من الواضح أن تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران هو مجرد خطوة بسيطة ضمن حسابات سياسية واقتصادية أوسع، إقليميًا ودوليًا، تقوم بها الرياض. وهي أيضًا مقدمة للتطبيع مع إسرائيل، سواء بشروط السعودية أو بشروط إسرائيل، أو وفقًا لموازين القوى. وفي كل الأحوال، من السابق لأوانه الاعتقاد أو التصريح بأن السعودية تتحرر أو تحررت من “التبعية” للولايات المتحدة، لأن العلاقات بالفعل هي علاقات استراتيجية بين الرياض وواشنطن، بعيدًا عن الأحلام “القومية” القديمة بشعاراتها التي لا تعبر لا عن الواقع ولا عن رصيد العلاقات بين الدول.

لقد أعلنت الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بأنها ملتزمة بضمان أمن إسرائيل، وعلى رأسها روسيا والولايات المتحدة. وقد أعلنت موسكو رسميًا أكثر من مرة أنها ملتزمة بضمان أمن إسرائيل، بصرف النظر عن تأرجح العلاقات بين موسكو وتل أبيب. وبالمثل واشنطن تعتبر أمن إسرائيل جزءًا من أمنها هي شخصيًا. أي أن أمن إسرائيل بشكله الأوسع لا علاقة له بالتقارب بين الرياض وطهران. وفي كل الأحوال، يمكن رؤية الإجراءات العسكرية الإسرائيلية في سوريا التي تتواجد فيها قوات روسية وتركية وإيرانية، حيث لا ترد أي منها على أي إجراء إسرائيلي، إلا بالبيانات وبالشجب والتنديد!

من الصعب أن نتصور أن يُقَابَل تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب بأي اعتراضات أو استهجانات، بل على العكس سيكون هناك استحسان وترحيب، لأنه يأتي بعد تطبيع العلاقات بين الإمارات والبحرين رسميًا مع إسرائيل، ووجود علاقات طيبة معها من قبل قطر وعمان. ولا يمكن أن تعترض أي دولة إقليمية أو من خارج المنطقة على هذه الخطوة، بل سيرحب بها الجميع، وربما يحصل ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على جائزة نوبل للسلام مع الزعيم الإسرائيلي الذي سيوقع معه الاتفاقية ذات الصلة. حتى إيران لا يمكنها الاعتراض، لأنها لا تعترض على تطبيع تركيا أو روسيا أو الإمارات. وقد تصدر طهران بيانات شجب وتنديد ولن تذهب الأمور إلى أبعد من ذلك.

كما أن تطبيع العلاقات بين الرياض وتل أبيب يعد أحد خطوط الدفاع عن منطقة الخليج، في حال وجهت إسرائيل أو الولايات المتحدة، أو الدولتان معًا، ضربات لإيران. هنا تسقط كل التهديدات الإيرانية بشأن حرق منطقة الخليج في حال أي اعتداء أمريكي- إسرائيلي عليها. وفي حال اعتداء إيران على أي دولة خليجية، فإنها ستوفر الغطاء الشرعي الكامل لكل الضربات الممكنة التي ستوجه إليها، بصرف النظر عن مواقف روسيا والصين. والأخيرة ستجد نفسها متورطة في حال اعتداء إيران على أي دولة خليجية. وستعاني من خسائر لا حصر لها من الشرق ومن الغرب.

من السابق لأوانه الإعلان بأن تقارب السعودية وإيران هو فشل لإسرائيل أو فشل للولايات المتحدة. فالأخيرة على سبيل المثال، لا يهمها إلا ما يتعلق بمصالحها المباشرة كأولوية. ثم تأتي الدائرة الأوسع قليلًا بشأن ما يتعلق بمصالحها بشكل غير مباشر. وعادة ما تترك واشنطن هامشًا من المناورة لحلفائها، بشرط أن ينفذوا إجراءات معينة متفق عليها، وبقية الأمور متروكة لهذا الطرف أو ذاك من الحلفاء ليدبر أموره بنفسه.

لكن يجب التوقف هنا، للمرور على الموقفين الصيني والروسي بالنسبة للمشهد الخليجي، وعلى رأسه التقارب بين المملكة العربية السعودية وإيران. لا شك أن وساطة الصين كقوة اقتصادية وسياسية كبرى، وأحد الأعضاء الخمس الدائمين في مجلس الأمن الدولي، يؤكد فكرة ارتقائها إلى مستوى القوة الثانية في العالم لتحل محل روسيا وريثة الاتحاد السوفيتي. وفي الواقع، فإن الخطوة الصينية لا تنتقص إطلاقًا من رصيد الولايات المتحدة ولا من وضعها، وإنما تنتقص تحديدًا من رصيد روسيا ووضعها الجيو سياسي. وليس من المستبعد أن تكون الوساطة الصينية ورقة مفيدة لواشنطن في صراعها مع موسكو من جهة، وفي منح بكين مساحة للحركة أوسع من مساحة روسيا من جهة أخرى. الأمر الذي يلعب دورًا مهمًا في توجيه المتغيرات الخاصة بمعادلة الصراع حول أوكرانيا، وتضييق الخناق على روسيا، ووضعها في مرتبة أدنى. بمعنى أن الصين تصبح ضمن الدول الكبرى صاحبة القرار في العالم بالتنسيق مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كتكتل والدول الأوروبية الكبرى، بينما على روسيا أن تحل مشاكلها بوساطات تركية وماليزية، أو تبحث عن مصالحها مع دول بحجمها. بينما العالم متعدد الأقطاب موجود ويعمل، بعيدًا عن هلوسات موسكو بشأن التعددية القطبية. وفي الواقع، فإن العالم متعدد الأقطاب الذي يضم الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي كتكتل، والدول الأوروبية، والهند، منطقي وقابل للتنبؤ وأكثر حرصًا على منظومة الأمن الدولي، وقادر على تفادي المغامرات العسكرية والتهديدات النووية.

في الحقيقة، لا توجد أي مؤشرات على غضب إسرائيل من تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران. ولا يوجد أي سبب منطقي وعقلاني يتسبب في غضب إسرائيل، لأن الأهم بالنسبة لها هو تطبيع علاقاتها مع السعودية كأولوية تترتب عليها تحولات تاريخية (اقتصادية وسياسية وجيوسياسية وفي مجال الطاقة والنقل والطرق والمواصلات) في المنطقة، وليس تطبيع الأخيرة مع إيران. وما يتعلق بالصراع بين تل أبيب وطهران، فهذا أمر مرتبط بمتغيرات ومعادلات أخرى، لا تخص دول الخليج بالدرجة الأولى. وبالتالي، فما يكتب من تحليلات في الصحافة الإسرائيلية لا علاقة له بالموقف الحقيقي لمركز القرار في تل أبيب.

من المبكر أن نمد الخطوط على استقاماتها ونصدر “فتاوى” بشأن مستقبل العلاقات بين السعودية وإيران، وبشأن عودة سوريا إلى “الحضن” العربي. ومن السابق لأوانه أيضًا أن نتحدث عن انتصار جبار للصين، أو لروسيا التي لا علاقة لها إطلاقًا بما تم بين الرياض وطهران، أو “نتكهن” بمستقبل العلاقات الرائعة بين هذا الطرف أو ذاك، أو ظهور تحالفات استراتيجية أو غير استراتيجية بين هذه الدولة أو تلك. إذ أن الخطوة السعودية- الإيرانية مجرد تحرك أو “نقلة” ضمن حسابات أوسع. وهذا ما ستبينه موازين القوى على المديين القصير والمتوسط، وكذلك تحركات ونقلات الأطراف الأخرى، وبالذات إسرائيل والولايات المتحدة والصين وروسيا.

لا يمكن تصور أن تعلن دول ما، على رأسها الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، رفضها علنًا. لكن التقاليد الدبلوماسية تلعب دورًا مهمًا هنا في استقبال هذه “النقلة” بهدوء، وتخفي بيانات الترحيب والاستحسان وراءها ما يجري في كواليس الدبلوماسية وأروقة السياسة، حيث تعكف الأطراف الكبرى، والأطراف ذات الصلة، بدراسة هذا التقارب، ووضع حسابات وتوقعات واحتمالات. وفي كل الأحوال، فلن تتغير مواقف وسياسات السعودية بالنسبة للملف النووي الإيراني ولا التصويت على ملف العقوبات. ولن تخرج إيران من اليمن ولا من سوريا، ولن يتوقف الحرس الثوري الإيراني عن مغامراته خارج إيران.

من جهة أخرى، لا يوجد أي مبرر من أي طرف للهجوم على الدبلوماسية والسياسة الخارجية المصريتين أو السخرية منهما أو التقليل من دورهما أو من تحركاتهما. ويمكن أن نعترف بأن تدهور الأوضاع الداخلية والاقتصادية وفشل بعض الملفات، سحبا الكثير من بعض نجاحات السياسة الخارجية الحذرة التي تفادت الكثير من المطبات والأفخاخ في ليبيا وإثيوبيا على سبيل المثال. ولكن لا رجاحة عقل هنا في الضغط على المفاوض المصري أو وصفه بالتقاعس أو الفشل. كل ما عليه الآن هو أن يجلس لإجراء حساباته، ووضع المصالح القومية المصرية العليا حصرًا فوق أي اعتبارات، والتنسيق بما تسمح به الظروف وموازين القوى مع الأطراف القريبة والأقرب والأبعد، والبحث عن مساحات للمناورة، والتحرك نحو أهداف واضحة بشكل مباشر بعيدًا عن الطنطنة والإعلانات، وبذل الجهد في ترسيم دوائر حركته وتقاطعاته مع الأطراف الأخرى، سواء كانت دول الخليج أو إسرائيل أو تركيا أو سوريا أو إيران، مع الأخذ بعين الاعتبار، وبشكل حصري الدائرتين الإفريقية والأوروبية- المتوسطية والاستفادة منهما قدر الإمكان وبقدر ما تمتلك القاهرة من أوراق.

هناك اعتقاد، قد يكون غير دقيق أو غير متبلور بعد، بأن القاهرة تملك الآن جميع الفرص والإمكانيات لتوسيع مساحات مناوراتها السياسية إقليميًا ودوليًا، مع عدم السقوط في فخ “الذيلية” لهذه الدولة أو تلك، لأن الأمور تتغير بوتيرة سريعة ومصر لا تمتلك رفاهية أي حسابات خاطئة أو بيروقراطية. ومن الممكن أن تلعب الإصلاحات الداخلية السريعة في ملفات اجتماعية وحقوقية وفي ملفات الحريات ورفع الأسقف دورًا مهمًا في دعم التحركات الخارجية، بدلًا من إحكام القبضة والهلوسات الأمنية. وبالتالي، تتوقف عملية السحب من رصيد السياسة الخارجية.

كل ذلك، مجرد نظرة سريعة، بعيدًا عن اليقينيات والتكهنات والهلوسات “الاستراتيجية” التي تملأ وسائل الإعلام وتنطلق في التحليلات العرجاء. الوقت لا يزال مبكرًا للغاية للخروج بآراء يقينية، ومواقف ملتهبة وحماسية. فمراكز القرار في الدول الكبرى، رغم الترحيبات الدبلوماسية، تعكف الآن بشكل جدي لبحث الأمور. والمقصود ليس بحث التقارب السعودي الإيراني فقط وبالذات، ولكن بحث المشهد الإقليمي وتحركاته، وبحث الوضع الدولي وتحولاته.