حين وجه الرئيس عبد الفتاح السيسي الدعوة لعقد الحوار الوطني في أواخر أبريل من العام الماضي، ورغم عدم انطلاق الحوار الفعلي حتى الآن، فقد ساد الاعتقاد بأن هذه هي الخطوة الأولى المبكرة نسبيا في حملة إعادة ترشيح الرئيس لفترة رئاسية ثالثة في منتصف عام 2024، وكذلك راجت توقعات بأن خطوات تالية سوف تتعاقب.
ولا شك في أن قرارات الرئيس يوم الخميس الماضي (الثاني من مارس الحالي) بزيادة الحدود الدنيا للرواتب والأجور للعاملين في الدولة، وزيادة الحدود الدنيا للإعفاءات الضريبة على دخول الأفراد، هي خطوة في الاتجاه نفسه، سيما وأن هذه الزيادات لم تكن مدرجة من البداية في الموازنة العامة، وكذلك يأتي تكثيف جولات الرئيس في المحافظات لافتتاح مشروعات من النوع الذي يعتز به في هذا السياق.
لا يتعارض هذا المعنى السياسي (الانتخابي) لقرارات الثاني من مارس مع أي تقييم صحيح آخر لها، مثل كونها محاولة لتخفيف الاحتقان الاجتماعي، الناجم عن الأزمة المعيشية الحادة الناجمة بدورها عن أزمة اقتصادية مركبة وعميقة، فتلك هي طبيعة السياسة التي تفرض حدا أدنى من المرونة وقت الأزمات، وقبيل الاستحقاقات الانتخابية المهمة، حتى على أعتى النظم السياسية الشمولية، بانتخاباتها مقررة النتائج سلفا، ولو من باب تحسين الإخراج.
سبق أن كتبت هنا أنه ليس من المحتمل واقعيا ولو بنسبة واحد المائة، أن لا يترشح الرئيس السيسي للدورة الرئاسية الجديدة، وذلك ردا على الأصوات التي تطالبه بذلك علنا، أو الأصوات التي تتمنى مثل هذا القرار، وقد بنيت هذه الحسبة على أن التحالف السياسي الواقعي الذي يمثله الرئيس لا يزال متماسكا حوله، وهو التحالف المؤلف من جهاز الدولة وكبار رجال السوق والأعمال بقيادة المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى الغياب المزمن للبديل السياسي الداخلي الطامح أو القادر في الإطار الدستوري السلمي، وكذلك فلم تعد هناك تحديات إقليمية أو دولية يؤبه لها تناوئ ذلك التحالف الداخلي الحاكم، فضلا عن أنه ليس من تقاليد نظام يوليو قبول الاحتكام إلي معايير النجاح والفشل كسبب للاستمرار في السلطة أو الخروج منها.
لذا، ومع تقديري لرواج فكرة البحث عن مرشح مدني لمنافسة السيسي في انتخابات 2024، من شخصيات المعارضة الرسمية، أو من الشخصيات المستقلة، فإنني لا أرى فرصة حقيقية لمرشح من هذا الطراز، ليس لأنه لا يوجد من يصلح، ولكن لأن من يصلحون يدركون السدود والقيود أمامهم، وهي كلها نابعة من الضعف أو الإضعاف المزمن للحركة الحزبية في الحياة السياسية المصرية، إذ أن إجمالي العضوية في كل الأحزاب الجادة والوهمية لا يبلغ عشر معشار ما يمكن أن يوصف بكتلة وازنة، فضلا عن أن تكون كتلة حرجة، ومن ثم فلا موارد مالية مثلا تكفي لحملة انتخابية مؤثرة، وقبل ذلك لا توجد أصلى فرصة لعقد مؤتمرات جماهيرية، بل لا فرصة أصلى لمخاطبة الناخبين علي الصفحات أو الشاشات، وبمنطق الأمور فإن كل ذلك يؤدي بالأغلبية الصامتة إلى انعدام الثقة مقدما في قدرة مرشح معارض على الوصول للسلطة انتخابيا، بل وانعدام الثقة في أهليته للحكم، الذي لم يكتسب أحد من خارج ذلك التحالف الحاكم منذ يوليو 1952 شيئا يذكر من الخبرة به.
إذن فإن الإجابة على سؤال ترشح الرئيس السيسي هي نعم، وبكل تأكيد، وبلا أي جدال.
أما الإجابة على سؤال هل يترشح منافس جاد للرئيس من صفوف المعارضة الرسمية، والتي تتمثل في نظر أغلب المراقبين في أحزاب وشخصيات الحركة المدنية الديمقراطية فهي لا بكل تأكيد وبلا أي جدال أيضا، غير أن ذلك لاينفي إمكان عقد صفقة لضمان حسن الإخراج مع الجاهزين لمثل هذه الصفقات، من خلال صيغة أكثر تشويقا من انتخابات عام 2018، كأن تشكل بعض الأحزاب من خارج الحركة المدنية ائتلافا يدفع بمرشح (يحفظ الخانة).
لكل ذلك أعتقد أن السؤال الأهم من التساؤل عمن سيترشح ومن لن يترشح يجب أن يكون: ما الذي سوف يقدمه الرئيس للمواطنين في الإعلان الرسمي لترشحه، ليطلب منهم إعادة انتخابه، حتى وإن كان الفوز مضمونا؟.
ليس صحيحا أن الرئيس لا يحتاج إلى أن يقول شيئا أو لا يهمه أن يعد بشيء، فليس ذلك من قاموس السياسة، حتى وإن كان النظام يمتلك كل مصادر القوة السياسية، خاصة وأن مبدأ الضرورة الذي حكم الدورتين السابقتين قد بطل مفعوله بسبب الأزمة المعيشية الحادة، إن لم يكن أيضا لأسباب سياسية، مثل اعتراف الرئيس نفسه بالانتصار على الإرهاب، ومثل سمعة مصر غير المشرفة في سجل حقوق الإنسان والحريات.
هنا نعود إلى ما بدأنا به هذا المقال حول التكييف السائد للمبادرة الرئاسية للحوار الوطني“ لخلق مساحات مشتركة تنبني عليها الجمهورية الجديدة“، وهو الفهم الذي قلنا إنه اعتبر هذه المبادرة هي الخطوة الأولى في حملة إعادة ترشح الرئيس وإعادة انتخابه.
وإذا سلمنا بأن الأزمة المعيشية المقترنة بأزمة انهيار قيمة الجنيه، وأزمة الديون، وأزمة الإنتاج، واختلالها الهيكلي أعقد من أن تنفرج سريعا فإن الميدان السياسي يمكن أن يشهد قدرا (محسوبا) من الانفراج، وذلك من خلال مخرجات الحوار الوطني.
بالطبع ندرك جميعا أن الحوار الوطني لم يبدأ بعد، وأن عملية الإعداد له طالت بأكثر مما توقع أكثر المتشائمين، وبوسع القارئ أن يتكهن بأسباب هذا البطء أو التعثر، إذ لايزال تنفيذ التفاهمات التي جرت بين الحركة المدنية الديمقراطية، وبين الجهات الرسمية الراعية للحوار غير مكتملة، ولكن حسب المعلومات المتاحة فإن خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح متوقعة قريبا، كما أن أطراف الحوار متفقة على عدم تركه للجمود أو الفشل، وبتعبير آخر، فعلى الرغم من الصعوبات التي واجهها الحوار، وعلى الرغم من الصعوبات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضخمة في البيئة المحيطة بالحوار من خارجه، فإن أحدا لم يقفز من السفينة، بل يعمل كل طرف علي تذليل الصعوبات الداخلية عنده، وخاصة تفاوت التقديرات بين الأجهزة الرسمية حول تنفيذ التفاهمات التي سبقت الإشارة إليها مع الحركة المدنية.
وحسب المعلومات المتاحة أيضًا، وكذلك حسب التقديرات المتفائلة، فإن لم يكتمل الحوار الوطني بمحاوره الثلاثة السياسي والاقتصادي والاجتماعي قبل حلول الذكرى السنوية لإطلاقه في حفل افطار العائلة المصرية الرمضاني، فالاتجاه هو إنجاز مخرجات مهمة في المحور السياسي لتعلن في تلك المناسبة، ويتوقع أن تتمثل في تعديل قانون الانتخابات، وقانون الأحزاب وقوانين مجلسي النواب والشيوخ، وكذلك تعديل قانون الإجراءات الجنائية للحد من مدد الحبس الاحتياطي ومن ثم تصفية الحالات الراهنة، وقانون الانتخابات المحلية لتسهيل إجرائها، وأخيرًا يتوازى مع ذلك مزيد من قرارات العفو الرئاسي عن المحكوم عليهم في قضايا سياسية لا تتضمن استخدام العنف.
قد لايكون ذلك هو غاية المراد عند المطالبين بإصلاح واسع، ناهيك عن المطالبين بتحول ديمقراطي كامل، وبالطبع هو كذلك، ولكن أيضًا لا جدال في أنه سوف يكون انفراجًا لابأس به ولو من باب أن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، غير أن التكهن يبقى مجرد تكهن حتى يتحقق، وعلي أية حال فالانتظار لن يطول، بما أن مناسبة الذكرى السنوية للمبادرة الرئاسية للحوار الوطني على الأبواب.