الإدارة المحلية في أي نظام سياسي هي عماده ، فمن خلالها يبدأ التدريب على العمل السياسي، وهي وبمجالسها البلدية وسيلة من وسائل التجنيد السياسي، مثلها مثل الأحزاب السياسية والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني، مع الخلاف في الطبيعة والوظيفة والدرجة.

وظائف المحليات

بعبارة أخرى، هذه المجالس هي وسيلة للتصعيد والارتقاء والتعلم والتدريب الدائم. بل لا غرو في القول إن الإدارة المحلية ذاتها، هي وسيلة ارتقاء من داخلها، بمعنى أن عضو مجلس الوحدة المحلية أو البلدية الأدنى، يرتقي ويرغب في الانطلاق للانتخاب في الوحدة المحلية الأكبر وهكذا. وهذه هي الأهمية الكبيرة للمجالس المحلية بالنسبة للأعضاء والمشتغلين بالعمل العام عامة والسياسي خاصة.

وللإدارة المحلية وظيفة أخرى، وهي المنتفعين والمستفيدين من وجودها، وهم الشعوب في النظم السياسية المختلفة. إذ أن تلك الإدارة هي الحلقة الوسيطة بين السلطة كما يسميها السياسيين والإدارة كما يسميها البيروقراطيين، وبين المواطن أو المحكومين أو الشعوب. من هنا فإن تلك الإدارة وعبر مجالسها المنتخبة هي أداة للإشراف على تقديم الخدمات المختلفة للمواطن، والرقابة على السلطة المحلية الحاكمة، الممثلة في المجالس التنفيذية للوحدة البلدية في مستوياتها العليا (محافظة/ قضاء/ لواء/ ولاية… إلخ) أو الدنيا (قرية/ مدينة/ مركز/… إلخ)، بالعمل على الإرتقاء بخدمات التعليم والصحة والمياه والزراعة والإسكان والنقل والصناعة والتجارة والري… إلخ.

واحد من أهم وظائف المحليات في البلدان النامية، أنها وسيلة من وسائل التنمية البشرية وغير البشرية، فمن خلالها يتم الإرتقاء بالمجتمع المحلي، وتطويره وتنميته ذاتيا، ورعاية مكوناته البشرية من شباب ونساء وكبار السن، وكذلك تنميته اقتصاديا بدعم الاستثمار في مكوناته. بل لا نبالغ أنه في ظل الخلافات الثقافية والسياسية في النظم السياسية المختلفة، فإن تلك المجالس مع المحليات عموما تواجه الإرهاب والتطرف وتصهر الخلافات الأولية بين المكونات البشرية.

أخيرا وليس آخرا، فإن المحليات تدعم اللامركزية، لا سيما إن كان النظام السياسي القائم يقر بنقل السلطة من المركز للبلديات، وليس مجرد تفويض السلطة بينهما. ومن هنا يفرق علماء السياسة بين الإدارة المحلية والحكم المحلي. فالمصطلح الأخير يتسم بضيق الأفق، على عكس الثاني المتسم بالإنفتاح والمقرطة واللامركزية.

غياب مصري غير مبرر

من كل ما سبق فإن عدم وجود قانون جديد للمحليات في مصر هو واحد من أبرز النواقص التي تحمل مؤشرات سلبية للغاية لأداء نظام 30يونيو2013. فهذا النظام الذي عهد إليه بتعديل دستور2012، أقر في المادة 242 من الدستور على أن “يستمر العمل بنظام الإدارة المحلية القائم الى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه فى الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه، ودون إخلال بأحكام المادة (180) من هذا الدستور.

إن الناظر إلى المحليات في مصر، ومقارنة ذك بحالها في الأيام الغابرة وفي الإقليم، ليدرك أن هناك وضعا شاذا غير مبرر. فعقب حركة يوليو1952، وهزيمة يونيو1967، لم تتوقف المجالس الشعبية المحلية عن العمل. وفي الإقليم لا زلنا نجد تلك المجالس تعمل في سوريا رغم النواكب التي ألمت بها منذ عام2011 حتى اليوم. لذلك فمن الضروري أن تعود الإدارة للمحلية بسلطاتها الكبيرة التي كرسها دستور2012 المعدل، والذي منح لها اللامركزية.

وبعبارة أخرى، إننا منذ عام2011 نعيش دون مجالس محلية. فبعد أن أجل الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك انتخابات المجالس عام 2008 لمدة عامين، لم تنعقد انتخابات تلك المجالس حتى اليوم. فقد قام القضاء الإداري في 28يونيو2011 بإلزام المجلس الأعلى للقوات المسلحة بحل تلك المجالس، وهو ما حدث بالفعل بإصدار المرسوم بقانون رقم116 لسنة 2011 في 4سبتمبر2011 بحل جميع تلك المجالس، وتكليف مجلس الوزراء بتعيين غيرها بشروط محددة. وحتى اليوم لا زلت البلاد دون مجالس بلدية لا منتخبة ولا معينة. ومن ثم وقفت الدولة والمجتمع في مصر فاقدين للتفاعل الإيجابي مع عنصر مهم في الحياة السياسية في أي نظام سياسي متمدين.

لقد أشارت المادة 242 من دستور 2012 المعدل عام 2014، بما لا يدع مجالا للبس، أن هناك تأخيرا غير مبرر ليس فقط في عقد انتخابات المجالس الشعبية المحلية فحسب، بل في سن قانون الإدارة المحلية بأكمله. ولا عزاء لذلك فيما بات يتلكأ به سياسيا وليس قانونا بعض المبررين لذلك التأخير، بأن تلك المواد المشابهة بالدستور، وما حوته من نطاق زمني هو من قبيل المواقيت التنظيمية وليست الأمرة. إذ أن أهمية الكيان الذي أتي به الدستور، وهو المجالس المحلية، المتعارف على جدواها في كافة النظم السياسية المتمدينة، لا يسري عليها هذا التهميش والذرائع المتعمدة، بدعوى أو بحجة أن هذا التوقيت تنظيمي. كما أنه لو افترض أن هذا التوقيت تنظيمي وليس ملزما، ألا يكفى مرور تسع سنوات على غياب المجالس المحلية، حتى يقول الباحثين والدراسين وقادة الرأي بل وصناع القرار المشهود لهم أن تلك المدة كافية كي تبدأ مصر في سن القانون وعقد انتخابات المجالس المحلية؟.

الأمر الأخر الذي يوجب سن قانون الإدارة المحلية، يجد أساسه من روح الدستور، وهو أن تعطيل المؤسسات العامة أمر غير مبرر، وقد وضعت عديد النصوص الدستورية في الدستور الحالي، التي تبدأ بكلمة” تلتزم الدولة “وفيها تأكيد على إلتزامها بصيانة الأمن القومي وإنشاء المؤسسات السيادية والحفاظ عليها ورعايتها والقيام على انتخاباتها بحرية وضمان سير عملها، وتحقيق ودعم اللامركزية، ومساعدة الوحدات المحلية في النهوض بمهامها… إلخ. وكل تلك العبارات التي مرد الدستور على أن يزجى بها في بحر من المواد المنمقة والكريمة، ألا تكفي وحدها لسرعة سن قانون الإدارة المحلية وعقد انتخابات المجالس المحلية بأسرع وقت.

أخيرا وليس أخرا، أن مجابهة الفساد والمفسدين هو لا شك أحد أهم أهداف الدولة المصرية، لذلك فإن فراغ المحليات من المجالس المحلية على كافة المستويات الخاصة بوحدات الإدارة المحلية، لهو تشجيع غير مباشر للفساد، الذي بات يمخر في عظام الكيانات المحلية ووحداتها، بسبب غياب الرقابة الشعبية من قبل المجالس غير القائمة. وكلها بلا شك أمور لم يرغب واضعو الدستور في أن تكون محل نقاش أو شك في إعمال السلطة العامة على المحافظة على تلك الكيانات، من الوقوع في براثن الفقر والفساد.

والسؤال الآن: من المسئول عن تأخير إقرار قانون المحليات؟

بداية نشير إلى أن الدستور الحالي (دستور 2012 المعدل عامي 2014 و2019) قد أقر بنظام للإدارة المحلية وليس الحكم المحلي، بما يعنى ذلك من أن القانون المزمع ربما يقيد من سلطات المحليات، فيجعلها محدودة الصلاحيات، وهو أمر يبدو أنه يتناقض مع مواد الدستور الأخرى التي تحدثت عن اللامركزية، وهي نظام يبدو أنه يسير في ركب نظم الديمقراطية المتمدينة، التي تعتمد على نقل السلطة والصلاحيات للمحليات، وليس مجرد تفويضها.

على أن الركون إلى المصطلحات على أهميته قد لا يعني الكثير، إذ أن الدستور المصري رغم وضع المحليات في باب “الإدارة” المحلية إلا أنه قد أشار في أكثر من مرة إلى اللامركزية كوسيلة للتعامل والتفاعل والعلاقة بين المحليات والدولة.

أما بشأن من هو المسئول عن غياب قانون المحليات حتى اليوم، فلا شك في أن   الحكومة والبرلمان هما المسئولان سويا عن تأخير إصدار هذا القانون. فالحكومة في ظل النظام الحالي المتسم بالخلل الشديد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية هي من يتحمل المسئولية على الدفع بالقوانين أمام البرلمان، وإقرارها كما يحدث في النظم الليبرالية حيث تكون مشروعات الحكومات بقوانين أمام البرلمانات هي المكون الرئيس للعملية التشريعية في الهيئة التشريعية، وطالما الأمر كذلك فهي المسئول الأول عن هذا التأخير، لا سيما أن   لجنة الإدارة المحلية في البرلمان تشير دوما بأن الإرادة السياسية وحدها هي التي تنقص إخراج هذا المشروع من محبسه، خاصة وأنه قد انتهى وضع مواده منذ عام 2016.

البرلمان أيضا من خلال مجلس النواب يتحمل عبء التأخير، لأنه إذا ما كان هناك حال خلل في التوازن بين السلطة وبينه، فما سبب عدم دفع مواد القانون للمناقشة في الجلسة العامة للبرلمان، وإقراره رغما عنها؟ أليس ذلك نوعا من خنوع للبرلمان أمام السلطة التنفيذية، التي يبدو أنها تخشى لأسباب غير معلنة من وجود هذا القانون عامة، والمجالس الشعبية خاصة؟

إن المطلوب اليوم هو إقرار قانون الإدارة المحلية دون تأخير، حتى تستطيع وحدات الإدارة المحلية أن تبدأ وتشارك في عملية التنمية بشكل واضح ومسئول. وبشأن المجالس الشعبية المحلية، ربما يكون من المفيد عقد انتخابات تلك المجالس وفق نظام تمثيل جيد يقوم على القائمة النسبية، وربما يكون هذا الأمر مدعاه لمقال آخر فيما يخص النظام الانتخابي الأمثل لتلك المجالس، بعيدا عن القوائم المطلقة التي ترتبط بالتزكية أو التعيين المقنع لأعضاء تلك المجالس.