهزة تضمن عائدًا يوميًا أعلى، والأموال كان يتم تحويلها عبر محافظ شركات المحمول.
كغالبية شبكات توظيف الأموال، تم الاعتماد على الشركة الأفقية، بجذب العملاء (عميل يجذب عملاء آخرين مقابل نسب)، والتزمت في البداية بتحويل العوائد ما أغرى مئات الآلاف بالانضمام إليها، وتحميل التطبيق الذي ظل في الخدمة حتى توقف قبل أيام.
اقرأ أيضًا: كابيتر “فشل” الأخوين نوح.. آفة شركاتنا غياب دراسات الجدوى
البلاغ الذي تقدم به المحامي محمد حامد سالم، ضد محمد الصعيدي، مدير وممثل شركة “هوج كميونتي تيك”، يكشف عن وجود شبكات من الأصدقاء والأقارب وقعوا ضحايا للنصب على المواطنين والحصول منهم على مبالغ مالية كبيرة. ذلك بعد إيهامهم العملاء بالكسب عن طريق الهاتف والكمبيوتر.
طبقت الشركة سيرة “تشالز بونزي” الأمريكي الشهير، الذي أسس نظرية في الاحتيال لا تزال تحمل اسمه حتى اليوم “هرم بونزي”، باتباع نظام نمط السلسلة. فكل عميل في البداية يصبح هو بداية سلسلة من العملاء من شبكة معارفه، لتحصل الشركة على الكثير من الأموال من المستثمرين وتدفع لهم بالفعل. وكلما زادت ثقتهم استثمروا مبالغ أكبر، وفجأة تزاول الشركة النصب، ولا تدفع لأحد ويهرب صاحبها بكل الأموال.
لتحقيق مزيد من الثقة لجأت الشركة لحيلة أشد ذكاءً بفتح نشاط رسمي في جهاز تنمية التجارة الداخلية بوزارة التموين، واستخراج سجل تجاري باسمها في حي المقطم، مع جعل نشاطها الأساسي مجال التكنولوجيا. وهي كلمة فضفاضة تسهل خداع الزبائن، وتتماشي نظريًا مع نشاطها في العملات الرقمية، كخطوة جذبت المزيد من العملاء مع تصدير تلك الشهادة الرسمية في صدر موقعها الرسمي.
ورقة “هوج بول” الرابحة
رغم حظر نشاط العملات الرقمية بمصر. لكنها تزاول في الخفاء بأعداد متزايدة، حتى ارتفعت عمليات تسجيل المستخدمين المصريين في بورصة العملات المشفرة CEX.IO في المملكة المتحدة بنسبة 250% في يناير/ كانون الثاني 2021، مقارنة بالشهر السابق عليه، وفق تقرير لمنصة “كوين ديسك” لتداول العملات الرقمية،
بحسب التقرير ذاته، فإن أحجام التداول الخاصة بالمصريين ارتفعت الفترة ذاتها بنسبة 400% على المنصة المذكورة. كما شهدت منصة “لوكال بيتكوين” تضاعفًا بعمليات التسجيل الجديدة وأحجام التداول 100% عامي 2019 و2020.
اقرأ أيضًا: ضعف “الثقافة البنكية” يفتح الباب أمام عمليات “النصب الإلكتروني”
النائبان هشام سعيد وهالة أبو السعد، عضوا مجلس النواب، تقدما بطلبي إحاطة للمجلس، موجهين لرئيس الوزراء، يطالبان فيهما بسرعة الوصول للمسئولين عن المنصة في مصر ومحاسبتهم وإعادة أموال المودعين البسطاء، الذين تم خداعهم بعرض مكسب يومي، قيمته أربعة دولارات مقابل إيداع مبلغ ألف جنيه.
رغم دعوات النائب لمحاسبة مسئولي الشركة. لكن الضحايا ذاتهم لا توجد مظلة قانونية لهم. فالمادة (206) من قانون البنك المركزي، تحظر إصدار العملات المشفرة أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها.
يطالب النائب هشام سعيد بحجب مثل الإعلانات والمنصات الوهمية، التي ليس لها ترخيص، وإجراء تحقيق موسع في قضية “هوج بول” بهذا الشأن، وتشديد الرقابة على مواقع التواصل لمنع تسلل المحتالين وانتشارهم. بينما طالبت أبو السعد الحكومة بالكشف عن أسباب انتشار تلك المنصات التي تخدع المواطنين وتستولى على أموالهم، وكيف تعمل بغير نطاق قانوني يحكمها؟.
كيف خدعهم التطبيق؟
لا يعرف عن محمد جمعة محمد الصعيدي، صاحب التطبيق سوى أنه شاب من مواليد 1987 من الجيزة، أطلق التطبيق، ووضع له طريقة شديدة التعقيد من أجل ضمان عدم تسرب الشك إلى المتخصصين في التنقيب عن العملات الرقمية. ذلك إلى جانب ضمان أن يكون كل فرد عنصرًا ترويجيًا. فالتسجيل الناجح لا يتم إلا عبر الحصول على رمز دعوة لأصدقاء.
في كل مراحل التداول عبر التطبيق يتم تعزيز نشر المنصة، فكلما دعوت صديقًا تحصل على 10% من إجمالي حجم التداول والأرباح، وصديقك له ربح مماثل في حسابه. وفي ظل احتياج التعدين لمصدر طاقة ضخم وأجهزة فائقة وحظره رسميًا، تمت مداعبة المتعاملين باستخدام خدمات عمال المناجم المجهزين في المنصة.
تظهر العطاءات والأداء وصافي الربح في حساب كل متعامل، وتوجد رموز للتعديل متنوعة تناسب الطبقات الفقيرة والشباب على 8 مراحل؛ أولها “إم 1” يكلف 10 دولارات والعائد الإجمالي هو دولار يوميًا. كما ابتكرت المنصة عملة رقمية خاصة بها، إلى جانب “هوج” للمضاربة وتحقيق ربح يناهز دولارين في اليوم.
لماذا المخاطرة؟
يقول محللون إن شبكات توظيف الأموال بكافة صورها تخاطب الطبقات الفقيرة في المقام الأول التي لديها مدخرات بسيطة فمن لديه ألف جنيه على سبيل المثال لن يتوجه للبنك لفتح شهادة له لأنه يعرف أن العائد سيكون 250 جنيهًا بعد عام.
حنان رمسيس، رئيس قسم التحليل الفنى بشركة الحرية لتداول الأوراق المالية، تحذر من بداية اتساع دائرة النصب عبر المنصات الرقمية. فقبل شهور استطاعت سيدة أعمال حصد الملايين من سكان منطقة التجمع لاستثمارها في العملات الرقمية مثل البيتكوين قبل أن تختفي.
لم تغلق شركة “هوج بول” التطبيق وموقعها الإلكتروني، إلى أن وصلت لنقطة الذروة في جميع الأموال وبدء المتعاملين معها تجميع أنفسهم في مجموعات من أجل التحرك ضدها. وأظهرت تجمعاتهم أنهم ينتمون لكل محافظات الجمهورية وكل منهم لا يعرف عن الشركة الكثير سوى الشخص الذي أغراه بالدخول إليها.
اقرأ أيضًا: “المستريح”.. نصب بالدين والمناديب
ألقت الأجهزة الأمنية القبض على 6 من المسئولين في الشركة، بينما فر 4 منهم للخارج. واتضح أنهم يتعاملون بأسماء مستعارة على شاكلة “تيتو” و”ماركو”، والمستشارة جنيفير والمستشارة مايا وهكذا والأغرب أن بعض المتهمين من هؤلاء المسئولين ذاتهم تحدثوا أنهم ضحايا لرأس الشركة. إذ وظفوا أموالهم بها.
تقول رمسيس إن التطبيق جاء في وقت ترتفع فيه معدلات التضخم. ما داعب خيال بعض المتعاملين الساعين لربح سريع، إلى جانب الطامعين في مكاسب كبيرة. كما استغل ثقافة تعامل الناس مع البنوك ورغبتهم في وضع أموالهم بحرية دون الالتزام بمواعيد كسر الشهادات؛ فالشهادة لا يمكن كسرها إلا بعد مرور 6 أشهر عليها.
سيناريو دائم التكرار
تدور الأفكار ذاتها في شبكات توظيف الأموال منذ ظهورها في أواخر الثمانينات وانتشارها حينها لتصبح -60 شركة كان أبرزها الريان، والسعد والشريف والهدى مصر-.
كانت هذه الشركات تمنح فوائد مالية عالية تفوق النسب المقررة في البنوك. ما ضاعف من الإقبال عليها، خاصة من المصريين العاملين في الخارج.
في الشهور الأخيرة، تم الكشف عن عشرات الشبكات لتوظيف الأموال، كان أشهرها مصطفى “البنك” تاجر المواشي الذي جمع نحو 200 مليون جنيه من الضحايا، و”مستريح” بالجيزة الذي استولى على 300 مليون جنيه من المواطنين بزعم تشغيلها في الأعلاف.
تمثل الرغبة في ثراء سريع، المحرك الأول في قضايا توظيف الأموال. وهو الأمر الذي دفع مئات الآلاف من المتعاملين لوضع أموالهم مع شخص لا يعرفون عنه شيئًا والمخاطرة مع تطبيق ترجمته للغة العربية تنطوي في ذاتها على صدفة ربما لا تخلو من مغزى حتى ولو كان غير مقصود. إذ تعني “هوج”، في اللغة العربية الفصحى الطيش والتسرع والحماقة. ما يعني أنه يمكن أن تتم ترجمة الاسم الإنجليزي للشركة “Hogg Poo” إلى “رهان الحماقة”. مرة أخرى يبدو ولو دون قصد اسم على مسمى.