بجوار مصر بلدان عربية شقيقة وجيران شرق أوسطيين معظمهم ينطبق عليهم لفظ “الجيران الأعزاء”، وجميعهم قدموا خبرات سياسية مختلفة، ولكنهم التقوا جميعًا في نقطة واحدة رغم تناقض النظم والمسارات، على عدم إغلاق المجال العام والسياسي.
واللافت أن الأسبوع الماضي شهد زخمًا وحراكًا سياسيًا في أكثر من بلد جار، منها تونس التي يواجه قطاع متزايد من الشعب توجهات الرئيس “غير الديمقراطية” بمن فيهم من أيدوا إجراءاته الاستثنائية في 25 يوليو 2021 مثل الاتحاد التونسي للشغل، الذي نظم مظاهرة ضخمة يوم السبت الماضي دفاعًا عن الحريات النقابية والسياسية والعدالة الاجتماعية.
ويعتبر الاتحاد التونسي واحد من النقابات العملاقة عربيًا وعالميًا، وتأسس في 20 يناير 1946 واستمر في نشاطه دون تأميم أو إلغاء من كل رؤساء تونس السابقين سواء من اختلف معهم أو من أيدهم أو من وائم أموره معهم.
ومثل الاتحاد حجر زاوية رئيسي في تفاهمات كثيرة شهدتها البلاد عقب الثورة، فكان أحد مكونات رباعي الحوار الوطني الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في 2015 حيث نجح في إخراج تونس من أزمتها السياسية عبر الحوار الوطني وتمهيد الطريق أمام الانتخابات التشريعية والرئاسية.
ويمثل الاتحاد نقابة قوية لها قاعدة اجتماعية حقيقية لا تديرها أجهزة الدولة ولا شلة ثورية تتحدث عن الجماهير وهي منفصلة عنهم، ولذا نظم مظاهرة ضخمة لم يمنعها الرئيس ( وربما لم يستطع) رغم اختلاف الاتحاد معه وانتهت بسلام دون أي مصادمات.
أما تركيا فقد شهدت زخمًا سياسيًا طوال الأسابيع الماضية، فرغم القيود المفروضة على حرية الرأي والتعبير إلا أنها لم تصل إلى إغلاق المجال العام ولا السياسي، ووجدنا تحالف بين أحزاب المعارضة عرف باسم “الطاولة السداسية” اتفق على تقديم مرشح واحد يمثلها لمواجهة أردوغان في انتخابات الرئاسة القادمة في 14 مايو المقبل.
ولم تكتف أحزاب المعارضة الستة بنقد أردوغان والهجوم على سياساته إنما أصدرت وثيقة سمتها تحالف مبادئ، وحملت عنوان “مذكرة التفاهم بشأن السياسات المشتركة” من أجل التحول إلى النظام البرلماني المعزز، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ودعم الديمقراطية والحريات ودولة القانون، وإصلاح الاقتصاد، وتصحيح أخطاء السياسة الخارجية.
وحددت الوثيقة، التي جاءت في 244 صفحة، وتضمنت 2300 هدف مشترك تحت 9 أبواب و75 عنوانًا فرعيًا، المبادئ التي اتفقت عليها الأحزاب الستة في مختلف المجالات القانونية والسياسية والاقتصادية وعلى رأسها العودة للنظام البرلماني.
حضور تركيا الٌإقليمي والدولي يرجع في جانب منه أن البلد لم تعرف في معظم مراحلها التاريخية إلغاء كامل للمجال العام والسياسي، وهو ما ساعد تركيا على الحفاظ على تماسكها القومي رغم تحدي الأكراد، وعلى قدرتها الإنتاجية وحضورها الدولي رغم الصعوبات التي واجهتها والكوارث التي أصابتها.
أما بلد مثل المغرب فيتظاهر الناس بأمان ضد الغلاء أو التضامن مع فلسطين، وهناك أحزاب ونقابات تنشط بحرية في المجال العام، حتى لو بقيت تحت سقف الخطوط الحمراء للنظام الملكي، وعرفت البلاد انتخابات ديمقراطية أوصلت مرتين حكومة ليست على هوي السلطة الملكية، وأوصلت أخرى العام الماضي نالت رضا “المخزن” (أي السلطة الملكية) وكانت إرادة الشعب هي العامل الرئيسي في اختيار الحكومتين.
أما إيران التي يحكمها نظام ديني، فقد تظاهر فيها مئات الآلاف احتجاجا على مقتل الفتاة الإيرانية “مهسا أميني” وفي نفس الوقت هناك جدل سياسي حقيقي بين المحافظين والإصلاحيين لم يهدم النظام القائم إنما ساعد على استمراره رغم عيوبه الكثيرة.
كل هذه البلاد حماها الوسيط السياسي والنقابي من الفشل والانهيار وجعلها واقفة على رجليها تنتج وتصدر، وبعضها مؤثر إقليميًا ودوليًا، ولم تصبح مثل سوريا والعراق وليبيا الذين عرفوا الحروب والفشل والانقسام بسبب وجود نظم حكم قتلت السياسة وأممت النقابات، وألغت المجال العام.
ومع ذلك لازال هناك من يقول إن النظم غير الديمقراطية هي القادرة على تحقيق التقدم الاقتصادي ويستدلون في ذلك على تجربة الصين الخاصة والاستثنائية، ويتعاملون مع الحقائق بطريقة “لا تقربوا الصلاة” لأن نموذج النجاح الصيني تأسس عبر رحلة طويلة من التحولات السياسية والاجتماعية بدأت بثورة كبرى سقط فيها ملايين الضحايا، وقادها حزب سياسي عقائدي وثوري هو: الحزب الشيوعي الصيني الذي يحكم البلاد منذ عام 1949 ويضم حاليا مايقرب من 100 مليون عضو، أي حوالي 6% من السكان، ونجح في نقل بلاده من البؤس والفقر والتخلف إلى واحدة من أقوى بلاد العالم اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا.
بعض من يكره الديمقراطية والتعددية السياسية يتمسح في الصين ويتصور أنه يمكن تحقيق النجاح الذي حققته بالشمولية والاستبداد، وينسى أو يتناسى أنه نظام آمن بالعلم والعمل والإنجاز وحمل إيديولوجية متماسكة ( حتى لو اختلفنا معها) وهو نتاج خبرة تاريخية وسياسية واجتماعية خاصة، ولم يكن نظام يروج للخرافة والفهلوة والكلام الفارغ، التي ستنتج الاستبداد والتخلف وليس التقدم كما جرى في الصين.
جيرانا الأعزاء جميع نظمهم لم تغلق المجال العام ولا السياسي وحتى الجيران “غير الأعزاء” لم تمنع دولتهم المحتلة والمحاربة الناس من التظاهر من أجل الحفاظ على استقلال القضاء، ودول أمريكا الجنوبية تحولت كلها بعد عقود من الاستبداد والفشل الاقتصادي والسياسي إلى الديمقراطية دون أن يعني ذلك أنها حلت كل مشاكلهم.
لا توجد دولة من بين جيراننا أو في أي مكان في العالم ولو نصف ناجحة إلا وتعرف هامش سياسي حقيقي وبنت إما ديمقراطية كاملة أو مقيدة، وطويت صفحة الديكتاتورية، وعلينا أن نتعلم العبر والدروس من جيراننا الأعزاء.