ما الذي يمكن أن يحلم به الصحفيون، ويتمنونه من انتخاب نقيب جديد والتجديد النصفي لمجلس النقابة؟، لا شك في أن إرادتهم ستتوجه للتطلع إلى نقيب ومجلس يقفون بكل حزم ضد امتهان المهنة، ويصطفون بكل حسم مع صيانة كرامة الصحفيين.
يريد الصحفيون أن يسمع صوت المجلس الجديد في حبس الصحفيين، وأن يعمل على فك قيد المحبوسين منهم.
يتطلع الصحفيون بدون شك إلى أن يجدوا نقيبهم ومجلسهم في الصف الأول في المواجهة مع أي مساس بحريات التعبير، وأي عدوان على حرية الصحافة.
يريد الصحفيون أن يتصدى النقيب الجديد ومعه المجلس المجدد لمعالجة ظاهرة إغلاق المواقع الصحفية أو حجبها أو التضييق عليها، ولا يكتفون بموقف المتفرجين على زملاء أُلقى بهم في عرض الطريق، بعد أن فقدوا عملهم.
الصحفيون في أغلبيتهم منحازون للعمل النقابي الشريف والنزيه والمتجرد من كل مصلحة ذاتية، يتطلعون إلى نقابة تحمي المهنة، وتصون كرامة الصحفيين، كل الصحفيين.
نقابة تحميهم من كل بطش، جاء من السلطة أو من رب العمل أو حتى من الزملاء المسيطرين على إدارة الصحف، وتصون كرامتهم تجاه كل معتدٍ عليها، وتحفظ حقوقهم تجاه كل غاصب لها.
لكل ذلك هم يتشوقون إلى استرداد نقابتهم، من مرشحي البدل، ومن مغارة التغييب، ومن الغياب على الساحة الوطنية.
**
نقابة الصحفيين صاحبة تاريخ ناصع، وهو شاهد على عراقة دورها المتألق في تاريخ مصر خلال الثمانين سنة الأخيرة منذ صدور القانون رقم 10 لسنة 1941 الذي تضمن مشروع إنشاء النقابة.
حين كنا نجلس إلى كبار الكتاب والصحفيين في حديقة النقابة كنا نجتمع على الحقيقة مع تاريخنا الحي، ونحتك مباشرة مع قدوتنا المشرفة، فجأة حدث الانقطاع المحزن بين أجيال النقابة، والأسباب وراء ذلك كثيرة ومؤسفة، فانقطعت الأجيال الأحدث عن تاريخها.
وليس أسوأ من وضعٍ تكون فيه المهنة بدون قواعدها التي شيَّدها الآباء المؤسسون، ولا أسوأ من نقابة تصبح عند أعضائها بدون تاريخ.
**
منذ النشأة وإلى يوم 17 مارس القادم لم يحدث أن واجهت النقابة من ناحية، والمهنة من الناحية الثانية كل هذه التحديات، ولم يكتب عليها خوض كل هذه المعارك، خاصة تلك التي تدور حول الأسس التي قام عليها دور النقابة، وتلتف حول القواعد الأساسية التي ارتفع بينان المهنة عليها.
كانت القاهرة عاصمة للخبر حين كانت الصحافة على رأس القوة الناعمة المصرية إلى جانب أخواتها الأخريات في الفنون والآداب والثقافة والسينما.
حين فقدت الصحافة هوامش الحرية التي جعلت منها مثالًا يحتذى في بقية الصحف العربية الناشئة، فقدت قدرتها على التأثير، وتراجعت إلى الصفوف الخلفية لقوائم الصحف العربية والخليجية الأخرى.
وحين فقدت النقابة دورها الحقيقي في الدفاع عن حريات التعبير، وحين تقاعست عن التصدي للعدوان على المهنة، وحين غضت الطرف عن استهداف حبس الصحفيين بجريرة الكلمة، فقدت مبرر وجودها، وتشكك أعضاؤها في إمكانية استعادة الوجه الحقيقي لنقابتهم، واسترداد ذلك الوجه المشرق بصيانة حقوق الصحفيين والحفاظ على دورها الوطني الذي لم تتخل عنه طوال تاريخها.
**
نقابة الصحفيين مخطوفة منذ زمن في ثلاث اتجاهات قضت على دورها وهمشت وجودها وقزمت تأثيرها، ومهمة الجمعية العمومية الآن هي استرداد النقابة من هذا الغياب المفروض عليها.
الغياب في جب الخدمات الذي لا يخرج منه إلا الغثاء، ولا يقدم خدمة حقيقية للمهنة، ولا للصحفيين، كلها حقوق ـ لو أننا في أوضاع طبيعية ـ لحصل عليها كل المواطنين، فضلًا عن الصحفيين، ومع ذلك، لم يحدث أن استفاد الصحفيون من مهرجان “أهلًا مارس” الذي تنتصب خيمته في كل تجديد نصفي وانتخاب نقيب جديد.
استرداد النقابة من مرشحي البدل، هو على الحقيقة استرداد لشرف المهنة واستعادة لكرامة الصحفيين.
لست أشك في أن الأوضاع المالية للصحفيين هي الأسوأ ربما في تاريخ المهنة، ولكن ما يحزنني أن يُصدَّر الصحفيون إلى المجتمع في صورة المرتشين كل سنتين، يُرمى إليهم بفتات في كل انتخابات، في مقابل شرفهم المهني وعزتهم النقابية التي يرمونها أصواتًا في صناديق الانتخابات لصالح مرشحي البدل.
مصر كلها ـ وليس الصحفيون وحدهم ـ في حاجة إلى استرداد منظومة الإعلام كلها، وفي مقدمتها نقابة الصحفيين التي تحفظ للمهنة دورها، وتحافظ للصحفيين على حقوقهم.
**
في 2005 استرد الصحفيون نقابتهم في واحدة من أهم الانتخابات النقابية ونجح جلال عارف، وكان نجاحه إيذانًا بالدخول إلى زمن جديد على المستوى الوطني وعلى صعيد المهنة، وعلى الدور النقابي.
حققت فترة جلال عارف، ومن بعد حققت فترة يحيى قلاش، ما لم يحققه من كانوا يسمون وقتها “نقباء الجسور”، كانوا يريدون أن يكونوا جسرًا بين النقابة والسلطة، فمهدوا لأنفسهم جسورًا لتحقيق مكاسب شخصية، على حساب مصلحة الصحفيين ومصالح المهنة.
مع جلال عارف، ومن بعده مع يحي قلاش بادرت السلطة إلى إقامة الجسور مع النقابة، وانتعشت ميزانية النقابة بأرقام غير مسبوقة في الحالتين.
**
نقابة قوية عصية على التطويع ونقيب أثبتت الأيام جدارته لتمثيل الصحفيين، مكنها من أن تحصل على خدمات مطلوبة، وحقوق مستحقة، وكرامة يجب أن تكون مصونة، ومصالح يجب أن تكون محفوظة.
مؤسف أن تقوم المنافسة على مقعد النقيب ومواقع التجديد النصفي على هذه القسمة بين مرشحي الخدمات ومرشحي الاستقلال النقابي، وهذا التقسيم لا يروج إلا في الفترات التي تريد الحكومة فيها بسط سيطرتها على النقابة واستمرار نفوذها على العمل النقابي.
والتاريخ شاهد، والوقائع ثابتة، بعضها كان مع أول لحظة في التفكير لإنشاء النقابة وبعضها قريب لا يكاد ينسى.
**
التاريخ يشهد على أن الحركة النقابية الصحفية ظلت تطالب بتأسيس النقابة من أول 1909 حتى قبلت حكومة علي ماهر التقدم إلى مجلس النواب بمشروع إنشاء نقابة للصحفيين أعده رائد الحريات العامة وحرية التعبير والصحافة محمود عزمي، وظل في حالة جدل إلى أن صدر القانون بإنشاء النقابة.
يدعي أصحاب نظرية الخدمات ويقرون مبدأ أن “الخدمات مقدمه على السياسة”، وهم لا يعلمون أن أول جدل في مجلس الشيوخ عند مناقشة مشروع قانون النقابة هو ما أثاره اعتراض النائب يوسف أحمد الجندي الشهير برئيس جمهورية زفتي على نص (كانت لا تخلو منه قوانين النقابات المهنية في ذلك الوقت) يحظر على نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة.
يقول الجندي: «كيف يحظر على نقابة الصحفيين الاشتغال بالسياسة رغم أن تنظيم مهنة الصحافة وتكوين نقابة للصحفيين يستلزم الاشتغال بالسياسة، فإذا سنت الحكومة قانونًا من شأنه الحد من حرية الصحف مما يستدعي أن تناقشه هيئة النقابة تم منعها بحجة اشتغالها بالأعمال السياسية، مع أن طبيعة تنظيم المهنة تقتضي من النقابة الكلام في السياسة، كما أن العمل على رفع شأن الصحافة وإعلاء كلمتها يستدعي حتما تعرض النقابة للشئون السياسية».
وامتد الجدل، وفي النهاية انتصر منطق وحجة يوسف الجندي وكانت نقابة الصحفيين هي أول نقابة لا يحظر قانونها الاشتغال بالسياسة.
**
ارتباط السياسة بمهنة الصحافة أعمق من ارتباطها بأي مهنة أخرى، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يمثل مبنى نقابة الصحفيين موقعًا محوريًا على خريطة القضايا الوطنية، وهو السبب وراء أن يحجب المبنى، ويتحول إلى وضعية مبنى إداري يكاد يكون مقصورًا على العاملين فيه، وجرت عملية ممنهجة طوال السنوات الأربع الماضية من أجل تطفيش الصحفيين بعيدًا عنه.
على طول تاريخها كانت الحكومات تريد أن تقتصر نقابة الصحفيين على دور خدمي باهت، ولكن وعي الصحفيين وحضور وقوة جمعياتهم العمومية حافظت دائمًا على الدور الوطني للنقابة، وفي كل الأوقات كان حرص الصحفيين على ممارسة هذا الدور الوطني بمعزل عن تحويلها إلى منابر حزبية، أو منصات سياسية بالمعنى الضيق للسياسة، وظلت تمارس دورها الوطني العام طول الوقت.
لم تدخل نقابة الصحفيين معركة عنوانها الحرية والكرامة وخسرتها، وقد مر وقت طويل لم تكن نقابة الصحفيين تقدم لأعضائها “خدمات” من تلك النوعية التي يسوق لها اليوم في سوق الانتخابات الصاخبة التي تسوء معها سمعة الصحفيين وتذهب هيبتهم حيث ينظر إليهم المجتمع نظرته إلى المهرولين من أجل بضع مئات من الجنيهات يسدون بها أفواههم، ويخرسون بها ألسنتهم.
**
هذه انتخابات مفصلية، لها ما بعدها، على المستوى الوطني، وعلى مستوى الصحافة كمهنة والنقابة كتجمع مهني مهمته الدفاع عن المهنة وعن الصحفيين.
وأظن أن الوعي العام في صفوف الصحفيين خاصة الشباب منهم، لم يعد ينطلي عليه تلك الألاعيب القديمة، بعد أن استقر لدى الجميع أن البدل لم يعد مجلبة لأصوات الجمعية العمومية لوضعها في حصيلة أسماء بعينها، وقد سبق أن فشل مرشحو البدل، وصرفه الصحفيون.
لم يعد البدل منحة في مقابل الأصوات، بل صار حقًا، وهو الحقيقة أقل مما يستحقه الصحفيون بسبب أوضاعهم المعيشية المؤسفة، وأقل مما تستحقه مهنة على مستوى أهمية الصحافة ودورها المنوط بها بحكم طبيعة المهنة.
لقد أتى حين من الدهر لم يكن ” البدل” شيئاً مذكورًا.
كان راتب الصحفي يكفيه وزيادة، وكان الصحفيون من المراتب العليا في الرواتب، حتى جرى إفقارهم ليبقوا مفتقرين دومًا إلى الفتات الذي ترميه إليهم الحكومات مع كل انتخابات.
**
الحرية والكرامة ومصلحة الصحفيين لابد أن تكون برنامج كل مرشح لمنصب النقيب ولعضوية المجلس، فهذا التزامهم، وذلك هو ما استقر عليه نضال الصحفيين عبر ما يزيد عن القرن من أجل انشاء نقابة قوية تعبر عنهم وتحفظ كرامتهم وتحقق مصالحهم.
الخدمة الحقيقية التي يجب أن تتجمع عليها أصوات الصحفيين وتتكاتف سواعدهم وتتعاضد جهودهم هي “إنقاذ المهنة”، وهي مهمة ثقيلة، والنقيب، أي نقيب، والمجلس، أي مجلس، ليس مسئولًا عن الأزمة، ولا في استطاعته وحده التعامل معها.
الأزمة لها طابع اقتصادي قبل أن يكون لها طابع مهني، ولها حلول قانونية قبل أن تكون حلولًا نقابية، والصحفيون اليوم مطالبون بأن يتجنبوا الخلافات وأن يعبروا هؤلاء الذين أرادوا شق الصفوف، وأن تتحد إرادتهم لاختيار نقيب للصحفيين وأعضاء لمجلس النقابة في تجديده النصفي، بعيدًا عن الجسور التي سرعان ما تسقط وتغرق الجميع في المياه العكرة التي تتدفق في نهر تطويع العمل النقابي واستتباع المجتمع المدني لسلطة تكره كل صوت مخالف.
**
لا النقيب ولا المجلس، أيًا كان من يجلس على مقعد النقيب، وأيًا كانت عضوية المجلس، يمكنه أن يحل أزمات الصحفيين الاقتصادية في بلد يعاني أشد المعاناة من أوضاعه الاقتصادية.
الشيء الوحيد القادر على تقديم حلول حقيقية لأزمة الصحافة ويضمن حقوق الصحفيين هو وحدة الصحفيين، وعدم تسليم مفتاح النقابة هدية لأولئك الذين دفنوا النقابة في الخيش يعلوها طوال سنوات.
نحن لا ننتخب من يحل لنا مشاكلنا الاقتصادية ولا المهنية، نحن ننتخب من يجمع قوتنا ويحصن استقلالنا ويفاوض باسمنا من أجل تحقيق هذه المصالح والزود عن هذه الحقوق.
**
انتخابات الصحفيين لا هي سياسة ولا هي خدمات، هي تاريخ طويل من الدأب الحكومي على وضع “نقابة الصحفيين” في بيت الطاعة الأمني.
الإعلام هو أعز ما تملك سلطة الاستبداد ولا تفرط فيه بسهولة.
والصحفيون يدركون أن حرية الصحفي وكرامته ومصالحه ثلاثة قوائم ملتصقة لا تنفصل، ولا يجوز التفريق بين أحدٍ منها. والنقابة التي لا تقدم خدمات لأعضائها ولا تسهر على خدمتهم ينقصها دور رئيسي من أدوارها.
والنقابة التي لا تسهر على احترام كرامة المهنة والصحفيين لا تستحق الحياة.
والنقابة التي لا تضع الحرية على رأس أولوياتها واهتماماتها تخسر معنى وجودها وجدواه.
والبداية من استرداد النقابة.