تحولت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا إلى غزو شامل مع دخولها عامها الثاني. ومعها تعود مرة أخرى صورة الحروب التقليدية واسعة النطاق، التي تخلف آلاف القتلى والجرحى، بعد أن كانت تلك الحروب، قاصرة على ألعاب الفيديو والكتب وأفلام هوليود.

حطمت الحرب الروسية فرضية انتهاء الحروب التقليدية. اليوم، وفي قلب أوروبا، مات ما لا يقل عن 18000 مدني، ونزح وهُجر 14.5 مليونًا، وتعرض آلاف آخرون للتعذيب والتشويه وإعادة التوطين بالقوة.

ومع ذلك، عندما تنتهي هذه الحرب، يرى البعض أنه لا يزال هناك أمل في أن تأخذ أوكرانيا مكانها في مستقبل أكثر إشراقًا، اكتسبته من بطولة شعبها. بينما لا يمكن قول الشيئ نفسه بالنسبة لروسيا، التي تجد نفسها الآن تحدق في ثقب أسود محتوم لمستقبلها.

مواطنون روس يمشون بجوار نجمة الكرملين تحمل الحرف Z وهي الشارة التكتيكية للقوات الروسية في أوكرانيا. موسكو في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2022- ألكسندر نيمنوف / وكالة الأنباء الفرنسية

في محاولة لاستشراف مصير الطرفين المتنازعين، خاضت الكاتبة والمؤرخة الاجتماعية الأمريكية روسية المولد أناستازيا إديل، التي تقوم بتدريس التاريخ في جامعة كاليفورنيا، جولة بين روسيا الماضي والحاضر. انطلقت منذ بلغت سن الرشد، عندما انهارت حدود الاتحاد السوفيتي وذهبت روسيا باتجاه الغرب.

تقول في قصتها المنشورة في فورين بوليسي/ Foreign Policy: كنت واحدة من هؤلاء الشباب الروس المبتهجين، الذين وقفوا وسط أنقاض الشيوعية، متطلعين إلى حياة خالية من الأيديولوجيا والقمع والكذب. في ذلك الوقت، بدا أنه بعد عقود طويلة من الانعطاف الشمولي، وجدت روسيا أخيرًا طريقها الحقيقي كدولة ديمقراطية حرة.

الآن أنا مضطرة لمراجعة افتراضاتي مرة أخرى حول ماهية روسيا وماذا ستصبح، كما آخرون، أجد صعوبة في رؤية أي ضوء في مستقبل روسيا بعد الحرب.

اقرأ أيضا: الصدام المباشر بين روسيا والغرب هو الطريق الوحيد للمفاوضات

تضيف: سألت مجموعة من الخبراء العسكريين وعلماء الاجتماع والصحفيين والاقتصاديين، الذين يحللون وضع روسيا، ويقدمون تصورات عن المستقبل.

اتفقت آراء كثيرين منهم، أن صورة روسيا كما عرفناها “أمة شبه أسطورية، أنقذت العالم من المغول والنازيين، وتحملت تجربة شيوعية، ثم أعادت توحيد نفسها مع الغرب” تلاشت، ولم تعد موجودة.

خارج المعايير

تصف أناستازيا الشعور بالضيق الذي تعاني منه البلاد بإنه بات عميقا ولن يتغير مسار البلاد الحالى على الأرجح “حتى لو خرج فلاديمير بوتين من المسرح السياسي”.

تقول: لقد تم تجاوز عدد كبير جدًا من الخطوط الحمراء، ونقاط اللا عودة.  صارت روسيا خارجة عن القانون، ومحكوم عليها بالفشل اقتصاديًا، ومفلسة أخلاقيا، لا تلوح نهايات طيبة، كما لو كانت البلاد عالقة في إعادة تمثيل حكايتها الشعبية الحزينة، وخيارات بطل الرواية ما بين أن يفقد حصانه أو حياته.

منذ وقت طويل بدأت روسيا الانحدار إلى الاستبداد، ولكن حتى 24 فبراير/ شباط 2022، شعر بوتين بأنه مضطر -على الأقل- للحفاظ على مظهر الديمقراطية المُدارة. لكن وكما يقول مارك فيجين، المعارض الروسي الذي يتتبع الحرب من خلال قناته الشهيرة على اليوتيوب، سرّعت الحرب انحدار روسيا من الحكم المطلق إلى دولة شمولية. ويمكن الان إغلاق الحريتين المتبقيتين للروس -القدرة على مغادرة البلاد والوصول إلى مصادر بديلة للمعلومات- في أي لحظة.

كما وصف ليف جودكوف، عالم الاجتماع البارز في موسكو ومدير آخر مراكز استطلاعات الرأي المستقلة في روسيا “مركز ليفادا”، نظام بوتين بأنه “شمولي يضم أدوات قمعية رئيسية من الاتحاد السوفيتي السابق، بما في ذلك ثلاث أدوات: قوة شرطة مسيّسة، ومحاكم تابعة، والرقابة الإعلامية”.

وإلى جانب هذا الملمح السوفيتي القديم تشير أناستازيا إلى أن هناك أشكال للانفصال الواضح عن الماضيه السوفيتي يتمثل أحدها في استعداد الكرملين للعمل دون معاييره الخاصة، وأي حدود قانونية.

تقول: روسيا اليوم هي بلد تجند المجرمين السابقين بعد العفو عنهم، وتزودهم وزارة الدفاع بالسلاح، ويتم التعامل معهم كأبطال ضمن مجموعة فاجنر/ Wagner Group سيئة السمعة، والتى اسسها يفجيني بريجوجين، هؤلاء فى الخطوط الأمامية. رغم ماضيهم الإجرامي.

إعادة ضبط العنف

تلفت المؤرخة الأمريكية- الروسية إلى أن الروس لم يتوقعوا الكثير من نظامهم القانوني الضعيف تاريخياً “لكن الآن يمكن معاقبتهم خارج المحكمة بطريقة تعود إلى العصور الوسطى”.

وتنقل عن رجل الأعمال المنفي ميخائيل خودوركوفسكي، أغنى رجل في روسيا قبل أن يسجنه الكرملين، قوله إن بوتين “أعاد ضبط قواعد اللعبة نحو العنف البحت”. وأن هذه “العدالة الوحشية” لا تحدها حدود روسيا أو خطوط ساحة المعركة.

تقول: في حال لم يكن واضحًا بالفعل تسميم أليكسي نافالني أو سيرجي سكريبال “منشقان”، فإن التورط المشتبه به للعملاء الروس في حملة الرسائل المفخخة الأخيرة -التي شملت أهدافها رئيس الوزراء الإسباني ووزيرة الدفاع والدبلوماسيين الأجانب- هو مؤشر آخر على أن روسيا سوف تلجأ إلى الإرهاب لتحقيق أهدافها، وهي السمة المميزة لدولة فاشلة.

وأضافت: مهما كانت روسيا التي ستظهر بعد الحرب، فلن تكون روسيا تشيخوف ودوستويفسكي. الدولة التي أثارت ذات يوم المثقفين الغربيين بسعيها الدائم للحصول على المعنى والقدرة على السمو. بل، ستكون دولة أمراء الحرب والمجرمين، حيث القوة هي الحجة الوحيدة، والجرائم ليست جرائم ما دامت من أجل الوطن الأم.

وتوضح أن الاستطلاعات -حتى وإن كانت غير دقيقة في بلد مثل روسيا- تشير إلى أن من بين 72% تحدثوا عن دعمهم للحكومة، فإن 20% إلى 25% مؤيدون للحرب. إما لأنهم اقتنعوا برواية بوتين، أو لأنهم مقتنعون بأن روسيا محاطة بالفعل بالأعداء.

وتلفت الانتباه إلى أن “الدعاية التي تصب يوميا من تلفزيون الدولة تستهدف تشكيل الإجماع الجماعي المنظم للحرب”.

تقول: مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، سيُطلب من الروس -ببساطة- أن يشدوا أحزمتهم أكثر، وأن يقدموا تضحيات من أجل “النصر العظيم” لروسيا. لكن، هذه التضحيات لن تكون صغيرة. كما وفى نفس سياق أزمة روسيا الاقتصادية، يحذر سيرجي جورييف، أستاذ الاقتصاد في ساينس بو في باريس، من التأثير الاقتصادي “الكارثي” للعقوبات الغربية على قطاع النفط والغاز الروسي، وهو القطاع الذي يمثل المصدر الرئيسي لتمويل الميزانية الفيدرالية.

ماذا عن النخب الروسية؟

تتساءل أناستازيا عن الفئة التي كانت أساليب حياتها الممتعة قبل الحرب -المليئة باليخوت والفيلات على الريفييرا الفرنسية- بعيدة كل البعد عن المطالب الصارمة التي فرضها رئيسهم.

تقول: لا يمكنهم أن يكونوا سعداء. ومع ذلك، لم تكن هناك استقالات حكومية رفيعة المستوى، أو انتقادات للحرب من هذه المجموعة. كما أن القلة الحاكمة صامتة، على الرغم من أن العديد منهم انتهى بهم الأمر تحت وطأة العقوبات الغربية.

ويقول جورييف: لقد فعل بوتين الكثير للتأكد من أنهم جميعًا يعرفون أنه قادر على ملاحقة أي نقص في الولاء. موضحا أنه تم اعتقال 12% من كبار المسئولين الروس خلال السنوات الست الماضية.

وتشير الكاتبة إلى أن “هذا الواقع يخلق نفس مزاج الخوف بين النخب كما هو الحال بين الناس العاديين”.

تضرب مثلا بالصحفي أركادي بابتشينكو والذي أوضح الأمر بشكل أكثر صراحة: “أي شخص يظهر معارضة سوف يسقط ببساطة من النافذة”، في إشارة إلى سلسلة من الوفيات غير المبررة لرجال الأعمال الروس على مدى الأشهر القليلة الماضية.

يضيف بابتشينك: يحكم بوتين روسيا كما لو كان يعبث بعصا تحكم. سوف تذهب أينما يقلبها.

في العام الذي أعقب الغزو الروسي تعرضت العديد من التماثيل والآثار للزعماء الروس والسوفييت للتلف أو إزالتها من الأماكن العامة في جميع أنحاء أوكرانيا- جون مور/ صور جيتي

اقرأ أيضا: بايدن يحشد في وارسو وبوتين يحتمي بموسكو

إذًا، هل تستطيع روسيا البقاء كدولة؟

العديد من الخبراء – وجزء متزايد من قادة العالم- لا يعتقدون ذلك، كما تشير أناستازيا.

يقول الجنرال هودجز وهو جنرال متقاعد خدم طويلا في أوروبا: “كان الكرملين دائما مبهما، لكن في الأيام الخوالي كنا نعرف من هم الثلاثة أو الأربعة القادمون. الآن، لا أعتقد أن أي شخص لديه ثقة في الشكل الذي سيبدو عليه تغيير النظام”.

إذا كان الانفصال وشيكا.. متى سيحدث؟

في تقييم للجيش الأمريكي قبل بضع سنوات، توقع ألكسندر فيندمان، المدير السابق للشؤون الأوروبية في مجلس الأمن القومي، تراجع روسيا على مدى عقود. الآن، قال إنه من الممكن أن نشهد بداية تفكك روسيا في السنوات الخمس إلى العشر القادمة.

درس فيندمان روسيا لسنوات. ولكن، حتى بالنسبة له “من الصعب الخروج من حدود فكرة أن روسيا ستكون دائمًا هناك، وأنها دولة دائمة”، على حد قوله.

في الوقت نفسه، إن أي سيناريو آخر له شرط مهم واحد: انتصار أوكرانيا وهزيمة روسيا.

تشير أناستازيا إلى أنه على الرغم من أن الهزيمة على المدى القصير -على الأرجح في السنتين أو الثلاث سنوات القادمة- لن تؤدي إلا إلى مزيد من القمع، إلا أنها ستضعف بوتين سياسيًا وتفتح إمكانية التغيير.

وأوضحت أن هذا لا يعني اندلاع ثورة “تخلى الشعب الروسي منذ فترة طويلة عن محاولات التأثير على حكومته. ولكن قد يكون الفصيل الأكثر اعتدالًا داخل النخبة الحاكمة الحالية في روسيا قادرًا على توجيه النظام نحو نسخة خفيفة من خروشوف. أو كفترة التحرير النسبي التي أعقبت إدانة إرهاب ستالين”.

ومع ذلك، ليس من الواضح إلى أي مدى ستكون نخبة بوتين حريصة على التخلي عن ثرواتهام أو حتى حريتها، حيث من المحتمل أن يواجهوا يومًا ما تهماً جنائية لتورطهم في حربه. مثلما كان بوتين ضامنًا لثروتهم، قد يكون حكمه هو فرصتهم الوحيدة لتجنب الاضطهاد.

يقول هودجز إن الخروج من هذه الحرب هو أمل بوتين الوحيد.

يوضح: اليوم، الدعم الغربي لأوكرانيا قوي. ومع ذلك، فليس من غير المعقول أنه إذا استمرت الحرب لفترة طويلة جدًا أن يستمر، فقد يضطر الغرب -في مرحلة ما- إلى معالجة القضايا المحلية أو الدولية الملحة الأخرى بدلاً من ذلك.

في هذا السيناريو الأقل تفاؤلا، ستضطر أوكرانيا المنهارة والمتهالكة للتفاوض. وسيُسمح لنظام بوتين بالبقاء وإعادة التجمع ومتابعة هدفه التالي.

نحو المستقبل

يبدو أن هناك ثلاثة مسارات متاحة لروسيا ما بعد الحرب تحت حكم بوتين أو من يخلفه: الانقسام إلى أجزاء أصغر، والتوجه أكثر نحو الاستبداد للحفاظ على ما تبقى، أو تحمل فترة طويلة من التراجع البطيء. وتؤكد الكاتبة الأمريكية أن القاسم المشترك في هذه السيناريوهات الثلاثة هو العنف.

تقول: يعني التفكك إعادة توزيع السلطة والأصول، وهو ما لن يحدث بشكل سلمي. إن الإمبراطورية الضعيفة التي عفا عليها الزمن، سواء في تجسدها الاستبدادي أو التدهور البطيء، تعني أن روسيا منفصلة عن أساطيرها التأسيسية وتكافح من أجل البقاء في مكان غير مظلم. هذا بعيد كل البعد عن روسيا التي كان يأمل الناس التي شكلتها البيريسترويكا.

وتؤكد أنه لا أحد -ليس أفضل الخبراء أو الدائرة الأعمق في الكرملين أو حتى بوتين نفسه- يمكنه أن يتنبأ بشكل قاطع بما إذا كان زوال روسيا نفسها سيأتي في شكل انفجار ضخم، أو اضمحلال بطيء، أو مزيج من الاثنين “ولكن بعد سنوات من استهلاك وتدمير كل الضوء في طريقها”.