لم يحكم رئيس واحد مصر يومًا واحدًا من خلال استفتاء حقيقي ولا من خلال انتخابات حقيقية في السبعين عامًا من إعلان الجمهورية في صيف 1953 وحتى وقت كتابة هذه السطور في ربيع 2023. القوة المسلحة الكامنة خلف الصورة تكفي لتأمين شرعية الحاكم وكل المطلوب من التصويت الشعبي هو إخراج منطق القوة المسلحة في ثوب شعبي لأغراض احتفالية لا أكثر.

يكفي كل رئيس أن يصمد أمام الصعوبات التي تعترض فترة حكمه الأولى، سواء صعوبات من منافسيه داخل المؤسسة العسكرية أو مبغضيه داخل جهاز الدولة أو المتشككين فيه من أطراف إقليمية ودولية، فإذا نجح، وفي الغالب ينجح، في تذليل مثل هذه الصعوبات، فإنه يشق طريقه نحو المزيد من فترات الحكم دون مشقة كبيرة.

اثنان فقط لم يصمدا أمام صعوبات الفترة الأولى، الرئيس محمد نجيب ثم الرئيس محمد مرسي. الأول لأنه لم يكن غير قناع رأت القوة المسلحة أن ترتديه بصورة مؤقتة ثم تنزعه عن وجهها بعد الاستغناء عنه، والثاني لأنه لم يكن أكثر من عابر سبيل طارئ وغريب ودخيل على البنية العميقة للدولة المصرية.

تمكن عبد الناصر ثم السادات من التمديد والبقاء دون أدنى مشقة حتى آخر يوم في حياة الرجلين. وكان مبارك يعلن أنه باق في موقعه ما دام فيه عرق ينبض، وكان من الوارد جدًا أن يبقى في الرئاسة حتى آخر يوم في حياته لولا غلطة ظهور نجله كوريث. لولا هذه الغلطة كان مبارك احتفظ بنظام حكمه موحدًا دون انقسامات بين حرس قديم من رجاله وحرس جديد من رجال النجل.

هذا الانقسام فتح ثغرة ظلت تتسع حتى جرأ طوب الأرض على مبارك دون أن يتحمس أركان حكمه لحمايته، فسقط، دون أن يبكي عليه منهم أحد. وسوف تبقى هذه القاعدة – قاعدة التمديد الآلي من فترة إلى ثانية إلى ثالثة إلى ما شاء الرئيس – معمولًا بها ما دامت تتوفر لها ثلاثة شروط:

الأول؛ حيازة الرئيس مفاتيح كل السلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية. فهذه الحيازة تخلق من الحاكم كائنًا جبارًا، قوة فوق بشرية، قوة فوق التاريخ، أقرب ما يكون إلى إله أرضي ذي سلطان مطلق فوق مصائر البلاد والعباد، ومن يتجرأ على الإله عوقب علنًا وفورًا ودون إبطاء ليكون عبرةً لكل من تسول له نفسه.

ثم الشرط الثاني أن يتخلص الرئيس في فترته الأولى من كل منافس من داخل المؤسسة العسكرية ما دام هو في السلطة، ثم يتخلص من كل مناوئ داخل جهاز الدولة بصورة كاملة.

ثم الشرط الثالث، وهو الأهم: تعقيم الغريزة السياسية لدى الطبقة الوسطى المدنية بكل أطيافها، وتعقيم غرائزها السياسية حد الإخصاء الكامل الذي يضمن الإقصاء التام لها من لعبة الصراع الجاد على مقعد الرئاسة، وإخصاء من النوع الذي تفقد معه الرغبة في المنافسة، وإقصاء من النوع الذي تفقد معه القدرة على إدارة صراع سياسي، بحيث تصل الطبقة الوسطى المدنية إلى وضع من انكسار النفس، تترتب عليه حالة من العجز، ثم يترتب على الانكسار والعجز حالة مضاعفة من الهوان والمذلة، فلا تنطق، ولا تفعل، تفقد القدرة على الغضب، وتموت فيها الروح الكفاحية، وتنكفئ على تدبير شؤونها المنزلية وقضاء حاجاتها اليومية، وتهيم على وجهها، تجتر خيبتها، دون تحمس لقضية عامة أو غيرة على الحق أو انتصار لمصلحة وطنية.

وهذا هو معنى تعقيم الغريزة السياسية للطبقة الوسطى أو الطبقات الوسطى. وما دامت احتفظت الطبقات الوسطى بنقاط ضعفها التاريخية فسوف تستمر تقاليد الحكم في خطيها الكبيرين: الخط الأول أن الحاكم يصل للسلطة بغير انتخاب حقيقي من الشعب، ثم الخط الثاني أن الحاكم يحوز من القوة ما ييسر له التمديد الآلي في مقعده لفترات عديدة حسبما يشاء هو، لا حسبما يشاء الشعب، دون اعتبار لمصلحة البلد، ودون احتفاء بمصلحة الشعب، ودون حساب دستور أو قانون، هو فقط، يستمر، ما دام يحوز من القوة ما يمكنه من الاستمرار، منطق القوة، وليس منطق الحق، منطق الواقع، وليس منطق العدل، منطق الفرد، وليس منطق الشعب.

هذه المعضلة التاريخية، معضلة القوة فوق الحق، معضلة الفرد فوق الشعب، لن يكون لها من حل قريب أو بعيد، دون أمرين:

1- أولهما استرداد الروح الكفاحية للطبقات الوسطى المدنية، هذه الروح كانت وقود الثورة العرابية، ثم كانت جزءًا من قيادتها، فالعسكريون من أبناء الجيش كانوا يمثلون الطبقات الوسطى الريفية والمدينية التي جاؤوا منها، كذلك كانت الطبقات الوسطى المدنية هي وقود الحركات الوطنية على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، كفاحية الحزب الوطني ومصطفى كامل ومحمد فريد، ثم كفاحية الوفد وسعد زغلول ومصطفى النحاس.

كذلك كان تنظيم الضباط الأحرار بمن فيه من وطنيين وإخوان وشيوعيين هم ترجمة لكفاحية الطبقات الوسطى في عقدي الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين مع الأفول التدريجي لكفاحية الوفد، الضباط الأحرار حكموا باعتبارهم تمثيل للطبقات الوسطى التي جاءوا منها تمامًا مثل الضباط العرابيين، ثم هذه الطبقات الوسطى هي التي أعادت بناء مصر وما زالت تقوم على بناء مصر سواء في الداخل أو الخارج، فبعد عشرين عامًا من استنزاف موارد البلد في مغامرات وحروب وزعامة زائفة من 1953 حتى 1973، العشرين عامًا التي جاب فيها حكم الضباط مصر على الحديدة والبلاطة، بعدها خرج أبناء الطبقة الوسطى من مختلف المهن والتخصصات مهاجرين إلى كل أصقاع الأرض يعملون ويكدون ويحولون عوائد كفاحهم إلى مصر، هذه الطبقة، بهذه الهجرة، وهذا العمل، وهذه العوائد المالية، هي ثم هي ثم هي التي أعادت بناء مصر من جديد في الخمسين عامًا الأخيرة من 1973 حتى 2023.

هذه الطبقة الوسطى هي من كانت وقود الحروب والمغامرات من 1953م حتى 1973م، ثم هي – بما تملكه من علم وفن وخبرات وتخصصات – من هاجرت ومولت أكبر عملية تغيير للحياة في ريف مصر ومدنها في العقود الخمسة الأخيرة. هذه الطبقة هم بناة مصر في نصف القرن الأخير، إلى جانب دورهم في بناء غير مسبوق لكل وجوه الحياة في مجتمعات الخليج العربي على وجه الخصوص.

الروح الكفاحية للطبقة الوسطى من الثورة العرابية إلى اليوم كان عمادها على ساقين: التعليم الحكومي الحديث، ثم التوظيف في دولاب التوظيف سواء مدني أو عسكري.

واليوم لا تعليم الحكومة يكفل مصدر قوة أو حراك اجتماعي، ولا التوظيف في جهاز الدولة يضمن موقعًا مهيبًا في المجتمع، بما يعني أن الطبقات الوسطى يلزمها البحث عن روافع جديد تكفل لها القوة مع الاحترام، ثم تكفل لها الخروج المشرف من وضع العجز القائم.

2- ثانيهما: حل ما يسميه المفكر اليساري العظيم سعد زهران 1926 – 2014 في كتابه المهم “في أصول السياسة المصرية”، في الباب الثاني من ص 67 وما بعدها، إذ يضع يده -بمهارة- على ما يسميه “الإحباط التاريخي للطبقة المتوسطة”، ويفسر مصادر هذا الإحباط المزمن بالقول “وأسباب الإحباط التاريخي للطبقة المتوسطة واضحة، فقد كانت طبقة مُبعدة عن المراكز الأساسية للسلطة، كما كانت مُبعدة عن المواقع التي تتحكم في مصادر الثروة، كما كانت مُبعدة عن الوسائل الأساسية للتأثير الروحي والفكري على جمهور الرعية، فهذه كلها موزعة بين رؤوس مثلث السلطة”.

ومثلث السلطة كما شرحه في الباب الأول يتمثل في الحاكم، الأعيان، الإمبراطورية.

ثم يضع سعد زهران يده – بمهارة مماثلة – على ما في نشأة الطبقة الوسطى من تناقض في تكوينها التاريخي، فهي طبقة نصف، نصف خادم لمن فوقها من الأعيان والحكام والإمبراطورية، ثم هي نصف سيد على من تحتها من الطبقات الأدنى من الرعية. يقول: “إنهم أنصاف خدم أو أنصاف أتباع بالنسبة للأعيان، وأنصاف سادة بالنسبة للرعية، ففي القرى والأرياف مثلًا، إذا كانت مناصب العمدة وشيخ البلد لا بد أن يكونا من الأعيان، فإن الصراف والمدرس هما من أبناء الطبقة المتوسطة، وبعد أن أصبحت الأرض ملكية خاصة في القرن الماضي – يقصد القرن التاسع عشر – أصبح كبار الملاك من الأعيان، وكذلك المحافظون وكبار مفتشي الري، بينما المالك المتوسط والصغير وناظر الزراعة وموظف الري المحلي وموظف السوق هم من الطبقة المتوسطة”.

ثم ينتقل من الريف إلى المدينة، فيقول: “وتتسع دائرة الطبقة المتوسطة، بالنسبة لمجموع السكان، في المدن والمراكز الحضرية، فإذا كان كبار التجار وأصحاب الحرف وأقطاب المهنيين والقضاة ورجال الدين من الأعيان – يقصد من الطبقة العليا – فإن صغار التجار ومتوسطيهم، وصغار أصحاب الحرف والصناع المهرة وممارسي المهن الفقيرة كالمعلمين هم من أصحاب الطبقة المتوسطة”.

ثم يرسم حدود الطبقات الدنيا التي يطلق عليها مسمى “الرعية”، فيقول: “بينما الرعية هنا هم فقراء المدن: العمال الكادحون غير الفنيين، وصبيان المهن والخدمات الصناعية والحرفية، والمهاجرون المعدمون النازحون حديثًا من الأرياف بحثًا عن أي عمل، وأخلاط من أشباه العاطلين والمتشردين والمتسولين”، أو ما يسميهم “الفائض البشري النازح من الريف”.

ويشير إلى نقطة هامة وهي أن أبواب وأسوار القاهرة في العصور الوسيطة كان من وظائفها حجز ومنع هذه الفوائض البشرية البائسة من دخول المدينة، ولما كان الكتاب صادر في عام 1983 أي قبل ظهور فكرة الكومبوندات السكنية المسورة المغلقة على ساكنيها من الأغنياء الجدد، إلا أن فكرة حجب ومنع وحجز الفوائض البشرية التعيسة تفسر وظائف الأسوار والأبواب المغلقة حول هذه الكومبوندات وساكنيها من الأرستقراطية أو الشرائح العليا من الطبقات الوسطى.

كون الطبقات الوسطى أنصاف خدم وأنصاف سادة، أنصاف خدم لمن فوقهم، أنصاف سادة على من تحتهم، توصيف جيد للتشوه التكويني والعيب الخلقي في تكوين الطبقات الوسطى المصري، هذه التشوه وذاك العيب هو المدخل للجواب على السؤال: لماذا تحكم الطبقة الوسطى العسكرية حد التجبر؟
ثم لماذا الانكسار ثم العجز ثم الهوان لدى باقي الطبقات الوسطى؟.

صحيح، الحكام العسكريون جاءوا من الطبقة الوسطى وباسمها وبالإنابة عنها، لكنهم عندما يزاولون صنعة الحكم يمارسونه على النحو الذي وجدوه جاهزًا مستقرًا، منذ فقدت مصر استقلالها القومي، وتداول على حكمها الغزاة الفاتحون من الفرس والإغريق والرومان والعرب والكرد والمجلوبين من مماليك آسيا المغولية والترك وحتى البريطانيين وسلالة محمد علي باشا.

ورث الضباط أبناء الطبقة الوسطى ميراثًا طويلًا عريضًا مستقرًا من تقاليد الحكم، التي تجعل من البلد مزرعة أو ضيعة أو دائرة نفوذ، وتجعل من الحكام ملاكًا لها، ثم تجعل من الشعب مستخدمين فيها، يعملون في مقابل القوت ولا يسألون أكثر من ذلك، الحكام لهم كل شيء، والشعب عليه كل شيء.

هذه المعادلة بين حكام لهم كل شيء وشعب عليه كل شيء، لم تتسبب فقط في الإحباط التاريخي للطبقات الوسطى، حيث كانت ومازالت محرومة من الوصول إلى نصيب عادل في السلطة والثروة، ولم يتسبب فقط في عقدة النقص الدونية في كونها طبقة أنصاف، أنصاف خدم لمن فوقهم ثم أنصاف سادة على من تحتهم، لكن تسببت كذلك في الإحباط التاريخي لطبقة الذوات والأعيان، كما تسببت في عقدة النقص الدونية التي طبعت خصائصها التكوينية كطبقة من عبيد إحسانات محمد علي باشا وسلالته.

وتفصيل ذلك: أن الطبقتين العليا ثم الوسطى عندنا – في القرنين الأخيرين – لم تنشأ أحدهما أو كلاهما عبر نضال تاريخي، مثلما نشأت الطبقة العليا في أوروبا خلال النضال ضد الملوك، أو مثلما نشأت الطبقة الوسطى في أوروبا خلال النضال ضد الأرستقراطية من إقطاع ونبلاء، أرستقراطية أوروبا قاتلت ملوكها بالسلاح قرونًا طوال حتى انتزعت حقها في الملكية ثم في الحريات الخاصة والعامة ثم في نصيبها من السلطة عبر برلمانات تجعل لها الحق في فرض كلمتها في التجنيد والضرائب والرقابة على مالية البلاد وتجعل لها الحق في التشريع، ثم الطبقات الوسطى حاربت الأرستقراطية قرونًا طوال عبر التجارة والصناعة والخدمات المالية والمصرفية وخدمات النقل وبناء المدن وتوسيع حقوق التصويت والمشاركة في السلطة والاعتراف بالعصامية ومراكمة الثروات عبر الكفاح الفردي. الملوك لم يقدموا منحًا ولا إحسانات للأرستقراطية، والأرستقراطية لم تقدم معونات للطبقة الوسطى.

كل طبقة ناضلت حتى انتزعت حقوقها ثم حصلت على اعتراف بها، ثم جاءت طبقة العمال وناضلت ضد الطبقة الوسطى وهكذا، حتى ناضلت المرأة ضد الجميع وتحررت من قيود فرضت عليها آلاف السنين.

عندنا كان التطور مختلفًا، البلد ليس أكثر من مزرعة خصيبة، نهر مثالي وعلى جانبيه واديه ودلتاه، مرتع خصيب للخيرات، يكفي الغزاة – أي غزاة – أن يضعوا أقدامهم، فيمتلكوا المزرعة، ويحموها بسلاحهم، ويعمل فيها المصريون في مقابل ما يحفظ عليهم قدرتهم على الاستمرار كمزارعين، لم يتملك المصريون أرضهم إلا في نهايات حكم محمد علي باشا. ففي فبراير 1837 – وهنا أنقل عن الدكتور عبد العظيم رمضان في كتابه الهام “الجيش في السياسة المصرية من 1882 – 1936″ – قرر الباشا إيجاد طبقة أرستقراطية زراعية إلى جواره تحصر في نفسها نسب الغنى العقاري، فأعطى من أنعم عليهم بالأبعديات الحق في توريثها لأولادهم وذرياتهم، ثم في فيراير 1842 أعطاهم ملكيتها المطلقة وكافة التصرفات الشرعية التي تكون للمالك في أملاكه”.

ثم أنقل عن الدكتور رؤوف عباس في ص 25 وما بعدها من كتابه “الملكيات الزراعية المصرية ودورها في المجتمع المصري”، إذ يقول عن محمد علي باشا ودوره في صناعة الأرستقراطية المصرية الحديثة: “فقد أنعم على بعض المقربين من رجاله وكبار موظفيه وبعض الأجانب وبعض قبائل البدو بأطيان الأبعادية. وهي الأراضي التي كانت زائدة في زمام القرى، كما أنعم على نفسه وأفراد أسرته بأراضي الجفالك، ولما كان هذا النوع من الأطيان يتسم في معظمه باتساع المساحة، فإن لتطور حقوق الملكية عليه أهمية خاصة، بالنسبة لنشوء الملكيات الكبيرة، وقد أعطى القرار الصادر في يناير 1837 للمُنعم عليهم بالأطيان حق توريثها لأولادهم وأحفادهم، فإذا انقرض نسلهم ألحقت الأطيان بالأوقاف المخصصة للإنفاق على الحرمين الشريفين، وبذلك نشأت حقوق ثابتة على الأرض لفئة من الناس، وقد تدعم وضع تلك الفئة بالحصول على حق الملكية التامة لتلك الأراضي بموجب قانون فبراير 1842”. ثم يقول دكتور رؤوف عباس: “وبذلك وضع محمد علي باشا أساس الملكية الخاصة للأرض، وقد دعمت هذه الأسس على يد خلفائه”.

معنى ما سبق أن الأرستقراطية المصرية نشأت بقرار ولم تنشأ بنضال، نشأت بإنعامات الباشا وإحسانات ذريته من بعده ولم تنشأ عبر انتزاع للحقوق. لذلك، لم يكن غريبًا، أن تستسلم هذه الطبقة لأجلها المحتوم، عندما قرر الضباط الأحرار تصفيتها بقرارات الإصلاح الزراعي عام 1952، فقط عاشت الطبقة أكثر قليلًا من مائة عام، نشأت بقرار من السلطة ثم تمت إزالتها بقرار مضاد، هذه الطبقة – مثلها مثل الطبقة الوسطى – نشأت ثم عاشت ثم ماتت وهي رهينة عقد النقص في تكوينها الذاتي، هي طبقة من الخدم في حضرة الباشا والحكام من ذريته لكنها طبقة ذوات وأعيان وأكابر على من دونهم من الشعب، هذه العقدة الدونية مزقت الطبقة وأربكتها في اللحظات التي واجهت فيها مخاطر وجودية، ففعلت الشيء ونقيضه، تجسد ذلك في إفلاس إسماعيل والثورة العرابية والغزو البريطاني، عقدة الخدم والسادة هزت ثقتهم في أنفسهم، فهم مع إسماعيل ثم ضده، ومع الثورة ثم ضدها، وضد توفيق ثم معه، وضد الاحتلال ثم ذهبوا للترحيب به.

عقدة النقص الدونية هذه أربكتهم للمرة الثانية والأخيرة خلال العقود الثلاثة التي تصدرت الطبقة فيها للحكم من بعد ثورة 1919 حتى ثورة 23 يوليو 1952، فالطبقة أصبحت طبقات مع الاستبداد وضده، مع الدستور وضده، مع الوفد وضده، مع الثورة وضدها وضد الاحتلال ومع التعاون والتفاهم والتفاوض معه، لم تصمد الطبقة في لعبة الثورة والسياسة أكثر من ثلاثة عقود ثم تحللت وتعفنت وكمكمت وفقدت مبرر بقائها حتى قرأ الضباط الفاتحة على روحها دون أن يبكي عليها أحد. لم تتحرر هذه الطبقة – حتى في أنقى تجلياتها الثورية – من طبائع الخدم لديها تجاه أولياء النعم والإحسانات من الباشا وذريته فلم تتجرأ على أن ترى حقيقة أن حكم أولياء النعم قد تحلل وتعفن ومات وانتهى إلى الأبد في شخص الملك فاروق الذي لم يترك أي قيمة لمنصبه ولم يحفظ أدنى اعتبار لجلال منصبه حتى أزاله صغار الضباط من فوق عرشه كأنه لم يكن غير لعبة أو دمية.

ألمع من في هذه الطبقة كان سعد زغلول ، يحمل كل تناقضاتها، لكنه كان من الألمعية بحيث يدرك، في كل لحظة، ما تسمح به ديناميات الصراع من فرص ليحرر نفسه وقيادته ونضاله من الارتهان لعقدة النقص بصورة مزمنة، قبل ثورة 1919 التي أعادت خلقه من جديد وكشفت ما في روحه وضميره من نبل وزعامة وأصالة ورجولة، قبلها يحكي عن لقاء جمعه مع السلطان فؤاد – الملك فؤاد بعد ذلك – فيقول في ص 152 من الجزء الثامن من مذكراته “تشرفت بمقابلة عظمة السلطان، في الساعة 3 بعد الظهر، فاستقبلني بعظيم الترحاب، وسلمني بيده الكريمة علبة النيشان – أنعم عليه بنيشان – قائلًا: “إني أهديك هذا النيشان مكافأة على خدماتك الجليلة التي أديتها لبلادي، وإني أرجو أن تنال ما هو أعلى من ذلك شأنًا، وأن تشترك معنا في خدمة الأوطان، ثم بعد أن يحكي سعد زغلول كل ما دار ما في اللقاء من محاورات بينه وبين السلطان منها مثلًا أن أحد الوزراء – وهو عبدالخالق ثروت باشا – يطلب منح نيشان لفضيلة الشيخ هارون رئيس المحكمة الشرعية، رغم أن فضيلة الشيخ يسكر ويلعب القمار ويتردد على بيت رجل يُدعى العسيلي، كان في الأصل حمَاراَ – كانت الحمير وسيلة المواصلات الرئيسية في القاهرة – ثم تزوج امرأة غنية، المهم أن في آخر الحوار يقول سعد زغلول: “واستمر الحديث في تسعير القطن ساعة من الزمان، ثم قام السلطان، ولم يرد أن أقبل يده، وقال متأثرًا: “إني أرجو أن نخدم الوطن معًا”. انتهى الاقتباس.

سعد زغلول الذي أراد تقبيل يد السلطان غير أن السلطان منعه في مارس 1918 هو سعد زغلول الذي كان من الجرأة والتحرر أن يرى في نفسه الكفاءة ليقود ثورة الشعب التي انشق عنها وجه الأرض بعد ذلك بعام واحد في مارس 1919 ثم هو سعد الذي أدرك بعد الثورة أن السلطان ليس أكثر من موظف عام يعين بقرار من سلطة الاحتلال مثله في ذلك مثل باقي الوزراء، لذلك رفض أن يعين السلطان وفد التفاوض مع الاحتلال وقال قولته المشهورة: “إذن جورج الخامس يفاوض جورج الخامس”.

سعد زغلول مثال لابن الطبقة الوسطى الذي اجتاز الحواجز وارتقى للطبقة العليا ثم خرج على تقاليد الطبقة العليا وآثر الالتحام بالشعب في ثورته المجيدة، يحدث نفسه في مذكراته حديث الصدق – وهو لا يعرف غير الصدق ولو ضد ذاته – في ص 106 من الجزء الثامن من مذكراته يتحدث عن سفاهته في إنفاق ماله على لعب القمار في حين أن له أقارب من أشد الفقراء، يقول مخاطبًا نفسه: “أيها الأحمق، إن كان المال الذي تضيعه في القمار فاضلًا عن حاجتك، فلك أقارب في أشد حالات الفقر، فأنفق بعض ما تضيعه في هذا السبيل عليهم، إنقاذًا لهم من مخالب الفقر”.

هو هنا يكشف عن بعض خلفياته وأصوله الاجتماعية، ثم في فقرة أخرى يكشف المزيد منها ويتحدث عن والديه أي عن أصله وفصله بصورة صريحة صادقة مباشرة، فلم يزعم لنفسه من الأصل ما ليس له، يقول مخاطبًا نفسه في ص 113 من الجزء الثامن من مذكراته “إنك ولدت من أبوين جاهلين، لم يتعلما في مدرسة أو مكتب، وكان حالهما حال كثير من عمد البلاد المتوسطين”.

عقدة النقص لدى الأرستقراطية مهدت الطريق للطبقة الوسطى من العسكريين في 23 يوليو 1952.

ثم عقدة النقص لدى الطبقات الوسطى المدنية مكنت لهم الاستمرار الآلي سبعين عامًا.

وهذا هو موضوع مقال الأربعاء المقبل .