في حوار مع أحد زملاء الزنزانة خلال عدة أشهر قضيتها بقسم دار السلام، ذكر لي الزميل أنه محبوس احتياطيًا على ذمة قضية مشاجرة، حيث وقع خلاف بينه وبين صديق فاستل سلاحه الأبيض ووجهه إلى صديقه، طعنة نافذة أودت بحياته، ثم حكى لي في ساعة صفاء أنه محكوم غيابيًا في عدة قضايا أخرى منها قضية هتك عرض وحيازة سلاح أبيض، وفي ختام حديثه أكد لي أنه سوف ينهي قضاياه تلك ويخرج من السجن قبل أن أخرج أنا.

بعد أسابيع علمت أنه حصل على إخلاء سبيل في قضيته الحالية، وتمت تبرأته من قضية أخرى، وتم اخلاء سبيله بعد بدء إجراءات محاكمته في قضايا أخرى. تم الافراج عنه خلال يومين من قرار إخلاء سبيله، ثم عاد بعد ثلاثة أشهر متهمًا في قضية جديدة، ثم صدر ضده حكم بسنة سجن في قضية المشاجرة.

جاء لتوديعي قبل ترحيله إلى السجن العمومي لقضاء محكوميته وأخبرني أنه سيتم الإفراج عنه قبلي أيضًا وهو ما تم بالفعل. أتصور أن كل من مر بتجربة السجن لديه حكايات مشابهة.

تلك الحكايات تلفت نظرنا إلى قصور في مفهوم العدالة لدى الدولة الحالية، فالسلطة تعتبر التعبير عن الرأي ومعارضة توجهات الدولة أكثر خطورة من باقي الجرائم، وعلى هذا الأساس فإن القواعد التي تطبقها النيابة العامة والقضاء في القضايا السياسية تختلف عن باقي القضايا الجنائية، رغم تأكيدات الدولة دائمًا بأن كل السجون لا يوجد بها سجناء سياسيون، وإنما محبوسون على ذمة قضايا جنائية، أو محكومون بقانون العقوبات.

هذا التوجه من القضاء ليس بعيدًا عن التصريحات المتكررة من القيادة السياسية، بأن ثورة 25 يناير هي سبب كل المشكلات التي تواجه الوطن.

أغلب “قضايا الأحداث” تم الحكم فيها باستخدام قانون البلطجة، تهم التجمهر واستعراض القوة وقطع الطريق العام، في أحداث التظاهر، تحمل أحكامًا بين 5 سنوات وإعدام، وهي عقوبات مغلظة جدًا كان هدفها الرئيسي تحقيق الردع، وقد تحقق الردع بالفعل، ولكن لا يزال المئات يقضون تلك الأحكام، وتجربة أحمد دومة في قضية مجلس الوزراء دليل على ذلك.

خلال الأشهر القادمة يكون قد مر 10 سنوات على أحداث عام 2013، ويكمل مئات – إن لم يكن ألاف – السجناء عامهم العاشر في السجن بعد القبض عليهم في تظاهرات مختلفة، بعضهم ذهب بتكليف تنظيمي من أعضاء جماعة الإخوان، وآخرون ذهبوا تعاطفًا وتضامنًا، وآخرون تم القبض عليهم حيث تصادف وجودهم بمكان التظاهر أو بدافع “الفرجة”.

قرارات الإفراج الشرطي والصحي، لا تنطبق على القضايا السياسية، وهو تمييز جديد في حق السجناء السياسيين، ولجنة العفو الرئاسي غارقة في ألاف الأسماء وتضع جل تركيزها على المحبوسين احتياطيًا، باستثناء بعض أسماء المحكوم عليهم وفق قانون الطوارئ.

من المفهوم أن تقوم الحكومات بتغليظ العقوبات أحيانًا على بعض الجرائم، في حالة انتشارها داخل المجتمع، بهدف وقف الظاهرة، أو بهدف السيطرة على الشارع وإحكام القبضة الأمنية، وهو ما حدث بالفعل خلال السنوات العشر الماضية، ولكنها تعيد ضبط ميزان العدالة في الوقت المناسب، لإعادة التوازن بين العقوبة والفعل، فلا يعقل أن تكون عقوبة منشور يعارض الدولة أكبر من عقوبات قضايا أخرى أكثر خطرًا وتهديدًا للمجتمع.

لا يهمني هنا ما إذا كان الشخص بريئًا أم مدانًا، فقد قال القضاء كلمته بالفعل، ولكن إذا كان القضاء قد حكم بأقصى العقوبة لتحقيق الردع، وقد تحقق بالفعل، وتوقفت الأحداث وهدأ الشارع السياسي تمامًا، إن لم يكن قد مات، ودعت الدولة إلى فتح صفحة جديدة مع المعارضين عنوانها ” الاختلاف في الرأي لا يفسد للوطن قضية”، ألا يجب أن يتم البدء في تصفية الملف المعلق ومراجعة مواقف ألاف السجناء؟

تمنيت بعد تشكيل لجنة العفو الرئاسي، أن تقوم الدولة من جهتها بتشكيل لجنة تضم ممثلين للقضاء والنيابة والأجهزة المعنية، تقوم بمراجعة القضايا التي تشمل عددًا أكبر من السجناء، ويتم تصفية تلك القضايا بالكامل.

خلال أقل من عام تم الإفراج عن أكثر من ألف محبوس احتياطيًا، وهو رقم كبير لم نكن نحلم به قبل عام 2022، ولكن طاقة الأمل التي فتحت في إفطار الأسرة المصرية العام الماضي جعلتنا نحلم بخروج كل سجناء الرأي، وتوقف ماكينة القبض على آخرين بتهم الانضمام إلى جماعات إرهابية، بسبب منشورات على مواقع التواصل الاجتماعي.

الدولة بصدد الإعلان عن خلوها تمامًا من الإرهاب، بعد أن تمكنت من تطهير سيناء من العناصر التي قتلت عشرات الشهداء من المجندين.

هل يمكن أن يترافق ذلك الإعلان مع خلو مقرات الاحتجاز من سجناء الرأي، وتتوقف تهم الإرهاب التي تلاحق الجميع؟