لا يمثل حق الإنسان في محاكمة عادلة ومحكمة منصفة تنظر قضيته نوعاً من الترف أو التزيد، بل إن ذلك يمثل حقًا لا يقل قيمة عن حق الإنسان في ضمان حقوقه كاملة، إذ بدون محاكمة عادلة لا يمكن الإنسان من رعاية حقه وضمان أمنه وأمانه، فالحق في محاكمة عادلة أو مبدأ حق الإنسان في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة ونزيهة نظرا عادلا، هو مبدأٌ يشكّل ركيزةً أساسيّةً لدولة القانون وركن من أركانها وهو من الحقوق الأساسية للأفراد بل هو حجر الأساس للحماية الفعلية لمختلف الحقوق والحريات، وجزء من الحقّ الأساسي في الحماية القضائيّة والقانونيّة، تبرز قيمته أكثر إذا عَلِمَ كل واحدٍ منّا أنّه مهما كانت مرتبته السّياسية والاجتماعية والثّقافية، يمكن أن يمثل أمام القضاء ظالمًا أو مظلومًا، وستكون حينئذٍ أمنيته الوحيدة هي أن تكون محاكمته عادلة.

ولن تكون كذلك من دون توفّر الضمانات والمقوّمات اللازمة، وهناك العديد من الضّمانات الواجب توافرها بشكل كامل لتحقق ذلك المفترض، منها ما هو موضوعي ومنها ما هو إجرائي أو هيكلي، والضمانات الهيكلية والإجرائية ومعرفة مدى مساهمتها في التّمكين لهذا الحق.

وحتى يتوافر الحق في المحاكمات العادلة من خلال توافر الاعتبارات الإجرائية اللازم وجودها لضمان وجود الحق ذاته، فيجب توافر مجموعة من الضمانات أهمها ما هو متعلق بضمان كفاءة الهيئة القضائية ذاتها، وهو ما يعني منذ اللحظة الأولى أن يكون القضاة على درجة من العلم كافية لتولي منصب القضاء، وهناك العديد من الأنظمة القضائية التي لا تكتفي فقط بشهادة القانون أو الحقوق، على حسب اختلاف الاسم، بل تتطلب المزيد من الدراسات التخصصية أو العليا التي تؤهل القضاة لتولي منصب القضاء، حتى أن هناك بعض الأنظمة التي تتطلب دراسات تخصصية في نوع القضاء الذي يتولاه القضاة، على سبيل المثال كقضاء الأطفال، والذي يتطلب نوعًا من الدراسة تتفق وتخصصية الأطفال واحتياجاتهم.

ثم يلي ذلك حق الإنسان في المثول أمام قاضيه الطبيعي، وهو الأمر الذي لا يحبذ أو يدفع إلى استخدام المحاكمات الاستثنائية، إلا في الأحوال الضرورية ووفق الاشتراطات اللازمة لها، وهذا ما يعني على سبيل المثال عدم محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، أو عدم اللجوء لمحاكم الطوارئ إلا بالشروط اللازمة لها، كما يضمن ذلك الحق أيضًا أن تكون المحكمة صالحة لأن تكون مكانا يصلح لانعقاد المحاكمات بداخلها، من معايير تقنية وصحية وعلمية، وتتوافر بها كافة المقومات المادية اللازمة لحسن انعقاد المحاكمة فلا يصح انعقاد المحكمة في أماكن غير مخصصة للمحاكمات أو غير خاضعة لوزارة العدل، أو لا تتوافر بها البنية الأساسية اللازمة للمحاكمات من أمن وأمان، إضافة لتوافر كافة المقومات المادية لأزمة للتصوير والاطلاع وتقديم الأوراق وتبادل المذكرات أو تقديم المستندات بما يضمن حفظها.

كما يعد ضمان الحق في الدفاع أحد أهم مفردات وجود الحق في المحاكمات العادلة والمنصفة، إذ بعدم توافر الحق في الدفاع لا يمكن أن يتصور أينا أن هناك تحقق للمحاكمات العادلة، ولا يكون توافر ذلك الحق بشكل صوري أو ما يضمن تحققه نصه، بل يجب أن يكون هناك دفاعًا حقيقيًا يحقق للمتهم كافة حقوقه في الذود عنه ورد التهم، حتى ولو لم يكن له دفاعًا مختارًا في حالات عدم القدرة، حيث يجب على الدولة أن تضمن له ذلك الدفاع بكافة ضماناته منذ لحظة المثول أمام جهات التحقيق حتى نهاية القضية بالحكم النهائي، وأقصد بذلك أن يتولى القضية محام قادر على الدفاع تتاح له فرصة الحصول على صورة كاملة من أوراق الدعوى، وتتاح له الفرصة الكاملة والوقت الكافي اللازم لتحضير دفاعه، كما يجب أن يتاح له فيها كذلك ما يعن له من استدعاء شهود أو أهل خبرة، كما يجب أن تتاح له الفرصة كاملة في تقديم مذكراته أو التعقيب على مرافعة النيابة أو مذكرات الخصوم.

وهذه الإشكالية هي من أهم إشكاليات تحقيق الحق في المحاكمة العادلة والمنصفة، إذ في كثير من الأحوال يتم انتداب أحد المحامين للدفاع عن أحد المتهمين، ولا يتم معه منحه الفرصة كاملة في تحقيق مبدأ الحقي في الدفاع، فلا يكون وجوده إلا وجودًا شكليًا فقط لتفعيل الضمانة النصية، وفي ذلك، قالت محكمة النقض المصرية في الطعن رقم 957 لسنة 43 قضائية حتى تتحقق الغاية التي تغياها المشرع من وجوب حضور مدافع عن كل متهم بجناية أمام محاكم الجنايات ويتاح له أداء دفاع حقيقي لا شكلي كان لزامًا علي المحكمة أن تمكنه من حضور جميع إجراءات المحاكمة من أولها إلى آخرها – أما غير ذلك فيعرب عن المحاكمة الباطلة للإخلال بحق الدفاع – وتطبيقًا لهذه الضمانة الجوهرية قضت محكمة النقض: “ذلك بأن الغرض من إيجاب حضور مدافع عن كل متهم بجناية لا يمكن تحقيقه على الوجه الأكمل إلا إذا كان المدافع متتبعاً إجراءات المحاكمة بالجلسة من أولها إلى آخرها بما يكفل له حرية مناقشة الشهود والتعقيب على أقوالهم في حدود مصلحة موكله الخاصة وهو مالا يتحقق في خصوص هذه الدعوى بما يعيب الحكم بالبطلان في الإجراءات”.

إذ أن حق المتهم في الاستعانة بمدافع بات أمرًا ضروريًا وحقًا أصيلًا للمتهم لا يسقط عنه حتى لو تناساه هو أو تنازل عنه فهو متعلق بالنظام العام وليس مرهونًا بمشيئة المتهم يستعمله أم لا. فالمتهم حتى ولو كان أحد رجال القانون وحتى لوكان قاضيًا وقدر أن أحيل إلى محكمة الجنايات فواجب على المحكمة أن تعين له مدافع ضمانًا لصحة إجراءات المحاكمة، وهذا لا يسلبه حقه في أن على القاضي أن يسمح له بالدفاع عن نفسه بما يعن له من أوجه الدفاع والدفوع والطلبات ما يرى فيها مصلحته في القضية، إذا طلب أن يكون آخر من يتكلم، وفيما يلى نستعرض في العنصر الأول أهم الضمانات التي تكفل فاعلية حق المتهم في الاستعانة بمدافع كما تغياها الشارع الدستوري.

وهذه مجموعة من الضمانات الإجرائية أو الشكلية التي بدونها لا يتحقق الحق الموضوعي في المحاكمات العادلة أو المنصفة، والتي تمثل الغاية المثلى من وجود المحاكم أو وجود الهيئة القضائية، ويجب على الجميع بداية من الدولة بسلطتها، والهيئات القضائية ونقابة المحامين أن تسعى جاهدة لتوفير تلك الاشتراطات الهيكلية اللازمة لتوافر الحق في المحاكمة العادلة والمنصفة، حتى ينعم المجتمع بوجود قضاء قوي صحيح لازم لبقاء الأمة ذاتها.