قبل مائة عام من هذه اللحظة، كانت مصر والمصريون على موعد مع لحظة صعود تاريخي، كانوا مع بداية جديدة للتاريخ، بداية أعلنت عن وجود أمة مصرية مستقلة الوجود بالمعنى الحضاري والثقافي حتى لو لم تكن مستقلة بالمعنى السياسي، لحظة قرر فيها المصريون – عبر ثورة 1919م المجيدة – امتلاك ذاتهم وإطلاق إرادتهم وإعطاء المستقبل نفخة قوية من روحهم، لحظة تأسيسية في التاريخ، أخذت من الثورة العرابية فكرة مصر للمصريين ثم طورتها في إطار وجودي مكتمل اسمه الأمة المصرية، لا رعايا للخديو، لا خانعين للأجانب، لا تائهين من جملة الأمم والشعوب التي وجدت نفسها وقد انفرط عقدها وتلاشت ملامحها بعد زوال الإمبراطورية العثمانية مع نهاية الحرب العالمية الثانية، ثورة وطنية محضة لم يصنعها الإنجليز مثلما صنعوا الثورة العربية الكبرى في الحجاز والشام والعراق 1916، ثورة ليبرالية ديمقراطية في مناخ عالمي مشبع بروح الثورة فقد كان ترتيبها الثالث بعد ثورة الصين 1912م ثم ثورة روسيا 1917، ورغم هذا الترتيب فقد كانت مصرية محضة لا تأثير فيها لثورة العرب التي صنعها الإنجليز ضد الترك ، كذلك لا أثر فيها لثورتي الصين وروسيا.

ثورة 1919م جاءت باستقلال جزئي، وجاءت بتحرر جزئي ، وجاءت بحياة دستورية تعترضها مئات العقبات، وجاءت بطبقة حكم خليط من الارستقراطية والطبقة الوسطى، لم تتمكن من إخضاع الملك تماماً للدستور، ولم تتمكن من طرد الاحتلال، لكنها صنعت بداية سليمة للتاريخ، بداية أقرت شرعية المصريين بما هم أمة ذات إرادة وثقافة وحضارة ومستقبل ودور فاعل في التاريخ، بداية أعطت لفكرة الدولة الحديثة معناها الحقيقي وهو أن الشعب وحده مصدر السيادة لا أسرة محمد علي باشا ولا الاحتلال، هذه هي الإضافة العظيمة التي زودت بها ثورة 1919-  وما ترتب عليها من استقلال ناقص ودستور طريقه مليء بالعقبات – زودت به التاريخ الحديث من معنى وقيمة، مع ثورة 1919 انتهت إلى الأبد الأفكار القديمة التي تضع المصريين في عداد الشعوب التي هي من مخلفات الزمن ومن بواقي التاريخ ومن مصادرات الأقوياء ومن أطلال الإمبراطورية العثمانية التي سقطت وانتهت.

ثورة 1919 لم تحرر كامل التراب الوطني من الاحتلال، ولم تحرر كامل الإرادة الوطنية من الاستبداد، لكنها – وبجدارة – حررت روح مصر وهمتها وعزيمتها و إحساسها بذاتها الحضارية، حررت المصرية من لخبطة الانتماءات الخارجية ومن تناقض الولاءات السياسية، صنعت انتماءً مصرياً كافياً ليزود المصريين بالعزة الوطنية والكرامة الإنسانية، كما صنعت ولاءً لهم تجاه أنفسهم يحفزهم على صنع التفوق الفردي والنهوض الوطني على السواء، ففي ثلاثين عاماً أعقبت ثورة 1919م – أي فترة تساوي فترة حكم ضابط واحد من ضباط الجيش وهو حسني مبارك – في خلال ثلاثين عاماً فقط تمت ترجمة هذا الصعود العظيم في عاصمة هي أفضل عواصم الإقليم، وشعب هو أكثر شعوب الإقليم حيوية وتعليماً وثقافة وتحضراً، جامعات وتعليم هو الأفضل في الإقليم، قضاء حديث وتعليم قانوني هو الأفضل في الإقليم، صحافة سياسية ومجلات ثقافية ونهضة أدبية وفلسفية وفكرية هي الأرقى في الإقليم، نخبة حكم وسياسة وإدارة وبيزنس هي الأفضل في الإقليم، كل ما هو حديث كانت مصر هي الأسبق إليه في الإقليم، ثورة 1919 أخذت مصر من بلد بلا هوية واضحة المعالم ثم ارتفعت بها إلى أعلى السلم الحضاري في الشرقين العربي والأوسط.

لكن لأن ثورة 1919 قررت أن يكون نضالها ضد الاحتلال والاستبداد من خلال الكفاح السياسي والدستوري الذي يعني التعايش مع خصومها تحت سقف واحد، فقد تم استنزافها حتى وهنت قدرتها عند مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، حين تسلمت منها الراية ثورة 23 يوليو 1952.

ثورة 23 يوليو قطفت ثمرات ثلاثين عاماً من كفاح ثورة 1919 ضد الاستعمار، كما قطفت ثمرات ثلاثة أرباع قرن من مجمل كفاح المصريين ضد الأجانب من العرابيين حتى كفاح الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل، ثم كانت ثورة 23 يوليو 1952 محظوظة إذ جاءت على قدر مع لحظة تاريخية كان الاستعمار القديم – بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الأوروبيين – يتفكك وينسحب ويتلاشى من أكثر المستعمرات، كما كان الاستعمار الجديد – أمريكا – يتهيأ لوضع يده على العالم، فلم تظفر ثورة 23 يوليو من الاستعمار القديم بالمقاومة والعناد الذي كافحته ثورة 1919، كما لقيت من الاستعمار الجديد غضاً للبصر وعدم ممانعة، فاستفادت من هذه المعادلة وأنجزت الاستقلال بقليل من المفاوضات التي أعجزت ثورة 1919، لا لشيء إلا لأن التوقيت لم يكن في صالح ثورة 1919 وكان في صالح ثورة 23 يوليو 1952 التي استفادت ثلاث مرات: مرة من رصيد الكفاح الذي أنجزته ثورة 1919 وحركة مصطفى كامل وثورة العرابيين، ومرة ثانية من وهن الاستعمار القديم، ومرة ثالثة من عدم ممانعة الاستعمار الجديدة واستعداده للتعاون مع ثورة 23 يوليو 1952 في كل المجالات بشروط مثل: البحث في العلاقة مع إسرائيل، قبول ترتيبات الدفاع عن الشرق الأوسط، مكافحة النفوذ الشيوعي.

استمتعت ثورة 23 يوليو 1952 باستقلال ناضج سقط في حجرها بأقل القليل من الجهد، استقلال كامل لم تظفر به ثورة سابقة عليها، لكنها احتفظت بالاستبداد ثم زادت عليه ما لم يكن في الحسبان ولا في الخيال، تخلصت بصورة حاسمة من استبداد أسرة محمد علي باشا وقطعت جذورها بالكلية من طين مصر ، لكنها ورثت استبدادها وزادت عليه وذهبت به – تحت شعارات الوطنية المستجدة – إلى مساحات غير مسبوقة من طغيان الحكم الفردي وتسلط الفكر الشمولي بصورة أطفأت روح مصر من جديد، أطفأت روح مصري تحت الاستقلال الكامل المصحوب باستبداد زائد عن كل حد.

الروح العظيمة الوثابة المتوهجة التي أطلقتها ثورة 1919 في ظل الاستقلال الناقص، أطفأتها ثورة 23 يوليو 1952 في ظل الاستقلال الكامل، الشجاعة والهمة والعزيمة التي عجز الاستعمار عن كسرها انكسرت – بسهولة – تحت ظلال الاستبداد الوطني الذي تفوقت فيه ثورة 23 يوليو 1952 وحافظ عليه الحكام من ضباط الجيش حتى الجمهورية الجديدة في 2014 وما بعدها.

لم تفتقد ثورة 23 يوليو 1952 حتى الجمهورية الجديدة 2014 إلى النيات الحسنة ولم تفتقد إلى الطموحات العظيمة ولم تفتقد إلى المشروعات الكبرى، لكنها افتقدت الثقة في الشعب ، افتقدت الإيمان بالشعب، وضعت ثقتها فقط في القوة، ووضعت إيمانها فقط في أجهزة التحكم، فضنت بالديمقراطية، واعتدت على الحقوق، وجارت على الحريات العامة، وكانت النتيجة أن همشت الشعب واستبعدت صدقه وهمته وعزيمته وأصالته، وباستثناء السد العالي وحرب أكتوبر 1973 المجيدة، فلم تحصد مصر من حكم الضباط غير النكسات والهزائم والخيبات، ومن مجموع ذلك كله، قادت ثورة 23 يوليو 1952 مصر – بالتدريج البطيء – إلى طريق الاضمحلال بالمعنى الحضاري والثقافي والتأثير والفاعلية السياسية والفكرية، فلم تعد مصر على رأس الإقليم، ولم تعد القاهرة أرقى العواصم، ولم تعد جامعات مصر وتعليمها وصحافتها وقضاءها وثقافتها وفكرها هو الأكثر إشعاعاً ونوراً في الإقليم ، لم تعد مصر كذلك ، ولم يعد فيها شئ يراه أهلها أو يراه غيرهم كذلك، لم تعد مصر في لحظة صعود ، مصر تعيش لحظة اضمحلال في الدور والفاعلية والإشعاع والتأثير والإلهام لنفسها ولغيرها.

الكفاح من أجل الحرية تحت الاحتلال صنع لحظة صعود رغم أنف الاحتلال ، الاكتفاء بالاستقلال من دون حرية مهد الطريق نحو الاضمحلال التدريجي تحت الحكم الوطني . وسواء كانت ثورة 23 يوليو 1952 انتهت بوفاة عبدالناصر 1970 أو استمرت باستمرار قدوم الرؤساء من الجيش وباستفتاءات مضروبة وانتخابات مفبركة ، سواء هذا أو ذاك ، فالنتيجة واحدة ، فهزيمة يوليو 1967 مازالت تفعل فعلها حتى هذا اليوم والغد ، فهي كانت لحظة الإنكسار الحاد الذي بدأ منها الهبوط نحو الاضمحلال ، كما أنها عينة بينة دالة على ما يمكن أن ينتهي إليه حكم فردي مطلق نموذجه الرئيس عبدالناصر ثم تابعه وشايعه عليه من تداول على الحكم بعده من ضباط الجيش ، ثورة 23 يوليو مستمرة طالما: أن الرئيس من الجيش ، والرئيس يأتي باستفتاءات وانتخابات غير حقيقية والشعب مستبعد منها ولا لزوم له فيها إذ تتولى أجهزة الأمن والإدارة إنجازها على النحو الذي يرضي الرئيس ويسعده ويرضي غروره ، ثورة 23 يوليو مستمرة طالما الرئيس لا يأتي بانتخابات تعبر عن إرادة الشعب وطالما يتم تشكيل كل مؤسسات الحكم من أعلاها إلى أدناها حسب طلبات الرئيس ومقاسه ومزاجه . بهذا المعني ثورة يوليو قائمة لم تسقط وموصولة لم تنقطع وحاضرة دون غياب حتى لو اختلفت توجهات كل رئيس وانحيازاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، فهي – في التحليل الأخير – طريقة في الحكم ومنهج في العلاقة بين السلطة والشعب ، أي في كيف يصل الحاكم إلى الحكم ثم كيف يمارسه ثم كيف يبقى فيه ثم كيف يخرج منه؟، كل الرؤساء في ذلك سواء من نجيب حتى السيسي ، من إعلان الجمهورية 1953م حتى إعلان الجمهورية الجديدة 2014م، مسميات مختلفة لمضمون سلطوي واحد ، وصناعة الاضمحلال لم تتوقف في عهود كل الرؤساء من ضباط الجيش .

***

لحظة الصعود التي ترافقت مع ثورة 1919 لم تنشأ من فراغ ، ولم تولد فجأة ، ولم تنزل من السماء ، فقد جاءت في سياق ثوري عالمي ، في تركيا 1908، في الصين 1912، في الحجاز والعراق والشام 1916، في روسيا 1917، كما ورثت كفاح مدرسة الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل ، كما استنارت بتحديث كل من محمد على باشا ثم إسماعيل ، كما استنارت بالتعليم الحديث الذي تلقاه المصريون سواء في أوروبا أو في المعاهد الحديثة هنا في مصر ، كما استفادت من ثورة العرابيين وما ترافق معها من ميلاد فعلي لطبقة من الأعيان المصريين معها طبقة وسطى بازغة ، الثورة العرابية أدخلت الأعيان مع الجيش في العمل السياسي ، حركة مصطفي كامل أدخلت الطلاب وجماهير المدن، ثورة 1919 أدخلت الجميع من طلاب وعمال وجماهير مدن وفلاحين وأرياف وأعيان وأفندية الطبقة الوسطى وموظفي البيروقراطية الكبار والصغار، غير أن ثورة 1919 امتازت عن كل ما سبق بعدة أمور:

– قطعت الصلة بالرهان على العثمانيين ، كما قطعت الرهان على التناقضات بين القوى الاستعمارية الأوروبية ، لم تكرر غلطة عرابي الذي اعتبر نفسه مجاهداً بسيف السلطان العثماني ثم خذله السلطان ، ولم تكرر غلطة مصطفى كامل الذي ظن أن الاستعمار الفرنسي من الممكن أن يكون سنداً ضد الاستعمار البريطاني وهي الغلطة التي كررها خليفته العظيم محمد فريد الذي ظن أن الاستعمار الألماني البازغ من الممكن أن يكون ذا فائدة في مكافحة الاستعمار البريطاني المستقر ، أوقفت ثورة 1919م لعبة الرهان على التناقضات الدولية لعدة أسباب : أولها فشل هذه الرهانات من قبل ، ثانيها رأى قادة ثورة 1919م بأنفسهم أمريكا تتحول فجأة من نصير لتحرر الشعوب إلى حليف للاستعمار القديم  ، وثالثها أنه مثلما كانت ثورة 25 يناير 2011م يتم اتهامها بأنها جزء من ثورات الربيع العربي وأن ثورات الربيع العربي مؤامرة دولية فكذلك كان يتم اتهام ثورة 1919م بأنها متأثرة بثورة البلاشفة الشيوعيين في روسيا 1917م مما كان يضطر سعد باشا زغلول للرد والدفاع وأنها ثورة ليبرالية ديمقراطية ويستحيل أن تكون ثورة شيوعية أو حتى اشتراكية لأنه شخصياً وغيره من قادة الثورة من أصحاب الأملاك ومن مؤيدي الملكية الخاصة وحرية الأسواق عكس الشيوعية  .

– راهنت فقط على الشعب ، وراهنت فقط على العمل السياسي السلمي التفاوضي الدستوري ، جمعت الشعب بكل دياناته ، لم تفرق بين دين ودين ، صهرت الجميع في بوتقة وطنية واحدة ، وطنية لم تتجاوز البعد الإسلامي لكنها أعادت تعريفه في ضوء التراث الفقهي للأستاذ الإمام محمد عبده الأب الفكري والروحي لقادة ثورة 1919م ، وهنا أنقل عن الأكاديمي والدبلوماسي اللبناني الدكتور خالد زيادة في دراستة القيمة ” الأسس الفكرية والسياسية لثورة 1919 : الثورة في سياقاتها التاريخية ” أنقل عنه قوله ” من الضروري اليوم – بعد مرور مائة سنة على ثورة 1919م – أن نعيد النظر بعلاقتها بالانتماء الإسلامي ، كانت الثورة وطنية ليبرالية شارك فيها كل أبناء الشعب من مسلمين وأقباط ، حتى أصبح الهلال والصليب شعاراً لحزب الوفد ، وقد تمخضت عن إقرار دستور ليبرالي عام 1923م ، ومع ذلك فلابد من الإشارة إلى العلاقة التي ربطت بعض قيادات الثورة برائد الإصلاح الإسلامي الإمام محمد عبده ” .

– ثم يشرح الدكتور خالد زيادة منهج الإصلاح الإسلامي عند الإمام محمد عبده فيقول ” كانت إصلاحية محمد عبده تقوم على فصل الدين عن الدولة ، وأنه لا سلطة لأي جهة أو سلطة على إيمان المسلم ، وأن هدف الإصلاح هو تحرير عقيدة المسلم الدينية من أي دولة أو سلطة ، وتحرير عقل المسلم من الأوهام ، وتحرير المؤسسة الدينية من ثقل التقاليد ، وأن يقتصر دورها على الشأن التربوي ، وقد آمن محمد عبده أن مقاصد الشريعة تتفق مع ما بلغه الفكر الإنساني والسياسي من حق الفرد والمجتمع في الحرية والعدالة  .

– ثم يقارن خالد زيادة بين ثورة العرب الكبرى في الحجاز والشام والعراق ضد تركيا 1916م وأنها شاركت بالسلاح في معارك الحرب العالمية الأولى ، وثورة مصر 1919م التي كانت مدنية بعيدة عن تأثير الجيش والعسكريين ، ومن المعلوم أن الاحتلال الإنجليزي قد عمد إلى تقليص عدد الجيش المصري بعد موقعة التل الكبير سبتمبر 1982م بغرض إضعاف قدراته وشل فاعليته ، والواقع أن الجيش المصري بقى بمنأى بعيداً ليس عن السياسة فقط لكن بعيداً عن العسكرية ذاتها كذلك لمدة خمس عقود من الزمن ، فلم يشارك إلا في حرب السودان لصالح الانجليز عام 1898م ثم بعدها بخمسن عاما شارك في حرب فلسطين 1948م ، والخلاصة أنه في ثورة 1919م لم يشارك الجيش في الثورة ولم يقف ضدها فلم يكن له فيها دور من قريب أو من بعيد .

– ثم يقول ”  إن نجاح الثورة هو في إيجادها مناخاً ليبرالياً في مصر ، تجسد في إعلان الدستور ، وإقامة حياة برلمانية ، وإنشاء أحزاب متنافسة ، وبغض النظر عن العوامل العديدة التي أدت إلى تعثر الحياة البرلمانية ، فإن تطور الحياة الفكرية ، في مدة عقد ونصف من الزمن حتى معاهدة 1936م ، قد شهد نمواً للفكر العلمي والنقدي ، وأصبحت مصر مقراً للنشاطات الثقافية والفنية ، تجلى ذلك في عدد من المجلات الثقافية التي كانت تصدر في تلك الآونة ، وتطور أساليب الموسيقى ، والإنتاج السينمائي ، وكتابة الأدب الروائي والمسرحي ” .

– ثم يقول ” مصر أصبحت رائدة الثقافة العربية في السنوات اللاحقة لثورة 1919م ، فـتأسس في القاهرة مجمع اللغة العربية 1932م ، وكان أول رئيس للمجمع هو محمد توفيق رفعت الذي درس الحقوق في فرنسا وعمل وزيراً في عدة حكومات ، ومن المفارقة أن أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل وأحد دعاة المصرية أصبح الرئيس الثاني للمجمع ، أما الثالث فهو طه حسين الذي لُقب بعميد الأدب العربي بعد أن بايع شعراء العرب أحمد شوقي أميراً للشعراء 1927م ” .

– ثم يقول ” لقد دخلت مصر العروبة من باب الثقافة الحديثة ، بفضل ريادتها الأكاديمية من خلال الجامعة المصرية – يقصد جامعة القاهرة – وآدابها وصحفها ومجلاتها ، وكان ذلك تمهيداً لدورها السياسي وخصوصاً في إنشاء جامعة الدول العربية ، إذ قاد المفاوضات من أجل إنشاء الجامعة مصطفى النحاس وهو خريج مدرسة الحقوق وأحد قادة ثورة 1919م وزعيم حزب الوفد بعد وفاة سعد زغلول 1927م ، وأصبحت القاهرة مقراً لجامعة الدول العربية 1945م ، ورائدة العمل العربي لعقود تلت ” ويختم بحثه بالقول ” كانت ثورة مصر ، التي انطلقت 9 مارس 1919م ، بمثابة سلسلة من الأحداث والوقائع امتدت لسنوات شهدت خلالها خروج المصريين في المظاهرات والاحتجاجات وتنظيم العمل الثوري ، التي غيرت المجتمع المصري ، وخصوصاً الطبقة الوسطى التي تبنت قيم الليبرالية ” .

بقي القول أن الملك فؤاد ثم فاروق ومن قبلهما الاحتلال ومن تعاون مع الطرفين من قوى المهادنة كانوا – جميعاً – ثورة مضادة مستمرة عاشت مع ثورة 1919م تحت سقف واحد حتى استنزفوها وكانت نهايتها نهاية طبيعية للتركيبة بكاملها ، انتهت الثورة ، وسقطت الملكية ، واستعد الاحتلال للرحيل ليحل محله النفوذ الأمريكي الجديد ، لكن رغم كل ذلك ، كانت مصر عند منتصف القرن العشرين تختلف تماماً عن مصر قبل ثورة 1919م ، أصبحت مصر – بفضل ثورة 1919م – قائدة في محيطها العربي ، رائدة في محيطها الإقليمي ، يُحسب لها حساب في المعادلات الدولية التي استجدت بعد الحرب العالمية الثانية .

***

بعد صحوة قصيرة في 25 يناير 2011م عادت مصر مع الجمهورية الجديدة لتشق طريقها من جديد في موكب الاضمحلال الحضاري والثقافي والفكري والسياسي ، لا تتكالب عليها أمم عظمى ، لكن تتكالب عليها دول مستجدة في التاريخ وعواصم ناشئة في التأثير والنفوذ ، هذه العواصم والدول لم يكن لها ذكر ولا اعتبار ولا دور ولا تأثير قبل مائة عام عند صعود مصر الحضاري عام 1919م ومابعدها ، تتكالب على مصر دول ليست من مقاس ولا من وزن ولا من سمعة ولا من قماشة مصر ، دول حتى أجل قريب لم تكن غير عدم سياسي وحضاري ، هذا التكالب هو أشد ما يؤذي مشاعر المصريين ويجرح كرامتهم الوطنية وينال من فخرهم القومي .

عرفت مصر الحديثة في القرنين الأخير محطات للصعود ومثلها محطات للاضمحلال ، فلم يتواصل الصعود ، ولم يستمر الاضمحلال ، وتوالي هذا وذاك ، هو مما يدعو للتفكير والتأمل في السؤالين الكبيرين :

السؤال الأول  : لماذا وصلنا إلى هنا ؟  ثم السؤال الثاني : كيف نخرج من هنا ؟

الجواب عند الطبقة الوسطى المصرية ، هذه الطبقة التي أناب عنها ومثلها العسكريون في الثورة العرابية فأخذوها وأخذوا البلد معهم إلى احتلال أجنبي دام ثلاثة أرباع قرن ، ثم هذه الطبقة الوسطى التي تبنت مع ثورة 1919م قيم الليبرالية الديمقراطية  التي استنزفتها الثورة المضادة من ملك واحتلال وقوى مهادنة ، ثم هذه الطبقة الوسطى التي توزعت بعد معاهدة 1936م بين الوفد والإخوان والشيوعية والفاشية ، ثم هذه الطبقة الوسطى التي فوضت أمرها للعسكريين مرة ثانية في 1952م ولم تتعظ بالدرس العرابي بل ذهبت تكرره فأعادت انتاج هزيمة التل الكبير 1882م في هزيمة الخامس من يونيو 1967م ، هذه الطبقة الوسطى التي جاءت لأول مرة في التاريخ الحديث بحكم الإخوان ومن تحالف معهم من جماعات دينية سياسية في يونيو 2012م  ، ثم هذه الطبقة الوسطى التي نسيت الدرس العرابي ثم نسيت الدرس الناصري وذهبت تفوض العسكريين للمرة الثالثة في السادس والعشرين من يوليو 2013م فذاقت في السنوات العشر التي أعقبت التفويض ما لم تذقه من قبل من قهر وفقر وقلة قيمة .

هذه الطبقة الوسطى تدفع وتدفع معها مصر فواتير اختياراتها الخاطئة ، ورغم ذلك ، تظل هذه الطبقة الوسطى هي الرهان الوحيد للخروج من نفق الاضمحلال .

***

باختصار شديد : المخرج الممكن من الاضمحلال السياسي هو أن ينتقل حكم مصر من العسكريين إلى الطبقة الوسطى بصفتها المدنية الاجتماعية .

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل بمشيئة الله تعالى .