لم يكن التنازل عن جزيرتي “تيران” و”صنافير” الاستراتيجيتين في البحر الأحمر سوى حلقة خطيرة في الصراع الممتد عليه.
ولا كان التباطؤ في تسليم الجزيرتين إجراء فرضته تعقيدات واعتبارات استجدت تقنية وغير تقنية بقدر ما كان تنبها متأخرا لعواقب التنازل عنهما.
بموجب التفاهمات فإن إسرائيل طرف رئيسي ومباشر والتنازل نفسه يمهد الطريق لنوع من سيطرتها على البحر الأحمر وتطبيع العلاقات مع السعودية عبر مشروع “نيوم”.
السعودية ليست وحدها.
هناك تسابق استراتيجي بين أطراف دولية وإقليمية عديدة للسيطرة على موانئ البحر الأحمر وداخل القرن الإفريقي يعمل على تهميش مصر ووضعها تحت الضغط وفرض نوع من العزلة عليها- كما يتبدى بدرجة أو أخرى في أزمة سد النهضة.
التراجع لم يبدأ اليوم ولا يتحمل مسؤوليته النظام الحالي وحده، لكنه مرشح للتفاقم.
إثر رحيل “جمال عبدالناصر” وإحكام “أنور السادات” قبضته على السلطة في مايو (1971) تبدت أول إشارة خطرة على نوع الصراع المقبل في البحر الأحمر.
بتاريخ (27) أكتوبر (1972) كتب الأستاذ “محمد حسنين هيكل” مقالا في جريدة “الأهرام” تحت عنوان: “الخطر فوق البحر الأحمر!”.
“تحت السطح يبدو أن المملكة العربية السعودية تريد أن تكون لها الكلمة العليا في كل شئون ومستقبل شبه الجزيرة العربية”.
و”تحت السطح يبدو أن العوامل والقوى التي شاركت في الحرب على الجمهورية في اليمن لا تزال تتحرك وتعمل”.
“ومن وجهة نظر حقائق الجغرافيا السياسية فإن أحدا لا يناقش في ضرورة أن يكون للمملكة العربية السعودية دور خاص في شبه الجزيرة العربية”.
“ولكن المسألة بعد ذلك تصبح: في أي اتجاه؟.. وإلى أي مدى؟.. وكيف يمكن لذلك كله أن ينسجم مع استراتيجية عربية عامة في البحر الأحمر الذي هو الآن- وسوف يصبح غدا من أهم وأخطر جبهات الصراع الطويل والمتصل مع العدو الإسرائيلي”.
“إن نظرة على جغرافية الشرق الأوسط تقول إن مضايق تيران ليست المدخل الوحيد إلى خليج العقبة، وإنما البحر الأحمر كله يمكن اعتباره مدخلا إلى خليج العقبة”.
“ومع استمرار الصراع العربي- الإسرائيلي وتصاعده تحت ضغط دعاوى الأمن الإسرائيلي، وردود الفعل العربية الطبيعية المضادة لهذه الضغوط- فإنه من المحقق ذات يوم أن تقوم ما يمكن أن نسميه قيادة بحرية عربية للبحر الأحمر وعلى وجه اليقين فإن هذه القيادة تستطيع أن تسيطر على هذا الطريق المائي الكبير، وتستطيع الوحدات البحرية لهذه القيادة- تأكيدا- أن تتعرض للملاحة الإسرائيلية جنوب مضايق تيران بأبعد مما يمكن أن يصل إليه الطيران الإسرائيلي على أن نذكر دائما أن تفوق الطيران الإسرائيلي- مهما دعمته طائرات الفانتوم الأمريكية- تفوق مؤقت!”.
“لقد حاولت أن أكتب بمنتهى الحذر واضعا في اعتباري حساسيات عربية ومحاذير دولية لا يصح تجاهلها، ولكنني من ناحية أخرى لم أستطع أن أقف ساكتا إزاء ما يجري الآن، وما يمكن أن يجري غدا في البحر الأحمر”.
غير أن حذره لم يمنع الملك السعودي “فيصل” من أن يعترض رسميا على ما كتبه كما أخبره “السادات”، الذي تلقى برقية يقول مضمونها: “إن العالم كله شرقا وغربا لديه قناعة بأن هيكل يتحدث باسم الدولة المصرية وإذاعة مقالاته من إذاعة القاهرة وصوت العرب يؤكد هذا.. نحن نرفض مسبقا أن نتلقى الرأي القائل بأن هيكل لا يمثل وجهة النظر الرسمية.. ونحن نريد أن نعرف إذا كان هذا المقال يمثل تغيرا في موقف القاهرة تجاه علاقتنا الثنائية لكي نغير من سياسة المهادنة الحالية التي نتبعها”.
البرقية بتوقيع السفير المصري بالسعودية “خالد فوزي” مرفوعة إلى “حافظ إسماعيل” مستشار الرئيس للأمن القومي عن لقاء مع “عمر السقاف”، مستشار الملك “فيصل” سجل فيه اعتراضات على ما كتبه ومطالب بالنظر في دوره.
كان ذلك الطلب السعودي سببا مباشرا في الصدام الذي جرى بين الرجلين وفق وثيقة خطية بالغة الأهمية والدلالة عن اجتماع عاصف جمعهما.
مساء الجمعة (4) نوفمبر (1972) دخل “محمد حسنين هيكل” مكتبه واستدعى على الفور من ائتمنه على سره، وبدأ يتلو عليه محضرا كاملا بما جرى في مكتب رئيس الجمهورية على نيل الجيزة.
أدخل هيكل إلى حجرة مكتب الرئيس في منزله بالجيزة.
سلم على أنور السادات وقال له وهو يناوله النسخة الإنجليزية من كتاب عبدالناصر والعالم: لم أجد هدية أحضرها لك من لندن سوى هذه.
وتناولها السادات ووضعها على مكتبه دون أن ينظر في الكتاب وقال: متشكر.
ثم قال فجأة:
ـ يا محمد..
أنت بتتهمني إني ما عنديش عقل.. يا محمد؟ إيه هو؟ إحنا على طريقين مختلفين جدا.
وأخذ هيكل لأول مرة وعلق قائلا: لست أفهم سبب فتح مثل هذا الموضوع مباشرة هكذا.. أنا لم أقل هذا على أية حال.
السادات: أنت بتعرض بي ليه يا محمد؟
هيكل: أود أن أحدد لك بدقة موقفي.. أنا أختلف معك سياسيا ولكنني لا أعرض بك.
السادات: أنا لا أسمح لك.. أنا المسئول.. وأنا الذي انتخبني الشعب.
هيكل: وأنا صحفي مسئول وحر.
السادات: الأهرام ده بتاع مين؟
هيكل: الأهرام ده أنا اللي عملته.. وهو مملوك للاتحاد الاشتراكي حسب وثائقه الأساسية، وعلى أي حال دعني أرفع عنك الحرج أنا مستعد في أية لحظة أمشي.
السادات: ده قرار تاخده بمحض إرادتك.
هيكل: إذا اتفقنا.
السادات: كيف تكلمني بهذه الطريقة؟
هيكل: أود أن أقول لك شيئا لأكون واضحا.. أنا أضع حدودا واضحة بين رئيس الدولة وبين رئيس التحرير، ولكن هناك جانبا في العلاقة هو ذلك القدر الموجود من الصداقة بيننا إلا إذا كنت قد ألغيته خلال الأسبوع الذي كنت أنا فيه في لندن.
السادات: أنا الصداقة أعتز بها، وأنت تعلم مني هذا، ولكن كيف تشتمني؟
هيكل: أنا لم أشتمك، وعلى أية حال دعني أعفيك من الحرج أنا مستعد في أية لحظة أمشي.
السادات: هذا قرارك تأخذه بمحض إرادتك.
هيكل: إذا اتفقنا وانتهى الأمر.
تحدث هيكل والسادات بعد ذلك مطولا عن زيارة هيكل للندن.
ثم قال السادات بعد أكثر من ساعة.. لنعود إلى موضوعنا: حين تقول إن السياسة الآن تعمل بغير عقل أليس معناه أنني بلا عقل؟.. ثم إنك تتهمني أنني لا أعمل لحل أزمة الشرق الأوسط؟
هيكل: هذا غير صحيح، لقد كنت انتقد أشياء كثيرة أيام جمال عبدالناصر ولكنه لم يعتبر ذلك موجها له شخصيا، أنت تعلم حين اكتشف عبدالناصر تزوير انتخابات مجلس الأمة فقد ثار بشدة، وظل شهرا كاملا لا يتحدث ولا يتصل بسامي شرف وشعراوي جمعة وكان سيتخذ ضدهم إجراءات حاسمة ثم أجلها لأنه كان من ضرورات المرحلة أن يدفع بعناصر التغيير ويزيد منها دون أن يهز الواقع الذي كان مهتزا بشدة بعد الهزيمة، ثم إنك تعرف علاقتي بسامي وشعراوي، وكيف عانيت منهم وما وصلوا إليه من تدبير لي عند الرئيس فليس كل ما ينتقد في عهد عبدالناصر كان يأخذه على أنه كلام عليه بل إنه كان ضد كثير جدا مما يحدث وكان يحاول تغييره.
ولكن مع عبدالناصر كانت علاقاتنا واضحة، وكنت أقول له رأيي وكنت أعرف رأيه، وكان عبدالناصر يناقشني ويقنعني فكانت نقاط الاختلاف في الرأي بيننا واضحة لي وكانت دوافعها معروفة لي ومفهومة.
ثم إن هناك شيئا أريد أن أقوله لك: إنني لا أريد شيئا. لست أطمع في رئاسة أو منصب، وأنك في غيابي اتصلت بأحد مساعدي في الأهرام وكلمته في التليفون بنفسك لتعرف إذا كنت قد عينت أحمد عبدالله رزة بستين جنيها في الأهرام أم لا؟ لقد سبق لسيد زكي من المباحث أن اتصل بهذا المساعد لنفس السؤال، وحين جاء المساعد ليسألني فقلت له ألست تعرف أننا لم نعينه قال نعم فقلت له إذن قل لسيد زكي لقد زاد الدس ضدي جدا في المرحلة الأخيرة وقد ضقت ذرعا به. كان الدس موجودا أيام عبدالناصر ولكنه كان يعرف المواقف الأساسية للبشر ويتعامل على أساسها.
السادات: إن اختلافاتك في الرأي أدت مؤخرا إلى غضب السعودية. لقد غضبوا جدا من مقالك حول استراتيجية عربية في البحر الأحمر، وقالوا لي في مذكرتهم إننا إذا أجبنا عليهم بأن هيكل لا يمثل الرأي الرسمي فهم لن يقبلوا هذا الرأي؟(!!!!)
هيكل: لقد أرحتهم بقراري بأن أترك الأهرام، تأكد أن العيد سيحل على الملك فيصل غدا عيدين وسيجد أن مصر قد ذبحت له خروفا في العيد.
السادات: أنت يعني بتتكلم وكأنك لا يهمك شيئا لماذا تدفعني؟
هيكل: لأنني لا أريد شيئا، ولأنني أستطيع أن أعيش فيما أظن أنني أعرف كيف أقرأ، وفضلا عن ذلك أعرف كيف أكتب. الفريق صادق كان رجلا في دبابة فلما أقلته لم يعد يعمل، والمسئول في الاتحاد الاشتراكي لو أقلته أيضا فسيجلس بدون عمل أما أنا فأعرف أن أقرأ وأعرف أن أكتب ويوم أخرج سأستمر صحفيا وسأنشر رأيي في السعودية بمنتهى الصراحة وفي صحيفتهم النهار اللبنانية.
السادات: وعملك في الأهرام ألست مهتما به؟
هيكل: لن تستطيع أن تقدر أبدا إلى أي مدى هو عزيز عليّ وعزيزة عليّ تلك الروابط الإنسانية التي تربطني بمن يعملون معي، ولكن الأهرام منذ فترة يكاد أن يختنق لا رأى جديدا ولا فكرة جديدة، ولا شيء يساوي لأننا لا نستطيع أن ننشر]..
هكذا تحدثت الوثيقة المثيرة دون حذف أو تعديل في أي حرف منها لأهميتها البالغة في إنارة بعض المساحات الغامضة بتاريخنا المعاصر.
هكذا فإن طبيعة العلاقات المصرية- السعودية كانت جوهر الخلاف بين “هيكل” و”السادات” قبل الإدارة السياسية لنتائج حرب أكتوبر.
وما تطرق إليه “السادات” عن احتجاجات سعودية على ما كتبه في “الأهرام” لم يكن أمرا عابرا بقدر ما كان تحولا رئيسيا في إدارة الأمن القومي.
من الناحية الاستراتيجية ساعد التدخل العسكري في اليمن على تحرير جنوبه من الاحتلال البريطاني والسيطرة على مضيق باب المندب، حتى بات البحر الأحمر عربيا بالكامل.
أثناء حرب أكتوبر (1973) أغلق المضيق في وجه الملاحة الإسرائيلية.
ومن الناحية العسكرية نصبت كمائن حتى تكون حرب اليمن مستنقعا للقوات المصرية يصعب الخروج منه.
كانت التجربة قاسية بكل معنى عسكري بالنظر إلى الطبيعة الجغرافية لليمن وحجم التدخلات المباشرة سعودية وأمريكية وإسرائيلية.
إذا لم يرد اعتبار الأمن القومي في مصر يصعب تدارك التهديدات المستجدة والماثلة في البحر الأحمر.