هي القضية الحاضرة في كل انتخابات تخص الصحفيين. هي البداية والمدخل لكل ما يتمناه الصحفيون لمهنتهم ومستقبلها. هي كلمة السر في كل الأحلام بحياة كريمة مستورة وميسورة. هي نقطة البدء وفاتحة الكتاب لكل من يرجو أن يكون الغد مختلفا بشكل جذري عن كل ما فات.
لم تكن أبدا قضية حرية الصحافة مجرد ترف، ولا هي قضية نخبوية بعيدة عن المهنة، بل هي الأصل، وهي القيمة التي أعتبرها تقع في قلب قضايا مهنة الصحافة، وفي صلب أي محاولة لبناء مستقبل مختلف لمهنة البحث عن المتاعب والحقيقة.
على مدار السنوات الست الماضية عانت الصحافة في مصر قيودًا كبيرة، لم يكن خلالها المحتوى الصحفي متحررا من الحصار، حتى باتت الصحافة في غالبيتها العظمى أقرب للعلاقات العامة، تكتفي بالبيانات والتصريحات، وتغطي الأنشطة والمشروعات والجولات الرسمية، وفي وسط هذا الحصار القاسي المفروض على المهنة غابت التقارير المعلوماتية الجذابة، والتحقيقات الاستقصائية المهمة، والحوار الذي يحلل ويكشف، والتحليل السياسي الرصين والعميق، ما يعني غياب الصحافة بشكل كامل عن دورها وتأثيرها، وانعزالها الكامل عن جمهورها ومتابعيها.
الصحافة هي المهنة الوحيدة التي ترتبط بالحرية وجودا وعدما، فإذا غابت الحرية ماتت الصحافة، وهو ما حدث بالفعل طوال السنوات الفائتة، غابت الصحافة تماما، وخسرت قارئها بشكل كامل، وأضحت أغلب المؤسسات الصحفية مهددة بالإغلاق بعد أن حاصرتها القيود، وقيدتها الرقابة والحذف وحصار المحتوى.
في أجواء انتخابات الصحفيين الساخنة، باتت حرية الصحافة هي الفريضة الغائبة، وبات اجتهاد كل المرشحين، وأعضاء الجمعية العمومية للنقابة في تقديم تصورات لضمان مساحة أوسع للصحافة وسقف أعلى لحريتها فرض عين على الجميع، فلا صحافة بلا حرية، ولا يمكن أن تمر انتخابات الصحفيين دون أن تكون قضية حرية الصحافة وحصار المحتوى الصحفي حاضرة في كل البرامج، وموجودة في كل المناقشات والحوارات الدائرة بين أصحاب المهنة قبل انتخاب مجلس النقابة الجديد.
لقد أثبتت تجربة السنوات الست الماضية أن قوة المهنة وتأثيرها؛ وهيبة الصحفي ونقابته تبدأ أولا وأخيرا بقدرته على أن يكتب بحرية، وبلا قيود، بل أن مكانة الصحافة ذاتها في المجتمع ترتبط ارتباطا مباشرا بقدرتها على أن تعبر عن هموم الناس وأحوالهم المعيشية، صحافة يمكنها أن تكشف كل صور الفساد والانحراف، وأن تعلن الحقيقة، وتدافع عن العدل والحرية، وأن تنشر العقل والاستنارة.
وفي نفس الوقت أثبتت نفس التجربة أن صحافة العلاقات العامة، والمحتوى الصحفي الباهت والمحاصر لا تبني مكانة، ولا تصنع جمهورا أو متابعين، بل أن القارئ بذكائه وحسه الفطري ينصرف عنها بعد أن يكتشف أنها موجهة أو محاصرة أو بعيدة عنه وعن همومه.
ست سنوات كانت الصحافة فيهم تحت الحصار، لم تفقد فيهم المهنة مكانتها وتأثيرها فقط، بل فقد الصحفيون أنفسهم حقهم في المعيشة الكريمة، فبدون حرية صحافة لا قارئ ولا متابع ولا معلن ولا مرتب كريم، فالمؤكد أن المحتوى كلما كان حرا زاد عدد القراء والمتابعين والتأثير، وبالتبعية كان المعلن حاضرا بما يساهم في حل الأزمات الاقتصادية للمؤسسات وتحسين الرواتب والأجور للصحفيين، هنا ما يؤكد أن الصحافة الحرة ليست مجرد قضية ترف بل إنها باتت ترتبط ارتباطا وثيقا بلقمة العيش، لا سيما في عصر السوشيال ميديا التي تحررت من الكثير من القيود التي ما زالت تثقل كاهل الصحافة في مصر وتكبلها بشكل غير مسبوق في تاريخنا الحديث بأكمله.
أملي أن يستغل الصحفيون أجواء انتخاباتهم لتكون قضية حرية الصحافة حاضرة في كل المناقشات، ومكتوبة في كل البرامج الانتخابية، وظني أن مجلس النقابة القادم ستقع عليه مهمة “نضالية” تتعلق بحوار جادة مع السلطة حول وجوب فك الحصار المفروض على الصحافة، ورفع كافة القيود التي تكبلها، وفتح صفحة جديدة لصحافة حرة ومهنية، تعبر عن المواطن وهمومه، وتفتح كل الملفات التي تدفع البلد للتقدم للأمام، وتغلق تماما صفحة القيود والرقابة والمنع والحجب وكل الصور التي أضرت بالهمنة وبصورة مصر ذاتها، صحافة تنشر الحقيقة وتخضع في ذات الوقت لكل مواثيق الشرف التي تنظم العمل الصحفي والإعلامي، وتلتزم- دون تدخل من أي طرف- بقواعد وأدبيات مهنة البحث عن الحقيقة، على أن وعي الصحفيين في ظني قد وصل لمرحلة غاية في الأهمية وهي أن الخدمات التي يمكن أن تقدمها النقابة ستكون حاضرة دون مجهود إذا ما حررنا الصحافة من القيود، وحررنا النقابة من الغياب و “التكفين”.
إن الحوار الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية، وباتت جلساته وشيكة هو فرصة حقيقية لكي يطرح الصحفيون قضاياهم وفي القلب منها حرية المحتوى الصحفي، ولعل المجلس القادم يكون قادرا بحق على التفاوض الجاد وطرح قضية الصحافة الحرة خلال الحوار، والدفاع عن حق الصحفيين، وحق مصر أيضا، في صحافة مهنية وبلا قيود تحاصرها الآن كل اتجاه، وهو أمر ما زال في يد الجمعية العمومية التي ستختار مستقبلا جديدا للمهنة وحريتها وكرامة العاملين فيها عبر أصواتهم الحرة وإرادتهم الفاعلة.