نهاية فبراير/شباط الماضي، عندما زار وزير الخارجية، سامح شكري، دمشق، والتقى رأس النظام السوري بشار الأسد، في أول زيارة من نوعها منذ عام 2011، لم يكن الأمر مفاجئًا نظرًا للموقف الرسمي المصري الذي كان من أوائل الداعمين لاستعادة العلاقات مع دمشق وإعادتها إلى “الحاضنة العربية”.
ما كان مفاجئًا هو تسارع تلك الخطوات؛ فيما بدا استغلالًا لتداعيات كارثة الزلزال الإنسانية من أجل تطوير المسار القائم بالفعل والقفز فيه إلى الأمام، وهو ما كان صعب التحقق في ظروف أخرى. فمن مكالمة أولى للرئيس عبد الفتاح السيسي مع الأسد، إلى زيارة حنفي الجبالي، رئيس مجلس النواب -ضمن وفد الاتحاد البرلماني العربي- مرورًا بزيارة شكري الأخيرة.
أتت تلك الخطوة متناغمة مع مواقف بعض الدول العربية التي نسجت علاقات رسمية مع النظام السوري قبل سنوات. كما أتت في ظل انفتاح سعودي -وهي الدولة التي لطالما مثلت عقبة أمام إعادة الأسد لجامعة الدول العربية- جسده تصريح وزير خارجيتها بأن إجماعًا عربيًا بدأ يتشكل على أنه لا جدوى من عزل سوريا وأن الحوار مع دمشق مطلوب “في وقت ما”.
“بمجرد أن رفعت الولايات المتحدة العقوبات في محاولة لإظهار بعض التعاطف مع ضحايا الزلزال، رأت الحكومات العربية في ذلك فرصة لبذل جهودها الخاصة من أجل إصلاح العلاقات مع سوريا”، يشير جوشوا لانديس، الخبير بالشأن السوري ومدير مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة أوكلاهوما الأمريكية.
ويضيف لانديس لـ”مصر 360″: “أعتقد أن جميع الحكومات العربية (ومن بينها مصر) تستغل هذه اللحظة لمحاولة رأب الصدع الذي أضعفها جميعًا على مدى العقود الماضية. إذ وسّعت إيران وتركيا قوتهما ونفوذهما في المنطقة بسبب الانقسام والضعف العربي”.
العلاقات المصرية السورية
تنبع أهمية سوريا الجيو سياسية في خريطة الشرق الأوسط، من كونها تملك نفوذًا هائلًا في لبنان وتتمتع بعلاقات قوية مع إيران وروسيا (يصفها البعض بأنها ترقى للتبعية حاليًا)، وكانت مقرًا لفصائل المقاومة الفلسطينية، وفي تماس مباشر مع دولة الاحتلال الإسرائيلي. كما تجمعها علاقات غالبًا ما كانت سيئة مع جارتها تركيا.
انقطعت العلاقات بين مصر وسوريا لفترة وجيزة خلال حكومة الرئيس السابق محمد مرسي (وهو قرار عارضه عبد الفتاح السيسي كوزير دفاع في هذا الحين). لكن مصر أعادت فتح سفارتها بدمشق عام 2013 بعد الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي. رغم ذلك انحصرت العلاقات في المستوى الأمني والاستخباراتي، قبل أن يلتقي شكري نظيره السوري عام 2021 على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
وفي 2016 ظهرت ادعاءات بدعم عسكري لوجستي مصري للنظام السوري في “الحرب على الإرهاب”، ونفت القاهرة رسميًا. وأتت الادعاءات بعد أيام من تصريح الرئيس السيسي أن الجيوش الوطنية في العالم العربي هي الضمانة لحل الأزمة والحفاظ على الأمن والاستقرار، ما اعتبر دعمًا للأسد ضد المعارضة الإسلامية المسلحة.
وخشيت القاهرة آنذاك من نمو الجماعات الإسلامية في سوريا، وتأثيرها المحتمل على حركات التمرد المحلية في مصر –وفق معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى– ومن ثم تحالفت مع الحكومة السورية التي تقدم نفسها كبديل وحيد لتلك الجماعات.
اقرأ أيضًا: أردوغان المفيد وبوتين الأكثر فائدة.. ماذا بعد لقاء أنقرة ودمشق في موسكو؟!
وبحسب “المجلس الأطلنطي“، فإن السياسة المصرية تجاه سوريا كانت دومًا دبلوماسية وليست عسكرية (مثلما فعلت بعض دول الخليج) لصالح حل سياسي بين النظام والحكومة. وسبق أن تفاوضت القاهرة على اتفاقيات مصالحة محدودة بين الجماعات المسلحة والحكومة السورية في الغوطة الشرقية وحمص. كما استضافت وفودًا من معارضة الداخل السوري، وأخرى كردية.
يقول لانديس الخبير بالشأن السوري “كان السيسي داعمًا للجيش السوري ضد المعارضة الإسلامية لأسباب واضحة، لكنه امتنع عن الانفتاح السياسي المباشر على الأسد بسبب اعتماده على المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة، اللتين تضغطان عليه لمواصلة مقاطعة سوريا”.
وعبرت واشنطن عن معارضتها لأي تحركات لإعادة تأهيل أو تطبيع العلاقات مع الأسد، مشيرة إلى وحشية حكومته خلال الصراع وضرورة رؤية تقدم نحو حل سياسي. بينما عارضت المملكة التطبيع مع الأسد نظرًا لطبيعة العلاقة السورية مع إيران، التهديد الأبرز من وجهة نظرها.
وفرضت الولايات المتحدة “قانون قيصر” الذي يستهدف الحكومة السورية بالعقوبات، التي تشمل عددًا من رموز النظام المتهمين بجرائم حرب ضد المدنيين السوريين (ومن ضمنهم بشار الأسد). وصدر التشريع عام 2019 بهدف حماية المدنيين في سوريا.
لكن لانديس ينتقد “قانون قيصر” ويرى -في حديثه مع “مصر 360”- أن الأسد لم يتأذ من هذه العقوبات بل الشعب السوري الذي عانى الحصار والعزل والتجويع. ويقول: “بعد كل شيء، ما الذي يمكن كسبه من مزيد من العزلة لسوريا باستثناء إلحاق المزيد من الأذى بالسوريين الأبرياء، فالأسد يعيش بشكل جيد للغاية”.
ويتساءل متعجبًا “لو أعطى الغرب والحكومات العربية لميليشيات المعارضة السورية نصف الأسلحة التي أعطوها للأوكرانيين، لكان الأسد قد مات. لكنهم فضّلوا بقاء الأسد في السلطة على استغلال فرصهم مع المعارضة السورية التي كانوا يخشونها. لهذا السبب، فإن الحكومات العربية مسئولة جزئيًا عن بقاء الأسد في السلطة.. لماذا يستمرون في معاقبة الشعب السوري على قرار ساعدوا في اتخاذه؟!”.
تسارع خطوات التطبيع
منذ كارثة الزلزال الذي ضرب تركيا وسوريا صباح السادس من فبراير/شباط الماضي -وأدى لوفاة أكثر من 5900 شخص في سوريا، معظمهم بالشمال الغربي الخاضع لسيطرة المعارضة- أرسلت مصر 1500 طن من المساعدات.
وفق رويترز، ساعد ذلك على تخفيف العزلة الدبلوماسية التي واجهها بشار الأسد بسبب الحرب الأهلية في سوريا التي بدأت عام 2011، وعلى إثرها عُلقت عضوية سوريا بجامعة الدول العربية.
وقال وزير الخارجية المصري إن الزيارة الأخيرة تشير إلى استعداد لفتح صفحة جديدة بين البلدين، و”تعكس الاهتمام بعودة العلاقات إلى وضعها الطبيعي”. واعتبر أنها “ركن أساسي في حماية الأقطار العربية”.
بينما أكد بشار الأسد أن سوريا حريصة أيضًا على العلاقات التي تربطها مع مصر، مشيرًا إلى ضرورة النظر إلى العلاقات السورية المصرية من منظور عام وفي إطار السياق الطبيعي والتاريخي لهذه العلاقات. ونوّه إلى أن مصر لم تعامل السوريين الذين استقروا فيها خلال مرحلة الحرب على سورية كلاجئين، بل احتضنهم الشعب المصري في جميع المناطق.
مدير تحرير “الأهرام” والخبير بالشؤون العربية، أشرف العشري، يرى أن ” زيارة شكري لسوريا تم التشاور بشأنها بين مصر وعدد من الدول العربية والخليجية، لبحث إمكانية تعبيد الطريق نحو تطبيع عربي-سوري، وإعادة سوريا إلى الجامعة العربية أو على الأقل الحصول على اعتراف بها في القمة المرتقبة”.
اقرأ أيضًا: زلزال تركيا وسوريا.. تأزم اقتصادي طويل الأمد ودمار يتفاقم
ويعتقد -في حديثه مع موقع “الحرة“- أن شكري حمل مجموعة من المطالب والشروط، أبرزها “ملف علاقات سوريا بإيران، وبحث التخفيف أو الحد منها، لإفساح المجال أمام عواصم خليجية لعودة سوريا للحضن العربي”.
لكن مركز “أسباب” للدراسات الجيوسياسية يظن أنه “ليس مرجحًا” أن تنجح الدول العربية في فك الارتباط بين سوريا وإيران قريبًا. ويشير التحليل إلى أن القاهرة تتبنى مقاربة أكثر تعقيدًا من مجرد عودة سوريا للجامعة العربية؛ حيث تعمل على إقناع دمشق باتخاذ خطوات سياسية تتعلق بالمعارضة، لأن القاهرة لا تريد تصوير عودة سوريا للجامعة وكأنها تصحيح لخطأ عربي.
كما أنها- القاهرة- تريد من دمشق مراجعة نمط علاقتها مع طهران كي لا تكون “وكيلا لإيران في الجامعة العربية”. وفي هذا السياق، تعمل القاهرة على جلب ضغوط روسية على دمشق. يشير لانديس -الذي عاش 15 عامًا في الشرق الأوسط منهم 4 أعوام في دمشق- إلى اعتقاد بعض الدول العربية بأن السبيل الوحيد لتقليص النفوذ الإيراني في سوريا هو التنافس مع إيران من خلال الاستثمار. “بالطبع لن يتخلى الأسد عن حليفه الإيراني، لكن المال والاستثمار لهما تأثير”، يوضح لانديس.
بينما يقول علاء الأصفري، المحلل السياسي المقيم بدمشق، لموقع “الحرة” إن سوريا قبل الحرب كانت تلعب دور الوسيط وتوصل الرسائل. ويضيف “يجب أن تحافظ سوريا على دورها في هذا الأمر. أن ننظر من زاوية ضيقة أن العرب يريدون سلخ سوريا عن إيران أعتقد أنها خطيئة.. يجب أن تكون سوريا صمام الأمان ومحور العلاقات العربية الإيرانية”.
ما المصالح المتصوّرة؟
ترى مصر في الأمر فرصة لاختبار الوضع، وتحديد مساحات للتعاون السياسي والاقتصادي، وقياس المواقف تجاه هذه العملية بين حلفائها في الشرق الأوسط. وقالت كارولين روز، كبيرة المحللين في معهد نيولاينز، إن التقارب بين القاهرة ودمشق هو “ثقل موازن ونقطة ضغط” يمكن لمصر استخدامها خلال جهود التقارب مع تركيا.
وتنتشر القوات التركية في مساحات شاسعة من الأراضي في شمال سوريا، حيث معقل المعارضة المسلحة السورية. بينما تعمل القوات الأمريكية في المناطق الشرقية والشمالية الشرقية التي يسيطر عليها الأكراد.
وتشير روز: “من خلال السعي للتطبيع، تبحث دول الشرق الأوسط عن طرق ليس فقط لتقويض وجود الوكيل الإيراني بالمنطقة، ولكن أيضًا للحصول على فرص اقتصادية جديدة تأتي مع عملية إعادة الإعمار السورية ومواجهة البصمة العسكرية المتزايدة لتركيا في منطقتي الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط”.
وبينما تحتل الفرص الاقتصادية جانبًا هامًا من الرؤية المصرية، تظل مرتبطة برفع العقوبات الغربية على سوريا وهو لا يبدو قريب التحقق. رغم ذلك فإن اتفاقية إمداد لبنان بالغاز المصري عبر سوريا شكّلت أولى تلك الخطوات العام الماضي، ما ساعد على إضفاء بعض الشرعية للأسد.
“مصر لديها مصالح اقتصادية محتملة في سوريا يمكن إعادة بنائها. إذ تتمتع بخبرة كبيرة في مجال البناء والأعمال والشركات، ورجال الأعمال الذين يمكن توظيفهم في سوريا إذا بدأت عملية إعادة الإعمار. ولكنه يجب رفع العقوبات أولًا”، يلفت جوشوا لانديس.
أما طهران، وبتعبير صحيفة “الجارديان“، فترى في مصر “ثقلًا موازنًا للعداء السعودي والدبلوماسية عالية المخاطر حول الشكل المستقبلي لسوريا”، وبالتالي قد تلعب الخارجية المصرية دورًا في الوساطة. ورغم أن القاهرة ترى المسار المذكور على أنه “مهمة صعبة”، إلا أنها “مصممة على استدراك عودة سوريا إلى الحاضنة العربية، ولو بشكل تدريجي”، حسب أشرف العشري.
على الجانب السوري، فإنه يدرك حاجته لمصر سواء من أجل العودة إلى الجامعة العربية، أو للحصول على دعم مهم في المحافل الدولية، خصوصًا في ظل تراجع القدرة الإيرانية على توفير الدعم للسياسة السورية، نتيجة أزمات طهران الداخلية وتعقُّد علاقاتها مع كثير من القوى الكبرى على الساحة الدولية.
ولكن الأمر يتطلب أيضًا تقديم دمشق مؤشرات على تفهمها للمتغيرات الإقليمية والدولية، والتخلي عن “النهج المتشدد” في المواقف، والذي أدى إلى فقدانها الكثير من علاقاتها العربية في السنوات الماضية.
مع ذلك، يرى الكاتب والناشط السياسي السوري، حافظ قرقوط، أن “كل المحاولات التي تقودها الدول العربية لإعادة تدوير النظام السوري ستكون فاشلة”، معتبرًا النظام السوري بضاعة فاسدة لا تصلح “هو من الداخل أصبح فاسدًا.. والأمر أكبر من النظام السوري، لا سيما أن أغلب الأفرع الأمنية أصبحت إما تابعة لإيران أو لروسيا، كما أن جيشه لا يملك القدرة وقرار ذاته”.
ويؤكد أن جميع المحاولات لإعادة تدوير الأسد كرئيس شرعي لسوريا هي رسائل خاطئة لأناس منكوبة “نحن نتكلم عن ملايين السوريين إما قتلوا في سجون نظام الأسد أو قصف قواته وحلفائه، وعن مدن مدمرة ومشردين في دول العالم كافة أصبحوا لاجئين. هذه الرسائل التي تحصل حاليًا ليست سياسية، ولا تندرج تحت بند الأخلاق العامة، على الأقل بالنسبة للضعفاء المغلوبين على أمرهم”.