على مدار عقود طويلة ظلت مصر صاحبة المكانة والريادة في قلب أمتها العربية والمنطقة بفضل تأثير قواها الناعمة، من موسيقى وطرب وأدب وفن وثقافة وسينما ومسرح ودراما وغيرها، وليس غريبًا ولا غائبًا عن أحد أن تلك الوسائل الثقافية والفنية والأدبية هي أحد أهم دوائر النفوذ السياسى والتأثير الإقليمى، وإن لم تكن بشكل مباشر، ليس فقط على مستوى علاقات الأنظمة السياسية الحاكمة، بل كذلك التأثير والنفاذ لوجدان وعقول الشعوب.

من هنا، كان دور القوى الناعمة لمصر بالغ الأثر والأهمية على مدار عقود طويلة، ومع تعرضه لاهتزازات وتراجعات في حقب مختلفة، ولأسباب متفاوتة ومختلفة في كل منها، ومثل غيره من المجالات التي لا تسمح بوجود فراغ فيتقدم من يسعى لملئها، وهى ظاهرة متزايدة على المستوى الفني والثقافى خلال السنوات الماضية، وتحديدًا في الفترة الأخيرة مع بدء توجه بعض الدول للانفتاح النسبي والاستثمار المالي الضخم في إنشاء منصات وإنتاج دراما وأفلام وتنظيم مهرجانات واحتفالات، وهى كلها جزء من أداء سياسي يسعى لمد النفوذ كجزء من مشروع تغيير الصورة الذهنية، لكن المشكلة هنا ليست في ذلك، فهو حق مشروع وإن كان بالتأكيد يحتاج متطلبات أخرى عديدة غير كونه قائمًا فقط على امتلاك الإمكانات المالية الضخمة، ولكن المشكلة فيما يمثله من انتقال في مراكز التأثير والقوى الناعمة، وما يترتب على ذلك من تبدل وتغير في طبيعتها وطبيعة الثقافة والقيم التي تروج لها على المستوى المتوسط والبعيد، وهو أمر سيحدث آجلًا أم عاجلًا بشكل تلقائي بكل ما لتلك المجالات من فن وأدب وثقافة من تأثير على الوعي والوجدان العام.

بالتأكيد توسع قاعدة التنافس، إن كان تنافسًا حقيقيًا ليس قائمًا على مجرد حملات علاقات عامة وإمكانيات مالية، يفيد مجالات الثقافة والفن والأدب وغيرها، وبالتأكيد في أمتنا العربية وفى المنطقة بشكل عام ألوان مختلفة ومتعددة ومتنوعة من الفنون والثقافة والآداب، ومواهب وإمكانيات متعددة في تلك المجالات وغيرها تستحق أن تنتشر وتحصل على فرصتها أمام الجمهور العام في مختلف البلاد، وصحيح أيضًا أن الانفتاح الفني والثقافى والأدبى لبلاد كانت منغلقة حتى وقت قريب في تلك المساحات هو خطوة ونقلة مهمة تستحق التأمل حتى لو كان لها بعض الجوانب السلبية، لكن ما نناقشه هنا ليس من منطلق شوفينى مصري، وإنما من منطلق تنازع مساحات التأثير والنفوذ بالذات في واحد من أهم الملفات التي ظلت مصر دائمًا الأكثر تميزًا وتأثيرًا فيه، والأكثر قدرة على احتواء كل المواهب وتقديمها وإبرازها، والأكثر تمكنًا من بلورة وصياغة كل ذلك في إطار ثقافي وقيمي منفتح ومتنوع ومتسامح.

الملفت أن ما يجري الآن، في أغلبه الأعم يجري من خلال فنانين ومثقفين وأدباء مصريين، وهو ما يشير بوضوح إلى أن نقاط القوة والارتكاز لا تزال قائمة هنا في هذا البلد، لكن المؤسف هو أن ما يجري أيضًا يجري في ظل ما يكاد يشبه التسابق والهرولة من شخصيات كنا نعتقد بحكم ثقافتها ووعيها وتاريخها، أنها تدرك أن ما يجري وإن كان إيجابيًا في جانب منه إلا أنه لا يجري فقط لوجه الفن والثقافة والأدب، وأنه جزء من بسط النفوذ ومد الهيمنة ونقل مراكز القوى والتأثير، كما أن لاعبًا رئيسيًا وأساسيًا فيه هو القدرات والإمكانات المالية لا الموهبة ولا الكفاءة ولا الرؤية التنويرية.

ومع ذلك، وإن كان في القلب غصة، فلا يمكن أن نلوم من يقبل تكريمًا أو يشارك في حفل أو يساهم في انفتاح، طالما لم يؤثر ذلك على رؤيته وموقفه وأفكاره وتصوراته وما يقدمه من إبداع أيًا كان لونه، لكن اللوم كله على غياب مشروع وطني ثقافي وفكري وفني وأدبي شامل يعظم الاستفادة من القوى الناعمة المصرية ويحتضن ويقدم ويطور مختلف المواهب العربية ويواصل السعي للحفاظ على دور ومكانة مصر في هذه المجالات.

بالتأكيد ليس مطلوبًا تدخل الدولة الذي نشكو منه في كثير من المجالات، خاصة في مجالات ذات طبيعة إبداعية تحتاج بالأساس لمساحات من الحرية لتتمكن من التعبير عن نفسها، لكن المطلوب وجود رؤية ومشروع تدعم وتبرز وتحتفي، وآليات وأدوات لتنمية وتطوير ذلك، ومساحات للتعاون بين مؤسسات الدولة ذات الصلة وبين جماعات المثقفين والفنانين والأدباء وغيرهم.

مجددًا، فإن ما نناقشه هنا ليس محض موضوع ثقافي وفني وأدبي، بل هو سياسي بامتياز، كما أنه ليس موجهًا ضد أي مساعي أو محاولات إن كانت جادة وتسهم في تطوير وتوسيع المساحات المتاحة للفن والأدب والثقافة وتمثل انفتاحًا حقيقيًا للمجتمعات على تلك الألوان والمساحات، وإنما هو سعيًا للتفكير في كيفية الحفاظ على أحد أهم أدوات التأثير والحضور المصري على مر التاريخ، وهو حق مشروع تمامًا بل وواجب ضروري جدًا.

لا ينكر أحد أيضًا، أنه عبر التاريخ كانت هناك فنون وآداب متميزة وعظيمة عبرت عن ثقافات مجتمعاتها، سواء في الشام أو الخليج أو المغرب العربي، كما شهدت السنوات الأخيرة بروز أسماء وتجارب لامعة ومتميزة أدبيًا وفنيًا، وهو أمر بالغ الأهمية والإيجابية، ويؤكد أن هذه الأمة تمتلك ذخيرة حقيقية من المواهب والكفاءات والقدرات الإبداعية الهائلة، لكن وبكل أسف فإن كثير من هؤلاء لا يحظى لا بمساحات الضوء والانتشار الكافية ولا بمشروع جماعي أوسع يحتضنه ويطور منه ويبرز ما يقدمه، واللافت هنا مرة أخرى أن مثل هذه الأصوات الإبداعية والمواهب الفنية، بالذات من لها مواقف سياسية أو تعبر عن انتقادات فكرية ومجتمعية مخالفة لما هو سائد أو للدقة لما هو مطلوب أن يكون سائدًا، أو لها رؤى مغايرة، لا تجد لها مجالًا أو سبيلًا في الاحتفالات والمهرجانات والجوائز التي ينظمها ويقوم عليها البعض.

ومع كل الانتقادات والملاحظات أيضًا التي يمكن توجيهها وتفهمها والنقاش حولها، حول المستوى العام للأدب والفن والثقافة في مصر في السنوات والعقود الأخيرة، فإنه أيضًا لا ينكر أحد أننا لا زلنا بين الحين والآخر نكتشف وجود مواهب مبهرة ومتميزة في مختلف المجالات، وربما حتى في ألوان الفنون التي لا تعجب البعض، لا تزال مصر الأكثر تأثيرًا وحضورًا فيها دون أن يقلل ذلك إطلاقًا من مواهب أخرى، لكن المقصود هنا أن المشكلة ليست إطلاقًا في تراجع قدرة هذا البلد على إفراز وإنجاز موهوبين وفنانين ومبدعين ومثقفين، وإنما في القدرة على وجود رؤية تجمع ومشروع يبلور وطاقة تجذب وخطوات تدعم ومساحات تحتضن، في إطار تصور أوسع وأعمق للحفاظ على دور مصر الذي يتجاوز فقط فنانيها ومبدعيها ليشمل كل الفنانين والمبدعين والمثقفين في أمتها.

أخيرًا، فإن كل انفتاح ثقافي وأدبي وفني بالتأكيد مرحب به، ويستحق الاهتمام والالتفات والتقدير، حتى وإن كان هناك ملاحظات حوله وعليه، لكن الاكتفاء بذلك وحده دونما التفات لأسبابه، وكيف يجري ولماذا، وإلى آثاره الأبعد، هو نوع من دفس الرؤوس في الرمال، والأوجب هنا هو التفكير الجماعي في كيفية خلق مسارات موازية وبديلة لا تصادر على حق الآخرين في تلك التجارب ودعم نفوذهم وحضورهم فهو حق مشروع تمامًا، خاصة أن له آثاره الإيجابية حتى لو كنا نحذر من سلبياته، لكن الأهم هنا هو ألا تمتد تلك الآثار السلبية لسحب بساط القوى الناعمة من تحت أقدام مصر تمامًا ونهائيًا، وهو ما يحتاج بشكل جاد لتفكير ونقاش واسع بين المثقفين والفنانين والأدباء المصريين بالتزامن مع دور جاد وداعم من مؤسسات الدولة ذات الصلة.