في أحد عروضها التي تنتمي إلى فن كوميديا الوقوف “Stand- up comedy”، تقول الفنانة الكوميدية الأمريكية الشابة تايلور توملينسون، إنها تحتاج إلى حبيب يتوافق مع ظروف عملها الذي يتطلب السفر المتكرر وعروض الليل. أي أنها تحتاج إلى رجل يوافق على أن يكون هو الطرف الذي يبقى بالمنزل أو ما يعرف بـ “Stay- at- home- husband”. وهي علاقة يتبنى فيها الزوجان النمط المعاكس للأسرة التقليدية، التي تكون فيها المرأة أو الأم هي ربة المنزل ويكون الرجل أو الأب هو صاحب المسؤولية المادية ومن ثم العمل خارج البيت.

في حالة “الزوج المقيم في المنزل” يتم تبادل الأدوار، فتعمل المرأة، صاحبة الدخل الأعلى، أو ظروف العمل غير التقليدية (كالكوميديانة تايلور) خارج البيت، وتكون مسؤولة عن الماديات، بينما يقيم الرجل بالبيت ليرعاه بكل ما يستلزمه ذلك من شؤون منزلية ورعاية الأطفال.

لكن انتظر، كان ذلك فقرة كوميدية من تايلور. فهي ما أن أعربت عن “رغبتها” تلك، حتى بدأت بعرض مشكلتها مع ذلك الاقتراح، فهي تقول، إنها رغم حاجتها إلى ذلك النمط من العلاقة، إلا أنها لا تريد أن ترتبط برجل يرحب بأن يكون “ربة المنزل” في العلاقة، إن رجلا يقبل بهذا أو يخطط له، لن يكون الرجل الذي يعجبها. (يمكنك هنا أن تتذكر نكتة وودي آلن القديمة عن رفضه الانضمام إلى أي ناد يقبل بعضوية أمثاله!).

ماذا تريد تايلور إذن؟ لا تريد رجلا تعجبه فكرة الجلوس في البيت رغم أن ذلك يناسبها. وإنما تريد رجلا طموحا، لديه مهنة حقيقية، أو (كارير) ناجح، ثم يقرر أن يضحي بتلك المهنة من أجلها، ليجلس في البيت!

تنفجر هنا ضحكات الجمهور، ولكن الضحكات هنا ليس سببها المفارقة أو التناقض فقط، بل وراؤها أسباب أخرى، أو مفارقة أذكى، فهذه الرغبة الكوميدية التي تعلنها تايلور، هي ما يحدث بالفعل طوال الوقت من الرجال نحو النساء.

كثير من الرجال لا ينجذبون إلى امرأة عادية، تقليدية، ضعيفة، رغم أنها في الحقيقة هي ما يناسب عقليتهم. بل يريدون امرأة جميلة، متألقة، ناجحة، تقبل بأن تتخلى عن نجاحها وعالمها ومهنتها من أجلهم.

ثمة نماذج لا حصر لها على تلك الحقيقة، والأغرب أن تلك النماذج تملأ عالم الفن نفسه. أقصد بالطبع عالمنا الفني، حتى على مستوى كبار نجومنا وأكثرهم موهبة، الذين فشلت علاقاتهم وزيجاتهم بنجمات موهوبات، رفضن أن يستجبن لرغبة النجم الذكر في أن يتركن الفن ويتحولن إلى ربات منزل. يمتلىء موقع يوتيوب بتسجيلات مع كثير من هؤلاء النجوم، الذين غالبا ما يبرر واحدهم موقفه بأنه “فلاح” أو “من الصعيد” أو “راجل شرقي” أو “كنت غبي”. ومعظمهم، بطبيعة الحال، أبعد بناته عن عالم الفن والتمثيل.

لكن، إذا كان لفن التمثيل طبيعة خاصة، أشد اصطداما بما نسميه “قيمنا وعاداتنا”. فمسألة الرجل الذي لا يرى في المرأة إلا ربة منزل، حتى لو كانت خريجة متفوقة أو مهنية ناجحة، هي مسألة أوسع بكثير من مهنة بعينها، وأعلم أنك هنا قد تقول إن هذا “كان زمان، قبل أن تجبر الظروف الاقتصادية الجميع على دخول سوق العمل”، لكن الواقع، وبغض النظر حتى عن اختلال النسبة في سوق العمل بين الرجل والنساء، لصالح الرجال بالطبع، والحلول “العبقرية” التي “يكتشفها” البعض كل حين بأن تترك النساء العمل للرجال لحل البطالة (بالطبع فإن البطالة تعالج بزيادة فرص العمل لا بتجويع الأسر التي تعولها النساء). إلا أن النقطة الأهم، المتجذرة في ثقافتنا، هي أن عمل المرأة، خصوصا المتزوجة، لا يزال يحتاج إلى تبرير، مثل “المساهمة في مصاريف الأسرة” أو حتى توفير نفقاتها الخاصة، أو تأمين نفسها من حوادث الزمان. أما لو أن الأمر غير ذلك، لو كان الزوج ميسورا ماديا “ومكفّيها”، هنا يتم النظر بشيء من اللوم إلى عمل المرأة، ويتم اعتباره جزءا من التقصير في حق الزوج والأسرة. كأن عملها ليس حقا أصليا لها كإنسان، بل هو شرط متعلق بضرورة، فإذا انتفت الضرورة، لم يعد هناك حاجة للعمل.

ولأن الشىء بالشىء يذكر، ولأن مارس يعد عالميا “شهر المرأة”، ومن ضمنه يوم المرأة العالمي في 8 مارس/ آذار، واليوم المصري في 16 مارس/ آذار، فضلا عن عيد الأم في 21 مارس/ آذار. فقد ترددت بعض نقاشات، هي في جزء منها صدى لنقاشات غربية حول “إعادة الاعتبار لربة المنزل”. في محاولة لمواجهة نمط التعالى على دور ووظيفة “ربة المنزل”، والنظر إليها على أنها تأتي في مرتبة أدنى من مرتبة النساء العاملات صاحبات “الكارير”، والتأكيد على أنها حق خاص واختيار مشروع للمرأة بغض النظر عن طبيعة دراستها واتجاهات المجتمع.

وحين أقول إنه صدى لنقاش غربي، لا أقول ذلك من باب الذم، فالغرب هو قاطرة تقدم البشرية في عصرها الحديث، وهو بلاشك المكان الذي يعيش فيه الإنسان أعلى أنماط الرفاه بمعناها الاجتماعي قبل الاقتصادي، ولكن بدا لي أن الحديث عن “إعادة الاعتبار لربة المنزل” يأتى من منطقة خاطئة، شبيهة بنقاشات ما بعد الحداثة التي تنتقد بعض مآلات الديمقراطية، فإذا ببعضنا يستوردها هنا في مجتمعات لم تعرف الديمقراطية بعد، فيصب نقدها – في هذه الحالة – في وعاء خصومها، الذين لا ينشغلون بمشكلات الحداثة، بل يخاصمون الحداثة نفسها لمصلحة أنماط بدائية وقروسطية.

فالمرأة التي تشغل قدرا مساويا للرجل تقريبا في سوق العمل الغربي (47% من القوى العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية تتكون من النساء، بحسب أرقام 2017)، توقفت منذ زمن طويل على أن يكون “جلوسها في المنزل” خيارا يتم إكراهها عليه، من الزوج أو الأب أو العائلة، لا تستأذن المرأة العاملة الأمريكية أو الفرنسية أو الألمانية زوجها قبل أن تزور خالتها، ولا يمكن للزوج أن يحبسها في البيت بينما هو يعمل في الخليج! لا يتوقف الأمر عند القانون الذي لا يسمح بتلك المهازل بل صار ذلك منذ أمد بعيد متجذرا في الثقافة، فالمرأة الغربية – التي تخشى التنمر عليها إذا اختارت أن تكون ربة منزل – لا تؤمن بأن الزوج يجب أن “يشكمها” ويتحكم في أنفاسها فإن لم يفعل فإنه ليس رجلا، إلى آخر الهراء الذي تعرفه. ولكن حتى إذا تركنا البعد الثقافي جانبا، فإن التنظيم القانوني للماليات بين الزوجين هو الأهم في مسألة العمل، فإيا كان قرار الزوجة، إذا اختارت العمل خارج البيت أو داخل البيت، فإن مسألة تقاسم الثروة والشراكة المالية لا فصال فيها وهي مؤمّنة تماما، سواء كان الزوج موظف تأمينات أو جيف بيزوس أحد أغنى أغنياء العالم. في حالة الانفصال، تذهب الثروة مناصفة، وفي حالة وفاة الزوج، حتى لو لم “تنجب له الولد”، لن يكون هناك قبيلة كاملة من الأقارب تشاركها الميراث.

أما ربة المنزل المصرية، فأنت تعلم حالها، وإن كنت لا تعلم فها هي صفحات الشكاوى الزوجية مليئة بآلاف الزوجات ذوات الشكوى المتكررة: انفصال أو وفاة زوج أو خيانة بعد عشر أو خمسة عشر عاما، فتجد الزوجة نفسها وحيدة في مواجهة الدنيا، في منتصف العمر بلا مهارات عمل أو خبرات، وقد نسيت كل شىء تعلمته في الجامعة أو المدرسة، وفرصتها في التوظيف تكاد تكون صفرا لأنها لم تعمل يوما واحدا خارج البيت، فلا يكون أمامها سوى طلب الإعانات، خصوصا إذا كانت “متروكة بأطفالها” وتلك للأسف حال الكثيرات. ومن ثم، وإلى أن تكون هناك قوانين مالية منصفة في حالات الانفصال، يكون تشجيع المرأة على أن تكون ربة منزل فحسب، بلا وظيفة أو “كارير”، هو محض تشجيع على مستقبل مظلم، أو حياة مرهونة برحمة زوج ينحاز إليه المجتمع والاقتصاد والقانون.