على مدار 15 عام، كان كسب الوقت هدفا استراتجيا لاسرائيل فى صراعها مع الفلسطينيين، هذا بجانب إنشاء وضع أمني هادئ لأطول فترة ممكنة. مكن ذلك تل أبيب من إدارة الصراع دون سعى للتوصل إلى اتفاق، كما تبنى البعض فكرة “تقليص الخلاف” وهي وسيلة لكسب الوقت أيضا، وتأجيل قرارات ثقيلة. ومن أهمها “كيفية إزالة العبء الفلسطيني عن دولة إسرائيل”.

لكن، كسب الوقت شكل عامل حاسم في اتجاه الانزلاق البطيء، نحو واقع دولة واحدة بين البحر المتوسط ونهر الأردن.

فى المشهد اربع عناصر افقدت الثقة فى امكانية التوصل لحل الدولتين سواء لدي صانع القرار أو  الجمهور الإسرائيلي

يشير تحليل حول واقع الساحة الفلسطينية، أجراه عدد من خبراء معهد دراسات الأمن القومي/ INSS، ويضم  متخصصون في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، إلى مشهد  العام الماضي، والذى اتسم  بتصاعد العنف وتطرف الخطاب من  قادة الجانبين وعجزهم عن التوصل إلى اتفاق، مما شكل حالة جمود، ومشهد  سياسي  مغلق، وأرض خصبة لتصعيد العنف، وهي نتيجة حتمية لفشل متكرر يعيق  التوصل إلى اتفاق شامل.

فى المشهد اربع عناصر افقدت الثقة فى امكانية التوصل لحل الدولتين سواء لدي صانع القرار أو  الجمهور الإسرائيلي، أولا  انقسام في المعسكر الفلسطيني بين فتح وحماس، ثانيا  الرواية الإسرائيلية بغياب شريك فلسطينى، وثالثا الضعف المتزايد للسلطة الفلسطينية وتخفيف سيطرتها على أراضيها، واخيرا موجات الاشتباكات العنيفة.

اقرأ أيضا: إصلاحات من كتاب الاستبداد.. نتنياهو ينهي ديمقراطية الإسرائيليين ويُجهز على حقوق الفلسطينيين

عنف متزايد

شهد العام الماضي تصاعد هجمات المقاومين الفلسطينيين، لا سيما في الضفة الغربية، مما تسبب في وقوع أكبر عدد من الإسرائيليين في السنوات العشر الماضية، أعلن الجيش الإسرائيلي عن 300 هجمة في عام 2022، وهو معدل أكثر بثلاث مرات من العام السابق.

يؤكد التحليل أن التحدي الرئيسي اليوم هو التهديد الأمني المتزايد في شمال الضفة الغربية، والذي قد يمتد إلى القدس وأماكن أخرى.

وفقًا لمكتب تنسيق الشؤون الإنسانية قُتل 31 إسرائيليًا، 154 فلسطينيًا في مواجهات مع قوات الجيش الإسرائيلي خلال 2022، كما أحبطت قوات الأمن الإسرائيلية 330 عملية إطلاق نار، و54 عملية طعن، و30 محاولة لوضع عبوات ناسفة.

تنبع موجة العنف من عملية تفكك السلطة الفلسطينية، وفقدان شرعيتها بين الجمهور الفلسطيني، وتلاشي الأمل في إنهاء الاحتلال.  ويفاقم العنف عجز قوات الأمن الفلسطينية، وافتقارها إلى الدافع لمنع الهجمات، بسبب صورتها بين الجمهور الفلسطيني كمتعاون مع جيش الاحتلال. يساهم في تزايد الهجمات توافر الأسلحة -سواء مسروقة في إسرائيل أو مهربة من الأردن- وتمجيد الشهداء والمقاومة.

وحتى الآن لم يتسع النزاع إلى انتفاضة شعبية شاملة، لأن إسرائيل امتنعت عن العقاب الجماعي. وسمحت، بل وزادت، عدد العمال الفلسطينيين في إسرائيل.

ما بعد عباس

يلفت التحليل إلى أن الساحة الفلسطينية تعيش بالفعل في فترة «اليوم التالي لعباس»، بينما الصراع الداخلي على الخلافة يحرك عمليات التصعيد.

ويلفت إلى أن “الحوكمة المحدودة للسلطة الفلسطينية، والتي انعكست في عدم رغبتها في تحمل مسؤولية أمنية فى بعض النقاط المحورية دفعت الجيش الإسرائيلي إلى القيام بعمليات واسعة النطاق (فى الضفة) بدون تنسيق أمني مع السلطة الفلسطنية، وأحيانًا تنطوي على مقاومة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتسبب في تصاعد التوتر مع السكان الفلسطينيين”.

في الوقت نفسه، تعزز حماس قوتها في قطاع غزة، وتكتسب قوة في الصراع للسيطرة على القطاع، رغم أنها لا تتمتع بشرعية من سكان غزة

من وجهة نظر إسرائيل، لا يوجد بديل حالي لحكم حماس في غزة، بسبب عدم وجود قيادة أكثر اعتدالًا ومسؤولية يمكن أن تتولي زمام الأمور. بل، عمليا، تعترف إسرائيل بحماس وتساعدها جزئيًا، من خلال السماح بإعادة اعمار البنية التحتية في القطاع والسماح لعماله بتصاريح عمل في إسرائيل، وتخفيف الإغلاق، وتوسيع التجارة من وإلى القطاع.

لكن، تخشى إسرائيل من شن حملة عسكرية شاملة ضد الجناح العسكري لحركة حماس بسبب الخسائر الفادحة المحتملة، والقلق من التعثر في غزة بمرور الوقت، وعدم قدرة السلطة الفلسطينية نفسها -وعدم رغبتها- في العودة إلى القيادة هناك.

يقول التحليل: لقد استغلت حماس ذلك، لا سيما حقيقة أنها لم تضطر لدفع ثمن تشجيعها وعملها للإرهاب في القدس والضفة الغربية، واستمرارها في ترسيخها في غزة، وتقويضها لمكانة السلطة الفلسطينية، باعتبارها الطوق السياسي لقيادة الساحة الفلسطينية كبديل لحركة فتح.

أيضا، في الوقت الحالي، تبدو مدينة القدس شديدة التقلب، ويتم التركيز على الصراع على السيادة في الحرم القدسي الشريف. إن العدد المتزايد لاقتحامات اليهود الحرم الشريف في السنوات الأخيرة -وبعضهم يصلون في صمت أو علانية- يترجم من الجانب الإسلامي على أنه اجتياح للمسجد الأقصى.

يؤكد التحاليل أن هذا بدوره يحفز الكثيرين الذين يرون أنفسهم على أنهم مدافعون عن الأقصى -وخاصة شباب القدس الشرقية- والمصالح الإسلامية في الحرم القدسي الشريف.

عدد الضحايا الإسرائيليين نتيجة هجمات المقاومة الفلسطينية من 2015-2022

اقرأ أيضا: مخاوف إسرائيلية من تداعيات أزمة مصر الاقتصادية

سيناريوهات محتملة

يلخص التحليل السيناريوهات المحتملة في العام القادم إلى عدة نقاط، أبرزها تصاعد أعمال العنف والفوضى خاصة في الضفة الغربية، وانتفاضة شعبية قد تصل إلى حد انتفاضة شعبية مسلحة. واستمرار إضعاف السلطة الفلسطينية، إلى أن تفقد السيطرة والنفوذ على الضفة الغربية، مع تدهور مستمر ومتسارع لشرعية فتح وحماس في أوساط الجمهور الفلسطيني. وترسيخ معسكر متنامٍ من الجماعات أو النشطاء دون انتماءات تنظيمية.

أيضا، قد تستمر حماس في اكتساب القوة، وتحقق إنجازات سياسية في غزة على خلفية عمليات إعادة الإعمار، وتنجح في جذب الشباب الفلسطيني الساعين إلى تحدي إسرائيل تحت مظلتها. مع تقويض الاستقرار في أراضي السلطة الفلسطينية.

وفي ضوء التطورات المتزايدة مع نهاية عهد عباس، قد يحدث تدخل دولي للمطالبة بانتخابات المجلس التشريعي ورئاسة السلطة الفلسطينية، بما في ذلك السماح بالتصويت في القدس. السيناريو المتفائل هنا هو انتقال منظم للقيادة واستمرار عمل السلطة الفلسطينية، على الأقل في مستواها الحالي. السيناريوهات الأخرى سلبية، من صراعات القيادة المستمرة، إلى تطور الفوضى، أو انهيار السلطة.

كذلك، قد تتجدد المصالحة الفلسطينية الداخلية بين فتح وحماس، والتي بدأت مؤخرا تحت عنوان “الوحدة”، بعد تشكيل الحكومة اليمينية في إسرائيل. ويرى التحليل أن عباس، الذي أصر على مبدأ “سلاح واحد، قانون واحد، سلطة واحدة”، يمكن أن يوافق -بما يخالف رفضه السابق- على تشكيل حكومة وحدة، بسبب الضعف الحالي للسلطة الفلسطينية.

اللعب مع السلطة

ينصح محللو المعهد صناع القرار في الدولة العبرية بأن يتم التعامل في وقت واحد مع اتجاهين خطرين يعزز كل منهما الآخر.

يقول التحليل: على المدى القصير، هناك زيادة لاحتمالية اندلاع العنف المسلح في الساحة الفلسطينية. بعد تطورات عام 2022 واستجابة للمبادئ التوجيهية الأساسية للحكومة الجديدة.

اما على المدى المتوسط والطويل، الانزلاق إلى واقع الدولة الواحدة، والذي لن يسمح لإسرائيل بالانفصال عن الفلسطينيين في المستقبل، أو ممارسة الفرص للتوصل إلى اتفاق سياسي.

لذلك، يجب أن يرتكز النهج الاستراتيجي الإسرائيلي على فرضية أن إسرائيل تتعامل مع كيانين فلسطينيين متميزين ومتنافسين ومنفصلين

“لقد فقد الهدف الذي تمت صياغته في الماضي -إعادة غزة إلى السلطة الفلسطينية- أهميته، لأن السلطة في صراعها مع حماس، غير قادرة وغير راغبة في تحمل عبء غزة”.

أيضا، لا بد للجانب الإسرائيلي من محاولة وقف حل السلطة الفلسطينية، مع تعزيزها واستقرارها والحفاظ على تفوقها على حماس

“يجب أن تقر الحكومة الإسرائيلية الجديدة بأن الجهود المبذولة لتحييد التهديدات الأمنية الفورية لن توفر سوى استجابة مؤقتة وجزئية. في غضون ذلك، تتصاعد احتمالية حدوث تصعيد، ومع مرور الوقت ستكون هناك حاجة إلى تغيير استراتيجي أساسي في مواجهة السلطة الفلسطينية”.

كذلك، من الناحية العملية، يجب أن تستمر الحكومة الإسرائيلية في الحفاظ على قنوات التنسيق المتنوعة مع السلطة، ولا سيما التنسيق الأمني. ولمنع انتفاضة شعبية، يجب على إسرائيل الحفاظ على نسيج الحياة المدنية، والامتناع عن سياسة العقاب الجماعي الذى  قد يؤدي إلى تفاقم المصاعب الاقتصادية، وزيادة الإحباط -خاصة بين الشباب- وتقويض رغبة الأمن الفلسطيني للتعاون.

ومن منظور طويل الأمد، يشير التحليل إلى أهمية إيقاف الانزلاق نحو واقع الدولة الواحدة. فوفقًا لمسح المعهد الوطني للإحصاء، يعارض حوالي 80% من مواطني إسرائيل دولة ثنائية القومية. وكذلك تهيئة الظروف في الضفة الغربية للفصل السياسي والجغرافي والديموغرافي بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. حيث تظهر الاستطلاعات نفسها أن أكثر من 60% من مواطني إسرائيل يؤيدون حاليًا الانفصال عن الفلسطينيين.

عدد الفلسطينيين الذين قتلوا على أيدي قوات الاحتلال الإسرائيلي في الفترة من 2015-2022

اقرأ أيضا: في ظل حكومة صهيونية متطرفة.. مهام الوساطة المصرية باتت أكثر تعقيدًا

احتواء الموقف

فيما يتعلق بحماس، يلفت التحليل إلى أهمية استمرار التفاهمات حول التهدئة في غزة “في هذا الإطار، على إسرائيل دفع مشاريع توريد الغاز الطبيعي وتحلية المياه والصرف الصحي ومراكز التوظيف، ومواصلة دخول عمال غزة إلى إسرائيل مقابل هدوء الوضع الأمني وامتناع حماس عن الإرهاب في القدس والضفة الغربية”.

ومن اجل تعزيز التهدئة، من الضروري تعميق التدخل المصري في غزة “يجب إشراك القيادة المصرية، بموافقة إسرائيلية، لبناء ميناء على الحدود بين مصر وغزة. في ظل عملية مصرية- فلسطينية ومع عمليات تفتيش دولية، ووضع مصر كدولة تربط بين غزة ودول الخليج، بما في ذلك تحويل الأموال القطرية إلى غزة عبر مصر وتحت إشرافها -اليوم يتم تحويل ثلث المبلغ فقط عبر مصر- ويمكن لمصر تجنيد دول الخليج لمشاريع البنية التحتية في غزة، واستخدامها للتأثير على حماس”.

في الوقت نفسه، يؤكد التحليل أنه من الضروري التحضير لحملة عسكرية لتحييد قدرات حماس الاستراتيجية “صواريخ، طائرات بدون طيار، قدرات سيبرانية، بنية تحتية تحت الأرض”.

أيضا، هناك حاجة إلى إجراءات اقتصادية لتطوير الاقتصاد الفلسطيني باتجاه الانفصال. مثل العمل على ربط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصادات الأخرى في المنطقة، بغرض تقليل الاعتماد على الاقتصاد الإسرائيلي.

هنا، يوضح التحليل أن “العمل في إسرائيل ضروري للاقتصاد الفلسطيني ويساهم في رفع مستوى المعيشة، ولكنه يقوض مكانة السلطة الفلسطينية في خلق أماكن العمل وتحصيل الضرائب”.

يقول: على المدى الطويل، من الضروري تعزيز الإنتاج الفلسطيني. بما في ذلك عن طريق تقليص العمل في إسرائيل، وزيادة قدرة السلطة الفلسطينية على اتخاذ القرار فيما يتعلق بسياستها الاقتصادية.

الأهم، هناك حاجة إلى اهتمام خاص لإدارة الأحداث في القدس، وكبح مصادر التوتر، واحتواء تفشي العنف، وتنظيم نسيج الحياة الذي يتقاسمه السكان اليهود والفلسطينيين “يجب على إسرائيل أن تقرر ما إذا كانت ستعود إلى تفاهمات الوضع الراهن، أو أن تسعى جاهدة لتشكيل تفاهمات جديدة مع الأردن. أو بدلاً من ذلك، لخلق حقائق جديدة على الأرض عند المسجد الأقصى والتعامل مع العواقب.