ترجع أهمية الاتفاق السعودي الإيراني إلى أن تأثيره سيتجاوز الملفات العالقة بين إيران والسعودية، وحالات الاحتقان والمواجهات الأهلية التي تعرفها أكثر من ساحة عربية (اليمن لبنان العراق سوريا) وكانت ظلال الخلافات بين البلدين أحد الأسباب الرئيسية لتفاقم الصراع في المنطقة، بل وصل تأثيرها إلى القوى الكبرى المهيمنة على النظام الدولي.
واللافت أن الدول الثلاثة سواء من رعت الاتفاق أو التي وقعت عليه تشهد علاقتها شدا وجذبا مع الولايات المتحدة، فالتنافس الصيني الأمريكي متصاعد والتوتر بين إيران وأمريكا قائم. وجاء الفتور بين السعودية والولايات المتحدة ليجعل وقع الاتفاق على واشنطن كبيرا وخاصة على حضورها في الشرق الأوسط وعلى مستوى تنافسها مع الصين.
الصين المقلقة
شهدت علاقات واشنطن وبكين توترا كبيرا خلال الأشهر الماضية، زاد منه حادث اكتشاف منطاد التجسس الصيني فوق الأراضي الأمريكية وإسقاطه بطائرة عسكرية، ثم إعلان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلغاء زيارة لبكين كانت تهدف لإصلاح العلاقات.
وقد قرر مجلس النواب الأمريكي عقب تلك الحادثة تشكيل لجنة خاصة لمناقشة ما سماه “التهديدات الصينية” للولايات المتحدة، وفرضت الأخيرة قيودا على نشاط شركة هواوي الصينية ووضعتها على اللائحة السوداء لمنعها من حيازة تقنيات أمريكية تصنع بها الهواتف الذكية.
ورغم القيود التي فرضتها أمريكا وبعض حلفائها الغربيين على الشركة الصينية إلا أنها أصبحت حاليا واحدة من كبرى الشركات العالمية التي يعمل بها حوالي 200 ألف موظف وموجودة في 170 بلدًا.
وحققت الصين معدل نمو اقتصادي في الفترة من 2016 إلى 2019 أعلى من 6 بالمائة. كما ارتفع إجمالي الناتج الاقتصادي للصين من 70 تريليون يوان سنة 2016 إلى ما يقرب من 100 تريليون يوان قبل جائحة كورونا، لتحتل بذلك المرتبة الثانية في العالم من حيث الإجمالي الاقتصادي، صحيح أنها تعرضت لأول مرة إلي انكماش اقتصادي بسبب جائحة كورونا وصل معدل النمو في العام الماضي إلى 4.9 % إلا أنها مرشحة للعودة بقوة للمنافسة على الساحة الاقتصادية وفتح أسواق جديدة لتستمر كمنافس رئيسي للولايات المتحدة الأمريكية.
وقد عزز من حده التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بين البلدين ارتفاع درجة التوتر السياسي والعسكري حول تايوان، فقد تصاعدت حدة الصراع عقب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة “نانسي بيلوسي” إلى تايوان وهي الزيارة التي انتقدتها بحدة الحكومة الصينية واعتبرتها تهديدا لأمنها القومي ولمبدأ الصين الواحدة.
الصين لا تمثل فقط قوة اقتصادية صاعدة إنما أيضا نموذج منافس للولايات المتحدة، وأن رعايتها للاتفاق السعودي الإيراني تمثل خطوة مهمة من أجل تعزيز حضورها كنموذج قادر على التأثير في العالم ورعاية اتفاقات دولية بين بلدين تصور كثيرون أن المشاكل بينهما لن تنتهي.
مؤشرات كثيرة تعطي فرصًا للصين لأحداث مزيد من الحضور الدولي، فهناك النجاحات التكنولوجية والاقتصادية، واقتحام أسواق جديدة وخاصة في إفريقيا، وهو ما سيعني أن التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين سيستمر، وسيعني من جانب آخر استمرار التنافس بين النظام المركزي المنضبط والذي يروج لنفسه باعتباره قادرا على الإنجاز السريع وتحقيق معدلات تنمية مرتفعة ولو على حساب حرية الفرد، وبين النظم الديمقراطية الليبرالية التي تعتبرها الرؤية المركزية الصينية تضعف المجتمع ولا تساعد على الإنجاز.
كل نجاح اقتصادي أو دبلوماسي تحققه الصين هو نجاح ليس فقط لدولة منافسة للولايات المتحدة إنما هو نجاح “لنموذج منافس” من حيث منظومة القيم والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي، مما يجعل وقع الرعاية الصينية للاتفاق بين السعودية وإيران أكبر بكثير من رعاية أي دولة أخرى له.
السعودية وإيران وأمريكا
بعد أن توقفت مفاوضات فينا حول الملف النووي الإيراني بين طهران والدول الكبرى الست، بدأت إيران في تطوير بحوثها النووية، حتى بلغت نسبة تخصيب اليورانيوم 83.7 %، أي أقل بقليل من 90 % اللازمة لإنتاج قنبلة ذرية.
وقد رعت الولايات المتحدة من خلال الإدارة الديمقراطية الجديدة مسار العودة للاتفاق النووي وهو ما تعثر، وصارت إيران أكثر من أي وقت مضى على عتبة امتلاك قنبلة نووية وهو ما دفع وزير الدفاع الأمريكي لزيارة إسرائيل من أجل تبادل المعلومات الاستخبارية حول طرق منع إيران من تطوير برنامجها النووي بكل الوسائل بما فيها الخشنة.
كما مثلت حرب أوكرانيا قضية خلافية أخرى بين واشنطن وطهران بعد تزويد إيران لروسيا بمسيرات دون طيار وهو ما كان له أثر كبير في ساحة القتال، مما أغضب الولايات المتحدة ودفعها لفرض مزيد من العقوبات على إيران، والتنديد بعلاقاتها العسكرية مع روسيا.
يقينا الوضع الحالي يقول إن العلاقات بين إيران وأمريكا في وضع متدهور وأن الرعاية الصينية جاءت لاتفاق بين دولتين أحدهما في حالة صراع مستمر مع أمريكا أي إيران، والثانية عرفت علاقتها معها فتورا واضحا، وشهدت مؤخرا العديد من الخلافات سواء فيما يتعلق بالتعاطي الأمريكي مع ما اعتبرته السعودية في وقتها التهديدات الإيرانية لها، أو بسبب إعلان تحالف “أوبك بلس” في العام الماضي تخفيض إنتاج النفط بمقدار مليوني برميل يوميا، أي ما يعادل حوالي 2% من الطلب العالمي، رغم مناشدات الإدارة الأمريكية بتأجيل قرار خفض إنتاج النفط إلا أن السعودية أصرت على موقفها.
رسالة الرياض من هذا الاتفاق تقول إنها تسعى لتثبيت أركان قوتها عربيا وإقليميا ودوليا بتوجيه رسالة “بعلم الوصول” بأنها ليست قاصرا وإنها يمكن أن تُدخل المنطقة في ترتيبات أمنية وسياسية جديدة برعاية صينية وخارج المظلة الأمريكية.
خسرت أمريكا رهاناتها على إعادة دمج إيران وترويضها عبر الرعاية والشروط الأمريكية كما أنها لم تقنع السعودية بأنها حليف يعتمد عليه في مواجهة التهديدات الإقليمية، فوجدنا القوة العظمى الثانية أي الصين ترعى اتفاقا ربح فيه الجميع “المتفقان” والراعي وخسرت فيه الولايات المتحدة.