في 8 مارس عام 1908، قامت حوالي 130 عاملة بالإضراب عن العمل والاعتصام بداخل أحد مصانع النسيج في الولايات المتحدة، احتجاجًا على ظروف العمل القاسية والمهينة، وإصرار صاحب المصنع على ممارسة أقسى أنواع الظلم والقمع والاستبداد. ولكي يكون الحدث (التمرد) عبرة لمن اعتبر، أغلق صاحب المصنع الأبواب عليهن وحرق المصنع.

تم قتل 130 امرأة عاملة حرقًا، لأنهن تجرَّأن على المطالبة بحقوقهن المهنية والإنسانية في الولايات المتحدة آنذاك. واستطاع بعض الجمعيات والمؤسسات العمالية والحقوقية والسياسية العمل على جعل هذا اليوم “يوما عالميًا للمرأة”. وبعد ذلك بسنوات طويلة، تم الاعتراف به واعتماده من قبل الأمم المتحدة.

وفي الواقع، فنضال المرأة العاملة بدأ قبل ذلك، ربما بنصف قرن. ففي عام 1856 خرج آلاف النساء للاحتجاج في شوارع مدينة نيويورك على الظروف غير الإنسانية التي كن يجبرن على العمل فيها، ورغم أن الشرطة تدخلت بطريقة وحشية لتفريق المتظاهرات إلا أن المسيرة نجحت في دفع المسؤولين السياسيين إلى طرح مشكلة المرأة العاملة على جداول الأعمال اليومية.

وفي 8 مارس 1908 عاد الآلاف من عاملات النسيج للتظاهر من جديد في شوارع مدينة نيويورك لكنهن حملن هذه المرة قطعًا من الخبز اليابس وباقات من الورود في خطوة رمزية لها دلالتها واخترن لحركتهن الاحتجاجية تلك شعار “خبز وورود”.

طالبت المسيرة هذه المرة بتخفيض ساعات العمل وإيقاف تشغيل الأطفال ومنح النساء حق الاقتراع. وشكلت مُظاهرات “الخبز والورود” بداية تشكيل حركة نسوية متحمسة داخل الولايات المتحدة، خصوصًا بعد انضمام نساء من الطبقة الوسطى إلى موجة المطالبة بالمساواة والإنصاف، رفعن شعارات تطالب بالحقوق السياسية، وعلى رأسها الحق في الانتخاب.

وقد ساهمت النساء الأمريكيات في دفع الدول الأوروبية إلى تخصيص الثامن من مارس كيوم للمرأة وقد تبنى اقتراح الوفد الأمريكي بتخصيص يوم واحد في السنة للاحتفال بالمرأة على الصعيد العالمي بعد نجاح التجربة داخل الولايات المتحدة.

هناك الكثير من الدول تمنح يوم 8 مارس عطلة للنساء فقط. وهناك دول أخرى تعتبره عيدًا وتمنحه عطلة رسمية لجميع المواطنين. وهناك بعض الدول التي تعتبره عيدًا ولكن بدون عطلة. وكانت جمهوريات الاتحاد السوفيتي الـ 15، إضافة إلى دول حلف وارسو السابق، تعتبره عيدًا، وتمنحه عطلة رسمية.

وكانت بطبيعة الحال تستخدم خطابين. الأول، سياسي عقائدي ضد الرجعية والإمبريالية والاستبداد والظلم والقهر، وضد أوروبا وأمريكا وكل الدول المعادية للتجربة السوفيتية. والثاني، تحميل المرأة أكبر من طاقتها في المصانع والورش والغيطان، وتكريس نظام الأسرة في أسوأ صوره وأكثرها رجعية لتحجيم طموحات المرأة.

وبعد انهيار حلف وارسو وتفكك الاتحاد السوفيتي، أبقى العديد من الدول هذا اليوم كما كان، ومن ضمنها روسيا. ولكنه أصبح عيدًا استهلاكيًا بكل ما تحمل الكلمة من دلالات اقتصادية ونفسية وذهنية ووجودية. لدرجة أن الإنسان يمكنه أن يقرأ إعلانًا يقول: “يا أجمل الجميلات، حافظي على جمالك في عيدكِ، واحتفظي بنظراتكِ العذبة، وعيونكِ الحانية، لتظلي أبدًا ودائمًا ملهمة للرجال”.

والإعلان كان من إحدى ماركات التجميل العالمية. وتوالت الإعلانات على هذا النسق من شركات الملابس والفوط النسائية والملابس الداخلية. إضافة إلى صالونات ومحلات الذهب والألماس. هذا على اعتبار أن المرأة يجب أن تحصل على كل ذلك أو بعضه كهدايا يقدمها لها الرجل، لا لشيء إلا لكونها امرأة. وهذا أخطر ما في الموضوع، لأنه يقابل ذكورية الرجل المفرطة وانحطاط تصرفاته وممارسته أسوأ السلوكيات لا لشيء إلا لكونه ذكرًا.

إنهم مثلما فعلوا مع صورة أرنستو تشي جيفارا، يفعلون الآن، ومنذ سنوات طويلة، مع 8 مارس. علمًا بأن لا أحد يريد أن يكون 8 مارس ميتمًا أو جنازة أو محصورًا باجتماعات سياسية وعمالية، ولكن لا أحد أيضًا يريده تفريغًا لمكتسبات تاريخية وقيمية وإنسانية تراكمية قابلة للتطوير حتى بعد خروج العالم من عصر ظروف العمل الكلاسيكية وبعد تحلل العلاقة بين أدوات الإنتاج وقوى الإنتاج في عصر الماكينة ودخوله عصر التقنيات الرفيعة والعمل الذهني والحضارة الرقمية.

إنه يوم ذكرى، تحول إلى عيد وبهجة وملابس فاخرة وهدايا ثمينة هنا، وعطلة رسمية وهمية هناك، وعودة لتاريخ الأموات وذكريات الحزن والأسى في هذا البلد، أو اجترار وندب ولطم في تلك الدولة، أو وسيلة للشركات العابرة للقارات والقوميات من أجل ترويج منتجاتها بأسعار ربما لا ترضي لا نساء منتصف القرن التاسع عشر المشار إليهن أعلاه، أو نساء مطلع القرن العشرين اللاتي احترقن في المصانع من أجل تدشين أول طريق الحرية والعدالة والمساواة والإنسانية وإقرار الحقوق التي هي أهم كل تلك القيم بعد الحرية.

وهناك مَنْ حوَّله إلى ساحة للطنطنات السياسية الفارغة والمزايدات والتضليل الاقتصادي والاجتماعي، والتكريس للمزيد من الذل والإخضاع، وإفراغه من مضمونه الإنساني والاجتماعي التراكمي لصالح قيم وهمية واستهلاكية، وحرفه عن مساره باستدعاء صراعات هامشية وتافهة بين الرجل والمرأة، وإعلاء قيمة امرأة على أخرى لأسباب بيولوجية واجتماعية، أو إعلاء قيمة المرأة على الرجل لأسباب تعود لانحرافات قيمية وذهنية وإلى طنطنات سياسية رديئة ومؤقتة ومغرضة وقصيرة النظر، وحمقاء.

وفي الحقيقة، ورغم كل ما ورد أعلاه، فيوم المرأة العالمي هو عيد إنساني عام لكل تلك الأسباب المذكورة، إضافة إلى “كونها امرأة” أيضًا، وهذا أمر مهم للغاية من أجل الاحتفاء بالجمال وبالجسد وبالعطاء وبالعقل الذي يزين كل شيء.

في 8 مارس 2023، نشر الفنان المصري- السكندري سعد الأزهري صورة لبائعة جوافة تجلس أمام “فرشتها” البسيطة وعلى كتفها طفلها الصغير النائم، وعيناها تكشفان عن هموم العالم التي تحملها.

إن “بائعة الجوافة” المصرية بشكلها في هذه الصورة، لا يمكن معرفة إذا ما كانت تجلس في الشارع في طقس صيفي أو شتائي، حيث ملابسها لا يمكن أن تخبرنا بأي شيء سوى بالفقر من جهة، وبالثياب المصرية التقليدية التي يرتديها المصريون، وبالذات النساء، في كل مواسم وفصول السنة. ولكن ربما تشي ملابس طفلها النائم على صدرها بأن الصورة ربما في الخريف أو الشتاء. رائع أن يكون لدى الطفل “شبشب”، لأن مثل هؤلاء الأطفال عادة ما يعيشون حفاة ويموتون حفاة.. وطبعًا إذا كانت الصورة قد التقطت في الصيف، فهي كارثة أكبر في درجات الحرارة المصرية بشمال إفريقيا في الشوارع.

هذه ليست لوحة تشكيلية وإنما صورة من الواقع، التقطها الفنان سعد الأزهري المهووس بنوعية معينة من المشاهد أو المشهديات التي تعكس واقع بلاده وواقع شعبه وناسه بنسائهم وأطفالهم.

وهي في الواقع، ليست مجرد صورة، وإنما شاهد حي على عصر يبرطع فيه الأغبياء والوقحون وأبناء الطوابير الخامسة واللصوص، وتنطلق فيه أيدي البلهاء والمستهترين ليرسموا مستقبل البلاد ويحددوا مصائر الناس ويروجوا لسرديات بائسة وكذوبة، ويضللوا الجميع بأرقام مزيفة وآمال أكثر زيفًا، بينما يضاعفون من أرصدتهم في البنوك ومن عدد فيلاتهم وقصورهم وشاليهاتهم وشققهم الفخمة في أرجاء البلاد.

“بائعة الجوافة” المصرية البسيطة لا تنتمي لا للنسوية ولا للمهتمين بالحقوق والحريات، لأن هؤلاء ببساطة لديهم شعاراتهم وبرامجهم واهتماماتهم الأوسع والأكثر إحاطة بعدد من عناصر الحياة الاجتماعية لقطاعات وشرائح معينة. وهذا لا يقلل من جهود الحركات النسوية الاجتماعية العقلانية ووعيها بمسؤولياتها وأولوياتها الاجتماعية حصرًا، ولا يقلل أيضًا من جهود العاملين في حركات الحقوق والحريات.

ولكن للأسف الشديد، فبائعة الجوافة تمثل نبتًا شيطانيًا لا مصلحة لأحد في التعامل معه إلا بمصمصة الشفاه وإبداء العطف، أو بعيون دامعة وإبداء الشفقة، أو في أحسن الأحوال شراء كيلو جوافة بدون فصال. أما الطفل فمن السهل أن نتوقع مستقبله “المضيء” والمبشر ربما بدخولنا عصر الفضاء على يديه!

في أوقات “الفتن” الاجتماعية والمعرفية والاقتصادية، يتم وضع العربات أمام الأحصنة، وتصبح الاستثناءات والصور الذهنية هي الواقع، ويتم تعميمها لتصير وكأنها الحقيقة والأمر الواقع. وفي أزمنة إشاعة الجهل والتجهيل قد يقفز شخص ليؤكد أن الكاتب العالمي أو المحلي العظيم فلان الفلاني كانت أمه تبيع الأرانب في سوق عكاظ أو في سوق الأباجية، وأن الفنان العالمي الرائد علان العلاني كان والده حانوتيًا أو كان يصنع الأحذية للموتى. ومن ثم ينقلب الاستثناء لا ليؤكد القاعدة، وإنما ليصبح بديلا للقاعدة، ونذهب إلى نسج المستقبل الناصع والباهر للاستثناءات، ونبني رؤانا الواسعة على أساس أن الطفل النائم على صدر أمه بائعة الجوافة هو الأمل والبطل والمستقبل بدليل أن فلان أو علان عاش نفس الظروف وأصبح عالمًا شهيرًا أو أديبًا كبيرًا، ولكن بشرط واحد ووحيد، ألا وهو أن لا ننظر إلى الواقع ولا نفكر فيه، بل نركز على الاستثناءات ونصنع منها صورًا ذهنية عامة وكأنها الواقع والحقيقة، ونعتبر أن وصول طفل من هذا النوع للتعليم هو بمثابة وصول ستة ملايين طفل من أطفال الشوارع إلى سدرة المنتهى، أو للتأكيد على أن كل شيء على ما يرام وأن كل أطفال بائعات الجوافة والجرجير قادرون على الوصول إلى مجالس الشعب والشيوخ ومقاعد القضاة وغرف الوزراء وضباط الشرطة.

“بائعة الجوافة” المصرية، امرأة فقيرة تجلس في الشارع وأمامها فرشة بها أقل من 50 ثمرة جوافة، وعلى كتفها طفلها البائس النائم.. امرأة خارج كل أحزمة تصنيفات الفقر وتصنيفات ما تحت الفقر، بل تصنفها بعض الأدبيات الماركسية بـ “البروليتاريا الرثة”، أو “البروليتاريا الكلبة” حسب التوصيف اليوناني… إنها تجلس طوال النهار لتبيع أقل من 50 ثمرة جوافة… ربما يرى فيها البعض بطلة، ويرى البعض الآخر فيها امرأة عظيمة.

كل فرد يريد أن يريح ضميره، أو يستخدم المرأة وطفلها ليصنع صورة ذهنية بائسة لبطولة زائفة أو عَظَمَة لا قيمة لها بين أنياب الفقر. غير أن البطولة هي أن تعيش هذه المرأة في كفاية مالية واقتصادية وبكرامة تحت سقف يحترم آدميتها وفي ظل قانون يضمن لها حريتها وحقوقها الطبيعية. والعظمة هي أن يتعلم الابن ويمارس الرياضة ويحصل على ضمانه الصحي وحقوقه.. لا بطولات في الفقر ومع الفقر، ولا عظمة في الخداع والتضليل وصناعة الصور الذهنية الزائفة.. ولا عيد للمرأة إلا عندما تختفي ظاهرة بيع الجوافة والبطاطا والجرجير على الأرصفة وفي الشوارع.

والاختفاء لا يعني إخفاء الناس ونفيهم وترحيلهم من المدن من أجل تزيين هذه المدن وصناعة صور ذهنية أكثر بؤسًا وقبحًا وتضليلًا، مثلما كانوا يفعلون في الاتحاد السوفيتي عندما يرحلون المتشردين والمتسولين في المناسبات الدولية والرفاقية المجيدة، وإنما الإخفاء يعني القضاء على أسباب الظاهرة وأسباب هذا المستوى من الفقر واستفحال الفوارق الطبقية بشكل جنوني، على الأقل من أجل أن تتناسب الصورة الذهنية مع أكبر مصنع وأطول برج وأوسع مدينة وأحدث عاصمة.

إن هذه الصورة الحية لـ “بائعة الجوافة” المصرية هي الشاهد على واحدة من أسوأ مراحل تاريخنا القديم والحديث والمعاصر وأشدها بؤسًا وتضليلًا، وتجريفًا لكل ملكات وقدرات الإنسان المصري.

ومع ذلك، فكل عام وكل الآلاف من بائعات الجوافة والبطاطا والجرجير، وكل الآلاف من العاملات والفلاحات والأمهات، والنساء جميعًا، بألف خير وصحة وسعادة وأمان.