“ألَّا تتساءل ، ألَّا ترتجف مع اشتهاء التساؤل والفرح به.. لهو ما أشعر أنه أمر حقير. وهذا الشعور هو الشيء الأول الذي أبحث عنه في كل إنسان”، هكذا تحدث الفيلسوف الألماني “فريديريك نيتشه” في وصف أهمية التساؤل لدى المُفكر بمقالاته المنشورة بكتاب “جينيالوجيا الأخلاق”. والجينيالوجيا Genealogy كما يقول الكاتب الأردني سعود الشرفات، هي كلمة من أصل إغريقي وتعني “دراسة شجرة العائلة” بمعنى آخر دراسة الأنساب، أما من ناحية اشتقاقية فهي تعني “البحث عن النشأة والتكوين والوقوف عند الأصل”.

لكن استخدامها المعاصر تعدى للبحث في أصل الأشياء ومعظم الظواهر الإنسانية والقيم، ولذلك دخلت الكلمة إلى الكثير من حقول الدراسة فهناك جينيالوجيا الأخلاق، والسياسة، والحقيقة، والعنف، والدين. كان نيتشه يُصنف المُفكرين إلى فئاتٍ ثلاث وفق درجة عمقهم في فحص معضلات الواقع: المُفكرون الظاهريون الذين يتأملون في معضلةٍ ما، فيقتصر تأملهم على النظر إليها من خارجها دون النفاذ إلى أعماقها، والمُفكرون المُتعمقون الذين يتجاوزون التأمل في المعضلة من الخارج إلى البحث في أعماقها لكنهم لا يصلون إلى مستوى من العمق يضعون فيه يدهم على أساس المعضلة الحقيقي، والمُفكرون الأعمق وهم الأكثر دأبًا فلا يملون أو يخشون مزيدًا من النفاذ حتى يصل بهم عُمق البحث إلى أساس المعضلة، ولقد كان المرحوم الدكتور فؤاد زكريا الذي حلت ذكرى وفاته الثالثة عشر يوم السبت الماضي واحدًا من أساتذة الفئة الأخيرة. وفي هذه المُناسبة، وجدت أن محاولةً للكتابة عنه هي مطلوبة بشدة لرد الاعتبار، لا للرجل العظيم فقط، ولكن أيضًا لمنهج العقل الذي خَفُت صداه لدينا شيئًا فشيئًا إلى أن تَوارَى مُتراجِعًا أمام ثقافة الخرافة والدجل التي تجاوزها تاريخ الإنسانية بسنوات ضوئية.

كان هاجسه -رَحِمَه الله- هو تبديد الأوهام التي خَلَفَها غياب العقل العربي لقرون عديدة ترسخت فيها أساطير أفضت إلى بيئة ثقافية شديدة البؤس. ورغم إقرار الدكتور فؤاد زكريا بغياب العقل الذي وضع المجتمعات العربية في مآزق تاريخية عديدة نتج عنها كثير من المواقف الارتدادية والممارسات الجاهلية، إلا أنه -لاستقامة فكرية كان دومًا ينشدها- تعرض أيضًا لازدواجيةِ ونفاقِ الكثيرين من مُثَقفي الغرب في نقدهم لهذه المواقف وتلك الممارسات بينما رَحَبوا أو على الأقل صمتوا أمام ذات الأفعال بل وما هو أبشع منها حين مارستها مجتمعاتهم. فكما تناول بدراساته العديدة في نقد البناء الفكري للإرهاب بالحركة الإسلامية المعاصرة، قدم أيضًا نقدًا لاذعًا للمنتجات الثقافية لبعض مُفكري الغرب الذين أفلحوا من خلال ما أسماه “نفاق الأخلاق الشائعة”، “في طمس أكبر عملية إرهابية بُنِىَ عليها تاريخ الولايات المُتحدة نفسها، وهي إبادة شعب كامل مسالم هو شعب الهنود الحُمر، وجلب الزنوج كعبيد من إفريقيا، واستخدامهم بالسخرة في تشييد أسس الرخاء والثراء الأمريكي”*.

كما أورد في مقدمة كتابه “التفكير العلمي”، توقف الدكتور فؤاد زكريا أمام أمرين بالغي الأهمية حول موقفنا من العلم في الماضي والحاضر. فبعد أن بدأ تراثنا العلمي بداية ناضجة سبقنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة، إلا أننا مازلنا حتى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمي وبديهياته الأساسية وما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وقوانينها الثابتة، أم العكس. أما الأمر الثاني الذي أشار إليه الدكتور فؤاد، هو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمي المجيد، ولكننا في حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة، ليقول نصًا: “من الجلي أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ: إذ أن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية القديمة أن يكون نصيرًا للعلم، داعيًا إلى الأخذ بأسبابه في الحاضر، حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التي بلغناها في عصر مضى. أما أن نتفاخر بعلم قديم، ونستخف بالعلم الحديث ونحاربه، فهذا أمر يبدو مستعصيًا على الفهم.”

حدد الدكتور فؤاد زكريا خمس سمات للتفكير العلمي شملت “التراكمية” بمعنى أن الحقيقة العلمية لا تكف عن التطور ومهما بدا أن العلم قد وصل في موضوع ما إلى رأي نهائي مستقر فإن التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد، و”التنظيم” بمعنى أننا لا يجب أن نترك لأفكارنا العنان عشوائيًا حيث ينبغي ترتيبها وتنظيمها عن وعي، و”البحث عن الأسباب” حيث لا يكون النشاط العقلي علمًا إلا إذا إستهدف فهم الظواهر وتعليلها ولا تكون الظاهرة مفهومة إلا بالتوصل إلى معرفة أسبابها، و”الشمولية واليقين” فالشمولية تعني أنها تسري على جميع أمثلة الظاهرة التي يبحثها العلم ولا شأن لها بالظواهر في صورتها الفردية، أما فيما يتعلق باليقين فقد فَرَّق الدكتور فؤاد زكريا بين اليقين الذاتي وهو الشعور لدى الفرد بأنه متأكد من شيء ما وعادة ما يكون ذلك الشعور مُضلِلًا واليقين الموضوعي الذي يرتكز على أدلة منطقية لأي عقل وهو في سبيل ذلك لا بد أن يتخلص من كل أنواع اليقين الذاتية، و”الدقة والتجريد” استخدامًا لوسائل القياس الكمية لا الكيفية مع التعامل معها بصورة مجردة لا وصفية لأشياء بعينها.

أوْلَى الدكتور فؤاد زكريا “للأسطورة والخرافة” اهتمامًا كبيرًا باعتبارها عقبة كئود في طريق التفكير العلمي حيث كانت “الأسطورة” تقدِم -في إطار بدائي- تفسيرًا “متكاملًا” للعالم إذ كانت بديلًا للعلم في عصور طفولة البشرية، أما “الخرافة” فتقوم على إنكار العلم ورفض مناهجه بمعنى اللجوء في عصر العلم إلى أساليب سابقة على هذا العصر لتفسير الظواهر وهي على هذا الأساس تصير جزئية علي عكس الأسطورة التي تتصف بالتكامل. أرجع الدكتور فؤاد زكريا سبب احتفاظ الفكر الأسطوري بمكانته إلى استمرار ذلك النوع من التعليل “الغائي” للظواهر الطبيعية أي تفسير تلك الظواهر من خلال “الغايات” التي تحققها للبشر بما أوقع الفكر البشري في مأزق إعاقة تطوره حين تصور أن التفسير الحقيقي للظواهر الطبيعية يكمن في تلك الغايات.

وفي هذا السياق أشار الدكتور فؤاد إلى أن الغايات تقوم بدور أساسي في عالم الإنسان السلوكي لا في تفسير الظواهر الطبيعية فالإنسان مثلا يطهو الطعام لكي يأكل لكن للظواهر الطبيعية شأن آخر يرتبط بالأساس بأسباب موضوعية لو توافرت فإن حدوث تلك الظواهر سيكون أمرًا حتميًا. كان الدكتور فؤاد زكريا يرى أن فهم الإنسان لقوانين الطبيعة من خلال العلم (بعيدًا عن الغائية) يتيح للإنسان سيطرة حقيقية على ظواهرها ويمَكّنه من تغيير مجرى حوادثها لصالحه بما يجعله يقف منها موقفًا إيجابيًا فاعِلًا.

خاض الدكتور فؤاد زكريا معارك فكرية عديدة استخدامًا لمنهجٍ عقليٍ رصينٍ لم يَحِد عنه يومًا، إلا أن معركتين كانتا هما الأشهر في تاريخه، أو هكذا أظن: معركة نقده لكتاب “خريف الغضب” للمرحوم محمد حسنين هيكل التي وَثّقها في كتاب “كَم عُمْر الغضب”، ومعركة نقده للبنية الفكرية لتيار الإسلام السياسي التى وَثّقها في كتاب “الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة”، وسأتعرض لهما في الجزئين القادمين من هذا المقال -بقراءةٍ أحرص على أن تكون موضوعية- لوضوح ارتباطهما بمنهج البحث الذي تبناه الرجل فخاضهما وحيدًا غير آبهٍ إلا بما تفضي إليه النتائج من استنباطات يقبلها العقل.

*الصفحة 101 من كتاب “خطاب إلى العقل العربي”- طبعة 1990 عن دار مصر للطباعة.