مرة أخرى يصعد الأنبا بفنوتيوس “مطران سمالوط” على سطح أحداث الوسط الكنسي، ويستعيد صدارة النقاشات، بعد تصريح جاء ضمن عظته الأسبوعية التي ألقاها نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي، بمقر مطرانيته، على خلفية تضمينه كتب للمفكر جورج حبيب بباوي، في معرض كتاب إيبارشية سمالوط.
في عظة الأحد الثالث من شهر طوبة، قال الأنبا بفنوتيوس: “إن بعض محبين البابا شنودة لا يعجبهم شئ في البابا تواضروس. ويقولون لو كان البابا شنودة موجودًا لما فعل كذا، لكنه أخذ زمنه، والكنيسة لن تدار من القبر، وكلنا خدام المسيح”. تسبب التصريح في أزمة كبيرة تداولتها منصات التواصل الاجتماعي، واعتبرها أنصار البابا شنودة “تجاوزًا” في حق البطريرك الراحل.
وكان الأنبا بفنوتيوس قد التحق بدير السريان-وادي النطرون- في مارس/ آذار عام 1972، باسم “ناجي شكري مرقص”، بعد حصول على بكالوريوس الطب والجراحة. بعد أربعة سنوات، تم رسمه أسقفا بيد البابا شنودة الثالث على إيبارشية سمالوط، عام 1976.
معارك “الأنبا بفنوتيوس”
ما طرحه مطران سمالوط ليس مستحدثًا، فقد اعتاد الأسقف الشهير خوض معارك فكرية خارج سياق التقليد في حياة البطريرك الراحل، البابا شنودة الثالث. أبرزها ما تضمنه كتابه “حتمية النهوض بالعمل الكنسي” من انتقادات واضحة للائحة انتخاب البطريرك -المعروفة آنذاك بـ”لائحة 57″- معتبرًا أن “القرعة الهيكلية”، وهي الخطوة الأخيرة في اختيار البابا بالاقتراع، لا أساس لها لاهوتيا. مما دفع البابا شنودة، وقتذاك، إلى مصادرة الكتاب.
لذلك، لم يبد غريبًا تصريح الأسقف -الذي سبق ترشحه للكرسي البابوي خلفًا للبابا شنودة الثالث في مارس/ آذار 2012- لأنه، حسبما يرى الباحث القبطي كمال زاخر، مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط “صاحب رؤية محددة، ويفكر خارج الصندوق بشكل واضح، ويعتقد بأن الكنيسة لها دور مجتمعي، بعيدًا عن السياسة. ويعد ذلك محورًا لعمله في مطرانية ترتفع بها نسبة الفقر، ويقل معدل التعليم”.
رغم ذلك، وفي أعقاب تصريحه الذي تضمنته عظة الأحد الثالث “الكنيسة لن تدار من القبر”. فقد وصفه الباحث مينا أسعد بـ “تصريح يتضمن تصفية حسابات، وغير واقعي، وغير ملتزم، وأقرب إلى الشماتة في الموت”.
ويضيف زاخر لـ “مصر360” أن الأنبا بفنوتيوس له رؤية لا يتراجع عن إعلانها، ولديه من الشجاعة أن يواجه ذلك. مستبعدًا تمامًا نظرية “تصفية الحسابات”، أو غيرها من الاتهامات التي تطال الأسقف.
وتسبب كتاب “هل الأسقف رئيس أعمال الكهنوت أم رئيس سر الكهنوت” في إبعاد الأنبا بفنوتيوس عن انتخابات البابوية، بعد طعن قدم ضده يصنف أفكاره على أنها أقرب إلى الفكر البروتستانتي. آنذاك، صرّح “بفنوتيوس” بأنه لا يستبعد أن يكون الأنبا بيشوي-المرشح البابوي وسكرتير المجمع المقدس الراحل- وراء هذا الطعن.
“جورج بباوي”.. جدل لا يهدأ
تصريحات الأسقف التي أغضبت محبي البابا شنودة، محسوبة على نشره كتب المفكر الدكتور جورج حبيب بباوي- المنبوذ كنسيًا إبان فترة البابا شنودة- كما أنها جاءت على خلفية تساؤلات بشأن تضمينها إصدارات معرض كتاب “الإيبارشية”.
ورغم أن كتب “بباوي” أتيحت بمعارض كتب سابقة أبرزها معرض دير الأنبا مقار. غير أنها، كما يرى أسعد، تتضمن “هرطقات”، وتخاريف -على حد وصفه- إلى جانب كون مؤلفها “محروم كنسيًا” بقرار من المجمع المقدس، في وجود الأنبا بفنوتيوس ذاته.
وكان قد عزل جورج حبيب بباوي، أستاذ اللاهوت بالكلية الإكليريكية، ومدير معهد الدراسات اللاهوتية بولاية أنديانا بالولايات المتحدة. كنسيًا بعد جلسة طارئة للمجمع المقدس بتاريخ 26 مايو/ آيار 2007 برئاسة البابا شنودة الثالث، بحجة اتهامه للبابا شنودة في فكره اللاهوتي.
وسبق أن عين “بباوي” معيدًا بالكلية الإكليريكية عام 1961، وكان ضمن مرافقي البابا شنودة في زيارته الأولى للولايات المتحدة عام 1977.
لكن كمال زاخر -مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط- يشير إلى أن “بباوي” لم يهاجم البابا شنودة الراحل في كتبه. لافتًا إلى أنها حملت رؤى وقضايا فكرية لاهوتية، وفقط.
يستطرد قائلا:” أما بالنسبة لمعرض كتاب إيبارشية “سمالوط”، وما صحبه من جدل، فليس الوحيد بين المعارض القبطية الذي يتضمن كتب “بباوي”. يأتي ذلك بجانب عرضه لكتب مراكز نشر مهتمة بالكتب التراثية، مثل “بناريون”، وهي تثير قلق المحافظين أو “الشنوديين”. كما يطلق عليهم.
هل يتدخل المجمع المقدس؟
إزاء إصدارات تضمنها معرض كتاب إيبارشية “سمالوط”، طالب معارضوه بتدخل المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، لكن هذه المطالبات اصطدمت بمفهوم، وصلاحيات الأسقف داخل الكنيسة.
فمن زاوية قريبة، يقول القمص عبد المسيح بسيط، كاهن كنيسة السيدة العذراء بمسطرد، وأستاذ اللاهوت الدفاعي: إن كتب جورج حبيب بباوي لاقت رفضًا قاطعًا لدى البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث. رغم أن لها مريدين يؤيدونها، لكن الأرجح أن الرجل ترك الكنيسة، وانضم لها فيما بعد.
يضيف: أما دعوات انعقاد جلسة طارئة للمجمع المقدس بشأن “معرض كتاب إيبارشية سمالوط” المنعقد مؤخرًا، وما تلاه من تصريحات لـ “الأنبا بفنوتيوس”، فلا محل لها، لأن الأسقف له حرية كاملة داخل إيبارشيته، وينطلق من سلطته الأسقفية.
من المنطلق ذاته، يرى زاخر أن مطالبات المجمع المقدس، والمقر البابوي بالتدخل في جدلية تصريحات “الأنبا بفنوتيوس”، أو إصدارات معرض كتاب إيبارشية سمالوط “محاولة لإثارة الشجن”. لافتًا إلى أن المجمع المقدس للكنيسة القبطية الأرثوذكسية يتضمن توجهات غير محصورة “ورغم ذلك فإن الأسقف صاحب لسان، ولديه كتب تدافع عن وجهة نظره، وفي كل الأحوال يصعب على المجمع تحقيق عزل، أو حتى لوم للأنبا بفنوتيوس”.
وسبق أن خاض الأنبا بفنوتيوس معركة “تناول المرأة الحائض” إبان طرح كتابه “المرأة في المسيحية”-عام 2016- بعد عدة أشهر من ترقيته مطرانًا بيد البابا تواضروس- خلافًا للرأي الكنسي الشائع في هذه القضية. مما استدعى تدخل المجمع المقدس للكنيسة، وتسمية رأي المطران بـ “البدعة.
صراع الجبهات.. من يخمده؟
أزمة تصريح الأنبا بفنوتيوس “الكنيسة لن تدار من القبر” -في إشارة لانقضاء فترة البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث- ألقت بظلالها على صراع الجبهات داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية. وهو ما يعتبره “مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط” أمر طبيعي في مؤسسة بحجم الكنيسة المصرية.
يتطرق زاخر لما هو أبعد من فكرة صراع جبهات داخل الكنيسة. لافتًا إلى أن الفكرة الأعمق من الجدل المثار حول تصريحات “بفنوتيوس” هي القفز إلى مواجهة البابا تواضروس، ومحاولة إحراجه.
غير أن أسعد يرى أن استعمال وصف “جبهات” داخل الكنيسة يستخدم لتحويل المضمون إلى معركة شخصية، ودفاع عن النفس. مشيرًا إلى أن المعترضين على تصريحات المطران وضعوا مبررات واضحة لما سماه “فساد أفعاله”. في حين أن آخرين لم يستطيعوا مجابهة ذلك بردود علمية، وأكاديمية.
ومن سياق مغاير، ينفي القمص عبد المسيح بسيط وجود جبهات داخل الكنيسة. منطلقًا من سجالات جرت سابقًا داخل المجمع المقدس بين الأنبا بفنوتيوس، والأنبا بيشوي-سكرتير المجمع المقدس إبان فترة البابا شنودة- نافيًا إثارة مطران سمالوط للجدل، بقدر ما هو “معبر عن ذاته بصراحة”.
البابا شنودة أم “مسيرة الإصلاح الكنسي”!
إلى ما يجري من سجال بشأن ما اعتبره محبو البابا شنودة تجاوزًا، ومحاولة للبحث عن دائرة ضوء، طرحت فكرة الحفاظ على مسيرة “الإصلاح الكنسي” التي ينتهجها البابا تواضروس الثاني منذ توليه مهام الكرسي المرقسي.
هذه الرؤية، لا ينبغي أن تنفي أثر البابا شنودة الممتد، كما اتفق “مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط”، وأستاذ اللاهوت الدفاعي. فمن جانبه، يقول عبدالمسيح بسيط: إن كل بطريرك يجري اختياره من الله في فترة زمنية معينة، لأجل أن تنفذ من خلاله أهداف بعينها. فالبابا شنودة الراحل أتى للكنيسة بعد فترة ضعف، وأعاد نهضة الكنيسة، والروح المسيحية الأصيلة.
وأردف قائلا:” لا نستطيع أن نقول بأن البطريرك يحكمنا من قبره، ويجب أن تقال بشكل مقبول”.
ويضيف لـ “مصر360″ أن ثمة أشياء تركت، وتحتاج إلى تعديل، والبابا تواضروس يقوم حاليًا بهذا الدور. لكن أثر البابا شنودة موجود في أجيال كثيرة عاصرته.
لكن، يشدد زاخر على أن السجال الدائر حاليًا بين معسكرين داخل الكنيسة لن يعطل مسيرة الإصلاح الكنسي التي ينتهجها البابا تواضروس حاليًا. لافتًا إلى أن البطريرك الحالي لديه سعة أفق، وسعة صدر.
رغم ذلك، قد يؤخر هذا الجدل المستمر الإصلاح قليلًا، فما يمكن إنجازه في عام، قد يستغرق عامين. وبالتالي، يجب ألا يتحول الانحياز إلى البابا شنودة إلى استثمار له، مثلما يحدث في عالم السياسة.
ويستطرد:” البابا شنودة له أثر فكري ممتد، وكذلك البابا كيرلس، رغم أنه لم يعظ، ولم ينتج مؤلفات”.
ويرى مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط أن الوجود أو التأثير لا يعني توجيه الكنيسة، لافتًا إلى أن البابا شنودة “له أثر لا يستطيع أحد ينكره، نختلف معه، ولا نختلف عليه. أما أن يتحول تيار داخل إلى استثمار هذا الانحياز لحسابات شخصية فهو أمر مرفوض”.
يأتي ذلك، في الوقت الذي ينفي فيه مينا أسعد تسمية مسعى البابا تواضروس في الوقت الراهن بـ “الإصلاح”، مشيرًا إلى أنه لا يوجد شيء يحتاج إلى إصلاح من الأساس.
ويضيف أسعد لـ “مصر360” أن من يتحدث عما يسمى بـ “الإصلاح الكنسي” أن يقدم ما يحتاج إلى الإصلاح أصلًا. واصفًا هؤلاء بأنهم يحدثونًا “طنينًا” دون مادة علمية، على حد قوله.
بينما يؤكد زاخر أن ما يجري في الأفق “محض زوابع” تنتهي انتظارًا لزوبعة أخرى. غير أن الفريق هذا لم يستوعب أن ما حدث مع الأنبا يوساب -البطريرك رقم 115 في تاريخ الكنيسة القبطية- غير قابل للتكرار. لأن “اليوم ما يقال في السر يصبح علنًا في غضون دقائق بفعل وسائل التواصل الاجتماعي، والانحياز دائمًا للمعلومة”.
وتعرض البابا يوساب -الذي تولى الكرسي البابوي عام 1946- لاحتجاز بدير مار جرجس للراهبات على يد جماعة الأمة القبطية. وفي عام 1956 اتفق أعضاء المجمع المقدس، والمجلس الملي العام على تعيين لجنة أسقفية للقيام بأعمال البابا بدلًا منه. وضمت كلًا من “الأنبا أغابيوس مطران ديروط وقسقام، الأنبا ميخائيل مطران أسيوط، والأنبا بنيامين مطران المنوفية”.