لا يمكن الجزم بأن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران سينهي الصراع الدائر في اليمن منذ نحو 9 سنوات بين الحكومة الشرعية وجماعة الحوثي، وإن كان للاتفاق ارتدادات سياسية قد تترجم في هدنة طويلة الأجل توقع الأطراف المتحاربة على بنودها بعد توافق الرياض وطهران.
ورغم ترحيب طرفي الصراع اليمني بالاتفاق الأخير الذي تم بين القوتين الإقليميتين بعد سنوات من التوترات والقطيعة، ألا أن شبح امتداد الحرب الأهلية في هذا البلد المنكوب إلى مدى غير منظور لا يزال يلوح في الأفق، فالشروخ التي أحدثتها وقائع تلك الحرب يصعب جبرها حتى ولو توافقت إرادات القوى الخارجية المحركة لها.
قد يكون مفتاح الحل الأزمة اليمنية خارج حدود اليمن، لكن ما أن يفتح الباب سيصدم الجميع بتعقيدات أعمق من أن يتم حلحلتها بتوافق من أججوا النار في البيت اليمني، فالتشوهات التي طالت جسد اليمن أعمق من أن تداويها تعهدات وتوافقات إقليمية، وتحتاج إلى معجزة لتطبيبها وعلاج آثارها.
لم ينعم اليمن السعيد طوال تاريخه الحديث بأي قدر من الاستقرار، فالصراعات السياسية والمناطقية والقبلية لم تتوقف، وزاد من الطين بلة النزعة المذهبية التي عادت لتطل برأسها بعد أن خرج الشعب اليمني قبل 12 عاما للثورة على الاستبداد والفساد والمطالبة بالحرية والديمقراطية، فإذ به يسقط في فخ حكم جماعة مذهبية حولت أحلام الثورة إلى كوابيس، فيما دفع تدخل القوى الإقليمية البلاد إلى حافة الهاوية.
تمكنت جماعة الحوثي من فرض واقع سياسي جديد في اليمن، إذ سيطرت قواتها المدعومة من إيران على معظم محافظات شمال البلاد وعملت ولاتزال على إخضاعها وتغيير الهوية الثقافية والدينية لسكانها، كل ذلك حصيلة عوامل عدة؛ منها ما يتعلق بالتنافس الذي بلغ حد الصراع بين مكونات الحكومة الشرعية اليمنية التي لم تتمكن خلال السنوات الثماني الماضية من التوافق على أجندة عمل وطني موحدة، ومنها ما يخص أزمة التنافس على المصالح وفرض النفوذ بين داعمي “الشرعية” الإقليميين- السعودية والإمارات-.
استغلت الجماعة العقائدية التي تدعي الحق الإلهي في الحكم، الفراغات التي نشأت في بنية الحكم وحققت مكاسب سياسية واقتصادية وعسكرية استراتجية أبعد بكثير مما كانت تخطط له عند انقلابها على السلطة الشرعية وخرقها لاتفاق “السلم والشراكة” الذي رعته الأمم المتحدة في سبتمبر 2014.
يتعامل الحوثيون مع المناطق التي قضموها من ربوع اليمن ليس باعتبارها فقط دولة آلت إليهم بنظامها السياسي ومؤسساتها الدستورية القائمة، بل على أنها المملكة الإمامية الزيدية التي تمكنوا من استردادها بعد أن نزعتها ثورة 26 سبتمبر 1962 من أجداداهم.
وضع “أنصار الله” نظاما سياسيا خاصا يخلط بين ما كان سائدا في المملكة المتوكلية القديمة والأسس والمبادئ والنظم الحاكمة للجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تلقى أبناء الحوثي تعاليمهم وتدريباتهم فيها خلال العقد الأخير.
يترأس الدولة نظريا مهدي المشاط، لكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا إلا بعد توجيه مباشر من قائد الثورة عبد الملك الحوثي، الزعيم الأعلى للحركة وقائد الثورة، ولا يمكن أن يصدر قرار إلا بعد العودة إلى مدير مكتبه أحمد حامد الذي يلقبه اليمنيون بـ”رئيس الرئيس” والممثل المباشر لقائد الثورة.
وكما تمكن الحوثيون من تأسيس جيش كبير وضمنوا لأفراده رواتب سخية، صنعوا أيضا- منذ سيطرتهم على الشمال اليمني- نظاما موازيا للمؤسسات الرسمية للدولة، يضم شبكة من الأفراد المخلصين عرفوا بـ”المشرفين”. فلكل مؤسسة حكومية مدنية كانت أم عسكرية مسئولا رسميا، لكن صاحب النفوذ الحقيقي هو “المشرف العام” ويندرج تحته عدد من المشرفين يتم اختيارهم من قبل عبد الملك الحوثي ويعملون تحت سلطة اللجنة الثورية، وهؤلاء المشرفون هم من يصدرون القرارات والتوجيهات للوزراء والمحافظين والمسئولين أيا كانت مواقعهم.
خلق هذا النظام الجديد شبكة من أصحاب المصالح يصعب على أي اتفاق تفكيكها طواعية لتقاسم السلطة والنفوذ مع الفصائل اليمنية الأخرى التي صار لمعظمها ولاءات وحسابات ترتبط في الأساس بقوى خارجية لها مصالح وأجندات لا تتوافق عادة مع مصلحة الشعب اليمني.
في المقابل، استغلت بعض الأطراف السياسية في جنوب اليمن الأحداث التي جرت في الشمال وشرعت في تأسيس هيكل دولة انفصالية على غرار الدولة الجنوبية التي دخلت تحت عباءة الوحدة مطلع تسعينيات القرن الماضي، وعزز تمدد النفوذ الإماراتي في الجنوب اليمني من النزعات الانفصالية، إذ دعمت أبوظبي (تمويلا وتسليحا) مجموعات وقيادات جنوبية، وينتظر هؤلاء الفرصة للإعلان عن عودة دولة الجنوب، وهي إشكالية أخرى توضع في حسابات مستقبل اليمن.
ويتوقع مراقبون يمنيون أن ينتج عن الاتفاق السعودي الإيراني “تسوية شكلية” للصراع اليمني، بمعنى أن تبقى الأوضاع على ما هي عليه “ما تحت يد الحوثيين يظل خاضعا لسيطرتهم وما تحت سيطرة خصومهم يبقى كذلك مع التوافق على هدنة طويلة الأمد”، ويفتح هذا السيناريو الباب لتفجر الأوضاع مجددا في أي لحظة.
وكالة “أسوشييتد برس” الأميريكية، نقلت عن الباحث المقيم في معهد دول الخليج العربية بواشنطن (AGSIW) حسين إبيش قوله إنه “من المحتمل جدا أن تلتزم طهران بالضغط على حلفائها في اليمن ليكونوا أكثر استعدادا لإنهاء الصراع في ذلك البلد، لكننا لا نعرف حتى الآن ما هي التفاهمات التي تم التوصل إليها من وراء الكواليس”.
وعن الهدنة التي تم التوافق عليها في أبريل 2022 برعاية أممية وجرى تمديدها أكثر من مرة حتى الثاني من أكتوبر الماضي عندما رفض الحوثيون تجديدها ببنود إضافية ومدة ستة أشهر، يقول مصدر دبلوماسي يمني لصاحب تلك السطور: “من المتوقع أن ينتج عن الاتفاق السعودي الإيراني إعلان أممي عن اتفاق سبق العمل عليه بين السعوديين والحوثي حول المرتبات وميناء الحديدة ومطار صنعاء وهدنة شاملة لمدة ستة أشهر”.
ويشير المصدر إلى أن السعوديين أجروا في الشهور القليلة الماضية جولات متعاقبة من المحادثات مع الحوثيين في العاصمة العمانية مسقط، وحدثت بين الطرفين تفاهامات كان هدفها الأول إلا تكون السعودية ومؤسساتها وشركاتها هدفا لنيران قوات الجماعة المدعومة إيرانيا.
ويتوقع المصدر اليمني المطلع على مجريات العلاقات بين مكونات الحكومة الشرعية اليمنية والمملكة العربية السعودية أن يتم الإعلان خلال الهدنة المرتقبة عن الذهاب إلى مشاورات سياسية للسلام الشامل.
“بنود اتفاق الهدنة المنتظرة سيكون معظمها بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثي، وستكون هناك بنود تتعلق بالمملكة العربية السعودية، لكن سيتم تقديم الرياض كراع وضامن للاتفاق”، ويشير المصدر إلى أن ولي العهد السعودي استقبل رئيس مجلس القيادة الرئاسي اليمني رشاد العليمي قبيل ساعات من الإعلان عن الاتفاق وأبلغه أن هناك اتفاقا وشيكا مع الإيرانيين وأن بنوده ستنعكس على الأوضاع في اليمن.
ورغم انتقاد أطراف محسوبة على الحكومة الشرعية للاتفاق السعودي الإيراني، ألا أن الحكومة اليمنية سارعت بالترحيب بالاتفاق معلنة إيمانها بالحوار وحل الخلافات بالطرق الدبلوماسية والوسائل السلمية.
وقالت الحكومة اليمنية في بيان نشرته وكالة الأنباء الرسمية “سبأ” إن “موقفها يعتمد على أساس الأفعال والممارسات لا الأقوال، والادعاءات، ولذلك ستستمر في التعامل الحذر تجاه النظام الإيراني حتى ترى تغيرا حقيقيا في سلوكه، وسياساته في بلادنا والمنطقة”.
وأضافت أنها تأمل أن يؤدي الاتفاق بين الرياض وطهران إلى مرحلة جديدة من العلاقات في المنطقة، بدءا بكف إيران عن التدخل في الشؤون اليمنية، وألا تكون موافقتها على هذا الاتفاق نتيجة للأوضاع الداخلية والضغوط الدولية التي تواجه النظام الإيراني.
بدورها، رحبت جماعة الحوثي في اليمن بالاتفاق، وقال محمد عبد السلام كبير مفاوضي الجماعة: “المنطقة بحاجة إلى استئناف العلاقات الطبيعية بين دولها حتى تستعيد الأمة الإسلامية أمنها المفقود نتيجة التدخل الأجنبي”.
ويذهب المصدر الدبلوماسي اليمني إلى أن السعوديين يخططون لعقد مشاورات يمنية- يمنية، “الرياض 2″، على غرار المشاورات التي أجريت في أبريل من العام الماضي ورفض الحوثيون المشاركة فيها، لكن هذه المرة سيتم تمثيل الجماعة بعد أن تأخذ الضوء الأخضر من طهران، مشيرا إلى أن هناك صعوبات ستواجه السيناريو الذي يبدو أن الرياض وطهران توافقتا عليه في مباحثتهما في الصين “الطريق فتح، لكن الوصول إلى التوافق على حل سياسي نهائي لن يكون سريعا ودونه عقبات وصعوبات جمة”.
صحيفة “وول ستريت جورنال” كانت قد نقلت عن مسؤولين سعوديين وإيرانيين وأمريكيين أن إيران تعهدت بوقف الهجمات ضد السعودية كجزء من الاتفاق، بما في ذلك تلك التي يشنها المتمردون الحوثيون من اليمن.
في ظل التعقيدات التي طالت المشهد اليمني، يصعب على أي مراقب توقع السيناريو الذي ستمضي عليه الأمور، فالقوى الإقليمية لن تتوقف عن تحريك قطع الشطرنج على الرقعة اليمنية حتى وإن اتفقت على استئناف علاقاتها الدبلوماسية، والشروخ بين مكونات الداخل اليمني أكبر من أن تجبر بضغوط الأطراف المحركة، فلا الحوثيون راغبون في التنازل عن جزء من مكاسبهم ولا فرقاء الشرعية عازمون على توحيد صفوفهم بما يعزز موقفهم في أي مسار تفاوضي، فيما تزيد النزعات الانفصالية للمجلس الانتقالي الجنوبي من تعقيدات المشهد.