من بين دول الخليج العربي ربما لن تلتفت كثيرا إلى سلطنة عُمان، فهي ليست بقوة ونفوذ جيرانها في السعودية والإمارات وقطر، وليست بثراء وتأثير الكويت. لكن هذه السلطنة لطالما كان موقعها الجغرافي الفريد وسياساتها الخارجية المتمايزة سببًا في تفردها بعالم العلاقات الدولية والتوازنات الجيوسياسية، حيث نحتت لنفسها مسارًا مختلفًا بالمنطقة؛ أكسبها أهميةً لا غنى عنها في شد فتيل التوترات ولعب أدوار الوساطة.
من الغرب تحد السلطنة كلا من الإمارات والسعودية، ومن الشرق بحر العرب حيث المحيط الهندي. من الجنوب تتجاور مع اليمن، ومن الشمال مضيق هرمز حيث تتشارك في إدارته مع إيران. تستمد السلطنة قوتها من كونها تؤسس تقاطعًا تاريخيًا وثقافيًا بين العالم العربي لغرب آسيا وشرق إفريقيا والعالم الهندي في بداية القرن الحادي والعشرين.
تصف وسائل الإعلام الدولية السياسة الخارجية للسلطنة بأنها سياسة تحوط أو توازن شامل أو تأكيد الحياد. وأحيانًا يشار إليها باسم “سويسرا الشرق الأوسط”؛ نظرًا لسياسة الحياد الشهيرة التي تتبعها الأخيرة. فعُمان لم تقطع أي علاقات دبلوماسية مع أي دولة.
يؤكد ذلك، أنها كانت إحدى دولتين فقط من دول الجامعة العربية -إلى جانب السودان- لم تقاطع مصر بعد إبرامها معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979. وهي العضو الوحيد في مجلس التعاون الخليجي الذي ظل محايدًا طوال الحرب العراقية الإيرانية بين عامي 1980 و1988. كما لم تنضم إلى مقاطعة قطر عام 2017، ولعبت دور الوساطة في إصلاح العلاقات. فيما كانت الدولة الخليجية الوحيدة التي أجرت مناورات عسكرية مشتركة مع إيران.
سياسة “الحياد الإيجابي”
يقول “معهد دول الخليج العربية في واشنطن” إن مفاهيم البراجماتية (الحفاظ على البقاء بالنسبة للدولة الصغيرة) والتوسط (بين الأطراف المتنازعة) وعدم التدخل (من خلال الوسائل العسكرية في النزاعات العسكرية) والتحوط (بين من يتولون مسؤولية الأمن) تُمثل مُجتمعة وصفًا أكثر دقة لسياسات عمان والمواقف التي اتخذتها في سياقات وأزمنة مختلفة.
لا يمكن فصل ذلك إذًا عن المواقف العُمانية من النظام السوري حيث كانت البلد العربي الوحيد الذي أبقى قنوات التواصل مفتوحة معه ولم تقطع العلاقات الدبلوماسية، بل وزار بشار الأسد السلطنة لأول مرة في شهر فبراير/شباط الماضي بأعقاب كارثة الزلزال في إطار النهج العربي لإصلاح العلاقات معه.
كذلك كانت علاقات السلطنة مع إيران، فرغم الضغط السعودي والإماراتي إلا إنها أبقت على علاقاتها ولم تنضم إلى تحالف حرب اليمن بل وساهمت في العديد من أدوار الوساطة سواء بين إيران والدول الخليجية أو بين إيران والدول الغربية.
فمنذ أكثر من أربعة عقود -أي منذ تولِّي السلطان قابوس مقاليد الحكم- هناك توجهٌ عماني في مقاربة القضايا الإقليمية، من نوع مختلف عن بقية الجيران الخليجيين، سواءً في العلاقة مع إيران، أو في النظرة للخلافات العربية – العربية.
ومن هنا اكتسبت السلطنة أهميتها في المنطقة بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بل وامتد الأمر إلى السعي الإسرائيلي لبناء علاقات معها، وكانت أولى خطواته الزيارة الأولى من نوعها لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو في 2018 إلى مسقط حيث استقبله السلطان الراحل قابوس بن سعيد، وآخرها فتح المجال الجوي -الشهر الماضي- أمام الطائرات الإسرائيلية في عهد السلطان هيثم بن طارق، ابن عم قابوس والسائر على نهجه.
وبحسب الكاتب السعودي بدر الإبراهيم، فإن تفسير البراجماتية يظهر في قدرة السلطنة على “القيام بدور الوساطة بين الأطراف المتصارعة، والمساهمة في حل الإشكالات في المنطقة، بما يخفف من حالة عدم الاستقرار فيها، وخطرها على الاستقرار الداخلي العماني”.
ويعلل المحلل السياسي عقل الباهلي الموقف العماني بأن السلطنة “تعيش وتبحث دائمًا عن حالة تلاؤم اجتماعي وبالذات في المواقف الحادة” التي تنشب بين الدول. ويقول إن “طبيعة الوضع في عمان مختلف عن أوضاع بلدان الخليج، إذ أن وجود تعددية عقائدية، دينية ومذهبية، في عمان تحتّم على مسقط بناء علاقات متوازنة إقليميًا”.
ويدين الغالبية العظمى من العمانيين بالدين الإسلامي، ويتبع غالبيتهم المذهب الإباضي. ويوجد أيضًا عمانيون سنة وشيعة. والمجتمع العماني لا يضم أتباع شتى المذاهب الإسلامية فحسب، بل فيه أيضًا مواطنون ومقيمون من الهندوس والبوذيين والمسيحيين واليهود والبهائيين والمورمونيين (عقيدة مسيحية).
العلاقات مع إيران
لطالما حافظت عُمان، لأسباب عدّة منها الدعم العسكري الذي قدّمته لها إيران في عهد الشاه خلال ثورة ظفار في السبعينيات، وحياد مسقط في الحرب الإيرانية-العراقية في الثمانينيات، على سياسة خارجية مستقلة حيال إيران.
وتأخذ عُمان بالاعتبار شراكتها مع إيران في مضيق هرمز الاستراتيجي، والمصالح التجارية والنفطية التي تربطها بطهران. إذ تسيطر الدولتان على معبر هرمز الذي يعد من أهم المعابر المائية في العالم، حيث يمر فيه أكثر من 40% من النفط الخام بالعالم.
الباحثة بسمة مبارك سعيد تقول -في دراسة لها- إن هذا النهج العُماني “لا يمكن أن يندمج بسهولة مع السياسة الخارجية لدول خليجية أخرى، كما لا يمكن أن تسمح عُمان، لأطراف أخرى، بجرها نحو مستنقع الصراعات الإقليمية والزج بها في حروب بالوكالة”.
هذا الرابط الممتاز مع إيران لطالما أثار جدلاً واسعًا لدى دول الخليج. لكن في الوقت نفسه ساعد في أن تلعب عمان دور الوسيط في الملف النووي الإيراني الذي كان محطّ خلاف إيران مع الدول الغربية والولايات المتحدة بالدرجة الأولى.
منذ 2011 رعت السلطنة مفاوضات سرية بين أميركا وإيران التقى فيها المفاوضون الإيرانيون والأميركيون في مسقط برعاية مباشرة من السلطان قابوس أُعلن عن بعضها، لكن بقي الجزء الأكبر منها في طي الكتمان.
وتم التوصل إلى الاتفاق النووي الشهير في جنيف بين دول 5+1 (أي مجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن وألمانيا) والجمهورية الإسلامية الإيرانية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013. وقد بدا الدور العماني واضحًا، وكنوع من الاعتراف بالجميل، زار الرئيس الإيراني حسن روحاني السلطنة في 2014.
حافظت السلطنة بحذرٍ كبير على استقلاليتها في صنع القرار. إذ تقع على الخطوط الأمامية للتنافس المتجذر بين السعودية وإيران، وليس من الغريب أن تتحوّل أرضها إلى ساحة معركة تتصادم فيها طموحات قيادتي القوتين الإقليميتين، بحسب “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى“. ومع ذلك، فقد استخدمت بيئة عدم الاستقرار هذه لصالحها من خلال الاستفادة من دورها كدولة فاصلة لممارسة سياسة خارجية مستقلة.
مسقط لديها أيضا مصلحة مكتسبة في منع تصاعُد حدّة الحوادث البحرية وبلوغ المعارك بين الفصائل اليمنية المتخاصمة مستوياتٍ خطيرة. خاصة بالنظر إلى سواحلها المطلة على مضيق هرمز وجزء كبير من حدودها الجنوبية مع اليمن. وقد رعت السلطنة مفاوضات بين القوى اليمنية المتصارعة وبين رعاتهم السعودية وإيران، كما ساهمت جهودها في الإفراج عن جنود أمريكيين باليمن.
العلاقات مع سوريا
منذ اندلاع الأزمة السورية قبل نحو عقد من الزمن، كانت سلطنة عمان الدولة الوحيدة في مجلس التعاون الخليجي التي لم تَقم بأي تحرك دبلوماسي ضد دمشق. وعام 2021، كان السلطان هيثم بن طارق أول زعيم خليجي يهنئ الأسد بإعادة انتخابه.
واستخدمت السلطنة حيادها من أجل دفع الأفرقاء المختلفين نحو التوصل إلى تسوية دبلوماسية في محاولة ترمي إلى وضع حد لحمام الدماء، وفق مركز كارنيجي للشرق الأوسط.
ويضيف المركز “الآن بعدما انتصر نظام بشار الأسد بصورة أساسية في الحرب الأهلية، تسعى عُمان، إضافةً إلى روسيا والإمارات، إلى أداء دور أكبر في مساعدة سوريا على الاندماج من جديد في الحظيرة الدبلوماسية العربية الأوسع، وإعادة إعمار بناها التحتية المتداعية”.
ولكن القيام بذلك فيما تفرض الولايات المتحدة عقوبات قاسية على سوريا، يُرتِّب على مسقط إرساء توازن حذر بين جهودها الرامية إلى كسب نفوذ في دمشق وبين روابطها القوية مع واشنطن. وتعتبر مسقط أن هذه الخطوة تساهم في تعزيز قدرتها على أداء دور أكبر في موقع الجسر الدبلوماسي والفريق الفاعل في مجال العمل الإنساني.
فيما تستشرف دمشق أيضًا فوائد من استخدام عُمان كشريك دبلوماسي محتمل وجسر عبور إلى الدول الأخرى في مجلس التعاون الخليجي. وربما تترقّب دمشق أيضًا تحقيق منافع اقتصادية من خلال الشراكة الدبلوماسية مع السلطنة التي يمكن أن تؤدّي دور القناة الخلفية التي تربط بين دمشق ودول الخليج.
وبينما يفتقر الحليفان الرئيسان، أي روسيا وإيران، إلى الموارد المالية اللازمة في الوقت الراهن لمساعدة سوريا في عملية إعادة الأعمار، ترى دمشق أن الدول الخليجية الثريّة، مثل الإمارات والسعودية، تمتلك الموارد الضرورية للاستثمار في إعادة إعمار البلاد.
العلاقات مع إسرائيل
تقف هواجس مسقط الاقتصادية خلف اهتمامها باستئناف علاقاتها مع إسرائيل بعد قطع الروابط معها في العام 2008. إذ تبذل عمان، في السنوات الأخيرة، جهودًا حثيثة للتحوّل نحو اقتصاد ما بعد النفط، طبقًا لما يشير إليه نيما خورامي أسل، مستشار لشؤون المخاطر السياسية.
تؤمّن صادرات النفط الخام ما نسبته 71% من الإيرادات الحكومية، التي تعتمد مسقط عليها، للتخفيف من الأعباء الاقتصادية المترتّبة عن البطالة المتزايدة في صفوف الشباب، والموجات المتصاعدة من اللاجئين اليمنيين، ودعم التكاليف المعيشية الأساسية لنحو 84 ألف أسرة متدنّية الدخل، أو حوالي ثلث المواطنين.
وتظن مسقط أن إسرائيل يمكن أن تقدم مساعدة كبيرة جدًا، لا سيما في قطاعَي الزراعة والتقنية العالية. صحيح أنه بإمكان سلطنة عمان الحصول على هذه التكنولوجيات من بلدان أخرى، لكنها تدرك أيضًا أن القيادة الإسرائيلية تُثمّن باطراد إقامة علاقات مع الدول العربية في إطار استراتيجيتها الأوسع نطاقًا من أجل التصدّي لإيران.
وقد استفادت السلطنة من فتح أجوائها أمام الطيران الإسرائيلي برعاية أمريكية في التوقيع على عدة اتفاقات اقتصادية مع الأخيرة. كذلك تبذل عمان، في إطار سعيها الأوسع نطاقًا نحو تحقيق التنويع، جهودًا دؤوبة بغية تنويع المصادر التي تزوّدها بالمعدات الدفاعية. والدليل على ذلك الاتفاقات التي أبرمتها مؤخرًا مع الهند، ومنها مذكرة تفاهم وُقِّعت في 2018 وتُجيز لسلاح البحرية الهندي أن يرسو في ميناء “الدقم”.
وفي الجانب الأهم -والحديث لا يزال للتقرير- تأمل عمان بالاستعانة بخدمات الشركات الإسرائيلية المتخصصة بالأمن السيبراني نظرًا إلى أن القطاعَين الخاص والعام لديها معرَّضان للوقوع ضحية هجمات سيبرانية متطورة وواسعة النطاق من الدول المجاورة لها أو من دول أبعد.
أما تل أبيب فتعتبر أن إعادة تفعيل العلاقات مع مسقط تمنحها سوقًا جديدة ومربحة نسبيًا في موقع استراتيجي. ومن شأن الشركات الإسرائيلية أن تحصل أيضًا على وصول أسهل إلى السوق الهندية المجاورة عن طريق امتلاك عمليات في سلطنة عمان حيث العقبات اللوجستية أقل.
يشير الباحث “ترتدي إسرائيل (بوصفها مركزًا للابتكار) وسلطنة عمان (بوصفها مركزًا لوجستيًا) أهمية محورية بالنسبة إلى الاستراتيجية العالمية الأوسع لكل من الصين والهند، والدليل على ذلك الاستثمارات الصينية والهندية في الشركات التقنية الإسرائيلية وفي تطوير ميناء الدقم في عمان. بإمكان عمان وإسرائيل الإفادة من ذلك لبناء علاقة تجارية متبادلة مع هذين العملاقَين الاقتصاديين، وذلك بالاستناد إلى ما يتمتعان به من خصائص جغرافية وتكنولوجية”.