بدَفْعٍ من الإحساس بالخطر الداهم وفي محاولة إنقاذٍ للمؤسسة التى تفقد يومًا وراء يوم مرونةً كانت تعزز من دورها الأُممي، أعلن مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة على هامش فعاليات مؤتمر المانحين الذي انعقد منذ أيام بتنظيم من حكومتي السويد وسويسرا، أن الأمم المتحدة قد تمكنت من حشد 1.2 مليار دولار، ضمن خطة قوامها 4.3 مليار دولار، تستهدف خلال عام 2023 مساعدة 17.2 مليون نسمة، وهو ما يقرب من نحو 60% من إجمالي أهل اليمن الذي كان سعيدًا.

قال السيد “أنطونيو جوتيريش” الأمين العام للمؤسسة العجوز البالغة من العمر 78 عامًا أريقت خلالها أنهارٌ من الدماء: “إن المساعدات لليمن ما هي إلا ضُمادة مؤقتة وليست علاجًا، فالتمويل ينقصنا بينما الحاجات تتزايد إذ تسبب انهيار الهدنة بين المُتقاتلين في مجاعة لما يزيد عن 2 مليون نسمة”. (يبلغ تعداد أهل اليمن حسب إحصاء 2021 نحو 30.5 مليون نسمة وعدد الأطفال المتوفين نتيجة انعدام الغذاء والرعاية الصحية نحو نصف مليون طفل، وعدد النازحين جراء الحرب نحو 2.5 مليون نازح، حسب بيانات الجهاز المركزي اليمني للإحصاء).

يسعى المؤتمر الأُممي الأخير للحصول على دعم المجتمع الدولي في أربع أولويات حسبما صرح به السيد “جوتيريش” تمثلت في: أولًا- زيادة وعي المجتمع الدولي بالكارثة الإنسانية الحادة وجهود إنقاذ الحياة باليمن، وثانيًا- حماية والتوسع في التطورات المحدودة التي شهدها اليمن في 2022 (يقصد الهدنة التي امتدت نحو ستة أشهر فقط)، وثالثًا- حشد الدعم لمعالجة الدوافع الأساسية للاحتياجات الإنسانية، ورابعًا- الدعوة لإنهاء الصراع.

يبدو الأمر هذه المرة جادًا على نحوٍ ما وكأن المجتمع الدولي قد أفاق فجأة من سباته العميق على كارثة إنسانية نتجت عن صراعات مُتعددة المستويات كان للاقتصاد فيها -باعتباره مُحركًا للنشاط الإنساني- شأنًا كبيرًا.

قبل أيام من انعقاد المؤتمر، دعت منظمة الصحة العالمية التي تحولت -برسم خيبتها الكبرى التي فضحتها أزمة كورونا- إلى ما يشبه جهازًا إحصائيًا يجمع البيانات ويحللها ثم يطلقها في الهواء لمن يهمه الأمر. والحقيقة، أن أحدًا لا يهمه الأمر.

دعت المنظمة إلى أهمية جمع 392 مليون دولار تجنبًا لانهيار محتمل لقطاع الصحة في اليمن، حيث تسبب نقص الموظفين والأموال والكهرباء والأدوية والمعدات والإمدادات في عرقلة العمل بالوحدات الصحية التي صار نصفها خارج الخدمة تمامًا أو يعمل بطاقة جزئية.

مع التغيرات الجيوسياسية الحادة التي بدأت منذ مطلع هذا القرن، تزايد صراع السيطرة على بؤر ملتهبة، وذات أهمية نسبية عالية بالمنطقة العربية. فعلى المستوى الإقليمي وتحت إغراء شغلِ الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من العراق، دخلت إيران على الخط بحثًا عن دور أكثر ثِقَلًا، فعززت من وجودها بالشارع السياسي العراقي، وبسطت نفوذها بسورية، استغلالًا لاحتياج حليفها هناك للعون المالي والعسكري، بعدما نبذه العرب، ورسخت تواجدها بجنوب لبنان، حيث كان دعمها لحزب الله مطلقًا، ليأتي بعد ذلك دور اليمن الذي كان له من الأحلام الإيرانية نصيبٌ كبير.

بدأت المسألة في صورة صراعات دامية صغيرة ثم ما لبثت إلا وقد صارت حربًا هائلة، بعدما أطلقت المملكة السعودية في 2015 حملتها العسكرية “عاصفة الحزم”، التي لم تحزم شيئًا من أمر البلد الذي تعتبره تاريخيًا بمثابة حديقتها الخلفية التي تحمى من خلالها أمنها القومي، خصوصًا وأن هذا البلد يُشرف على واحد من أهم الممرات العالمية التي ينتقل عبرها نفط الخليج وثروته الأهم. إنه “باب المندب” الذي يمر عبره حوالي 12% من حجم التجارة الدولية التي تقدر بحوالي 700 مليار دولار سنويًا، وما يزيد عن 2 مليون برميل نفط يوميًا، سترتفع تكلفة نقلها عبر مسار آخر إلى ما يزيد عن 50 مليون دولار يوميًا.

يقع “باب المندب” الذي قيل في تسميته أسباب كثيرة منها، أن البحارة من سكان هذه المنطقة كان “يندبون” فيها موتاهم من الغرقي، تحت سيطرة ثلاث دول هي اليمن وجيبوتي وأرتيريا، إذ يتجلى صراعٌ آخر أكثر ضراوة على مستوى مختلف، حيث المنافسة على أشدها بين العملاقين: أمريكا والصين التي أنشأت منذ نحو ست سنوات قاعدة بحرية ضخمة في جيبوتي، وهي القاعدة البحرية الأولى للصين خارج حدودها، فتمكنت بذلك -مع ما وقعته من اتفاقات تعاون اقتصادي مع إثيوبيا وجيبوتي- من تعزيز نفوذها بالقرن الإفريقي، بما يخدم خططها الخاصة بطريق الحرير البحري في مبادرة الحزام والطريق.

ولعل تزايد النفوذ الصيني في إفريقيا بشكل عام وبالقرن الإفريقي على وجه التحديد هو ما دفع بالإدارة الأمريكية للاهتمام وإفراد قسم خاص لإفريقيا في استراتيجية الأمن القومي التي صدرت في أكتوبر من العام الماضي.

ربما تشهد مأساة اليمن خلال هذا العام الاتفاق على مسار حلٍ أكثر جدية يكون مؤتمر المانحين الأخير هو خطوته الأولى التي تتبعها خطوات أخرى كإسقاط ديون اليمن الضئيلة نسبيًا، والتي قاربت نحو 10 مليار دولار لأن التعطل شبه التام للاقتصاد اليمني يجعل من سداد أعباء تلك الديون -مهما كانت محدودة- عقبة كبيرة في سبيل الإنقاذ، وذلك في إطار توجه جديد يتبنى سياسة مختلفة لدعم القوى المضادة لإيران من ناحية، واستقطاب حلفائها من ناحية أخرى بغرض تحجيم دورها تدريجيًا تمهيدًا لإقصائها من المشهد العربي برمته فتفقد بذلك أوراق ضغط تُنَاوِر بها في مفاوضات الإتفاق النووي مع الدول الكبرى، ناهيك عن الخطورة الاستراتيجية المباشرة للدور الإيراني على المصالح الأمريكية “بباب المندب” في سياق المنافسة مع الصين، بعدما بسطت الأخيرة فعليًا نفوذها على الضفة الغربية “لباب المندب”، بما وضع أمريكا في موقف يقتضى ضرورة الإجهاز على مندوب إيران باليمن ومن ثم إيجاد حليف فاعل لها على الضفة الشرقية للممر الملاحي الهام حتى لا تؤول السيطرة عليه بكلتا ضفتيه للصين بِحُكم إحتفاظها بعلاقات متميزة مع إيران.

ولعل انفتاح الدول العربية الأخير على أهم حلفاء إيران بالمنطقة، وهو النظام الحاكم بسورية ومطالبة البعض بإلغاء قانون “قيصر” الأمريكي أو على الأقل التغاضى عن تطبيقه بصرامة، يسير في نفس التوجه حيث يُعَدُ كسر الحصار المضروب على سورية، والذي أجبرها على تعميق تحالفها مع إيران بمثابة بوابة عودتها للمحيط العربي، وإنهاء تمركز إيران في سورية، وتدخلها الملموس في تقرير سياساتها، وتحديد شكل تحالفاتها التكتيكية الأخرى.

في ذات المسار، يمارس الدائنون الدوليون على لبنان المأزوم اقتصاديًا ضغوطًا لنزع سلاح “حزب الله” مقابل تقديم مساعدات إنقاذ مالية ضخمة، وهو أمر من شأنه -إن حدث- أن يغير جوهريًا من ميزان القوى الاستراتيجي بالمنطقة لتتبقى بعض الجيوب المتناثرة لمندوبي إيران بالعراق، والتي يمكن تصفيتها بشكل أكثر سهولة.

دفع المدنيون العُزَّل باليمن ثمنًا غاليًا للصراعات الإقليمية والدولية التي كانت أراضيهم ساحة لها، فهل تسهم التغيرات الجيوسياسية الأخيرة في دفع المؤسسة الأُممية العجوز للتدخل الحاسم هذه المرة لأجل تضميد الجراح، ثم توفير العلاج للتجهيز لإنهاء الصراع. كما حدد السيد “جوتيريش” من أولويات تنتهي معها معاناة اليمن وكربها الشديد؟ هذا ما سنعرفه في قادم الأيام.