مع نهاية عام 2022، وبعد القمتين الخليجية ـ الصينية، والصينية ـ السعودية، أُصدر بيان مشترك يؤيد الاتهامات لإيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، ويعتبر سلوكها السبب الرئيسي لحالة عدم الاستقرار في منطقة الخليج. شكّل ذلك صدمةً للجانب الإيراني الذي استدعى السفير الصيني، ما أوجب من بكين استقبال مسئولين إيرانيين من أجل طمأنتهم وتهدئة الموقف.

عبّر ذلك عن النهج الصيني التقليدي الذي يسعى لإرساء التوازنات في علاقاته حفاظًا على مصالحه الاقتصادية. لكن ما لم يكن تقليديًا بل ومفاجئًا أنه بعدها بثلاثة أشهر تقريبًا كان اتفاق تهدئة بين السعودية وإيران يُوقع بوساطة صينية استمرت عدة أيام في بكين.

أعلن هذا أن “محور الشرق الأوسط يتغير”، بتعبير ماريا فانتابي، المستشارة الخاصة لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مركز الحوار الإنساني بجنيف. إذ كشفت الخطوة عن تغييرات إقليمية دبلوماسية كبرى محتملة؛ بعدما انتزعت الصين لأول مرة في تاريخ الشرق الأوسط أدوار الوساطة والاتفاق التي كانت شبه حصرية للولايات المتحدة.

يحمل الاتفاق السعودي الإيراني العديد من الدلالات التي قد تنعكس على الوضع في الشرق الأوسط، فما بين تأثير منتظر على الوضع الأهم وهو القتال في اليمن إلى ما يمكن أن يتبعه من انعكاس في لبنان وسوريا والعراق. وبالتأكيد لن تغيب الرسالة الرمزية التي يرسلها الاتفاق إلى واشنطن وحليفتها إسرائيل؛ بأن مسارًا بديلًا يُمكن أن يُصنع بعيدًا عن التصورات الأمريكية التي تدفع بإقامة علاقات مع تل أبيب لدرء التهديدات الإيرانية.

على ماذا ينص الاتفاق؟

تضمن الاتفاق الموافقة على استئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران “وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما خلال مدة أقصاها شهران”. وكذلك التأكيد على “احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية”، فضلا عن الاتفاق على عقد لقاء بين وزيري خارجية البلدين قريبًا “لتفعيل ذلك وترتيب تبادل السفراء ومناقشة سبل تعزيز العلاقات بينهما”.

كما نص على تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة بينهما عام 2001، وكذلك اتفاقية اقتصادية موقعة عام 1998.

وتنبع أهمية الاتفاقية الاقتصادية من نصها على “تشجيع وتسهيل الاستثمارات المشتركة وتبادل زيارات الوفود التجارية”. أما الاتفاقية الأمنية فتفتح الباب لعودة التعاون الأمني بين البلدين على صعيد “مكافحة الجريمة والإرهاب ومراقبة الحدود البحرية والمياه الإقليمية بين البلدين”. كما تضمنت التعاون في “مكافحة تهريب الأسلحة والبضائع والتسلل غير المشروع”.

وقد وُقع هذان الاتفاقان في عهد الرئيس الإيراني السابق محمد خاتمي الذي أبدى انفتاحًا دبلوماسيًا على دول الجوار بعد سنوات طويلة من التوترات التي أشعلتها الثورة الإيرانية عام 1979، وزار الرياض -كأول رئيس إيراني منذ الثورة- عام 1999 حيث التقى بالملك عبد الله بن عبد العزيز.

وقالت الباحثة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، سينزيا بيانكو، إن الرياض كانت تسعى للحصول على ضمانات أمنية من الإيرانيين، وهو ما قد يكون توافر من خلال إعادة تفعيل الاتفاقية الأمنية لعام 2001.

ويأتي اتفاق التهدئة بين السعودية وإيران بعد نحو عامين من جولات مفاوضات مشتركة على أكثر من مستوى -أمني ودبلوماسي- ولعبتا سلطنة عُمان والعراق أدوار الوساطة والاستضافة.

تقول الباحثة في “مجموعة الأزمات الدولية”، دينا اسفندياري، إن الاتفاق بين الرياض وطهران “نوعًا ما يمهد الطريق للقوتين في المنطقة لبدء تحديد وحل خلافاتهما”.

وهو الطريق الذي يبدو أكثر منطقية بالنظر إلى عدم وجود تحرك نحو إحياء الاتفاق النووي بين طهران وواشنطن، وفق محلل المخاطر الجيو سياسية، توربيورن سولتفيدت، الذي يشير “بدون تخفيف أوسع للتوترات بين الولايات المتحدة وإيران، تعلم السعودية أنها ستحتاج إلى لعب دور أكثر استباقية في إدارة العلاقات مع طهران”.

هل من تأثير في اليمن؟

يتمتع اليمن بـ”توقف نادر” للقتال منذ إبريل/نيسان الماضي بعد تطبيق هدنة توسطت فيها الأمم المتحدة، على الرغم من انتهاء سريانها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. وتحدثت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية كذلك عن استئناف “قنوات الحوار الخلفية” بين الحوثيين والجانب السعودي.

ونقلت الصحيفة عن ميساء شجاع الدين، الباحثة البارزة في مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، أن هذه المحادثات “انعكاس أيضًا للتقارب السعودي الإيراني”.

وقد قالت الحكومة اليمنية إن “موقفها يعتمد على أساس الأفعال والممارسات لا الأقوال، والادعاءات، ولذلك ستستمر في التعامل الحذر تجاه النظام الإيراني حتى ترى تغيرًا حقيقيًا في سلوكه، وسياساته التخريبية في بلادنا والمنطقة”.

بينما بدا موقف الحوثيين مرحبًا، حيث غرد المتحدث باسمهم محمد عبد السلام على تويتر قائلا: “المنطقة بحاجة لعودة العلاقات الطبيعية بين دولها، تسترد بها الأمة الإسلامية أمنها المفقود نتيجة التدخلات الأجنبية”.

وترى سينزيا بيانكو، أن إيران ربما استجابت بشكل إيجابي لدعوات الرياض لها “لدفع الحوثيين نحو توقيع اتفاقية سلام مع السعودية، تحرر السعوديين من حرب اليمن التي صارت خاسرة بالنسبة لهم”.

أما الباحث اليمني نبيل البكيري، فكان أكثر حذرًا في اعتبار أن الإعلان عن الاتفاق يعد نجاحًا أو عاملٍا لاستقرار المنطقة. وقال “عودة العلاقات السعودية الإيرانية هو مؤشر على مرحلة جديدة يحوطها الكثير من الشك والارتياب في مدى جدية عودة مثل هذه العلاقات”.

وأضاف أن “هذا الاتفاق له تأثير كبير على ملف الحرب والأزمة في اليمن، سلبًا وإيجابًا، سلبًا في أنه سيضع حلول الأزمة اليمنية رهينة هذين الطرفين الإقليميين، وإيجابًا أنه قد يخفف التوتر ويسمح لليمنيين باستعادة أنفاسهم والذهاب لحلحلة مشاكلهم البينية والكثيرة”.

ويعتقد الخبير في معهد الدول العربية في واشنطن، حسين إبيش، أنه “من المحتمل جدًا أن تلتزم طهران بالضغط على حلفائها في اليمن ليكونوا أكثر استعدادًا لإنهاء الصراع في ذلك البلد، لكننا لا نعرف حتى الآن ما هي التفاهمات التي تم التوصل إليها في الكواليس”.

انعكاس محتمل في لبنان والعراق وسوريا

من المنتظر إن تم الالتزام بمسار التهدئة بين البلدين أن يمتد ذلك إلى الموقف في لبنان وسوريا والعراق حيث يتمتع الوكلاء الإيرانيون بنفوذ بارز. ورغم أنه قد لا ينهي الخلافات العميقة في هذه البلدان إلا أنه يضمن على الأقل بعض التهدئة، ومحاولة الوصول لتفاهمات.

ويعاني لبنان فراغًا رئاسيًا نتيجة الخلافات بين “حزب الله” وباقي الطوائف السياسية حول اسم المرشح. وقد أوقفت السعودية دعمها المادي للبنان منذ عام 2016 بسبب “المواقف اللبنانية المناهضة” للمملكة في أزمتها مع إيران، في إشارة إلى “حزب الله”.

أما بالعراق، حيث تتمتع الفصائل الموالية لإيران بنفوذ كبير، فيُنظر للاتفاق على أنه يصب في صالح بغداد التي لعبت دور الوساطة بين البلدين. إذ قد يضمن فرص تعاون اقتصادي، لكنها تظل مرتبطة بتصرف الطرفين وجدية تطبيق بنود الاتفاق.

وفي سوريا، فقد تزامن ذلك مع انفتاح مبدئي أبدته المملكة -بأعقاب كارثة الزلزال حول الحوار مع النظام السوري- على لسان وزير خارجيتها بالقول إن إجماعًا عربيًا بدأ يتشكل على أنه لا جدوى من عزل سوريا وأن الحوار مع دمشق مطلوب “في وقت ما”.

“إيران والقوى الموالية لها باتت مقتنعة بفكرة الانفتاح على السعودية في ظل انهيار اقتصادي يعاني منه البلدان اللذان فيهما قوى موالية طهران وأوضاع اقتصادية صعبة..”، يلفت أستاذ العلوم السياسية العراقي عصام الفيلي.

أي رسالة للولايات المتحدة وإسرائيل؟

ترى “واشنطن بوست” أن التركيز على الدور الذي قامت به الصين في هذا الاتفاق ربما يستهدف توجيه رسالة للقوى العظمى، ومن بينها الولايات المتحدة. واستشهدت بوصف إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن لتعاظم دور الصين بأنه “أكبر تحدٍ جيو سياسي للقرن الـ21″.

وقالت كريستين ديوان، من معهد دول الخليج العربية بواشطن، إن الصين حلت حقًا كـ”لاعب استراتيجي في الخليج”. بينما اعتبرت كاميل لونس، الباحثة بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أن دور الصين “مفاجئ جدًا حتى للمحللين الصينيين”.

وأضافت أن بكين لطالما تجنبت التدخل سياسيًا في الشرق الأوسط، مع التركيز بدلًا من ذلك على العلاقات الاقتصادية، مشيرةً إلى أن الاتفاق يبعث برسالة رمزية “قوية جدًا” نظرا لتوقيعها قبل أيام فقط من الذكرى العشرين للغزو الأمريكي للعراق.

علي الشهابي المحلل السياسي المقرب من الحكومة السعودية قال –لوكالة فرانس برس– إن “الصين الآن هي الأب الروحي لهذه الاتفاقية وهذا له وزن كبير. جعل الصين بتأثيرها على إيران تتولى رعاية الاتفاقية، منح المملكة الراحة من إعطاء إيران ميزة الشك”.

بينما ذهب جوناثان فولتون، الزميل غير المقيم بالمجلس الأطلنطي، إلى أن الصفقة تشير إلى استعداد الصين للقيام بدور أكبر في المنطقة. وأوضح “قد تكون هذه علامة على ثقة الصين المتزايدة في وجودها الإقليمي. وقد تكون علامة على أنها تعتقد أن هناك مساحة لتحدي الهيمنة الأمريكية بالشرق الأوسط. على أي حال، يبدو أنه انتصار دبلوماسي للصين وخروج مهم عن نهجها الإقليمي حتى هذه النقطة”.

وبحسب تقرير آخر لـ”واشنطن بوست“، غالبًا ما يأسف حلفاء أمريكا العرب في السعودية والخليج العربي على الانتقادات التي يتلقونها من واشنطن بشأن انتهاكات حقوق الإنسان والافتقار إلى الحريات السياسية والانتخابات، وهي شكاوى لا يتلقونها من بكين. ولهذا يرى بعض المراقبين أن مساهمة الصين في الاتفاقية بمثابة ازدراء صريح للولايات المتحدة.

وقال مسئول كبير في الإدارة الأمريكية أطلع على المحادثات بين طهران والرياض، إن الولايات المتحدة كانت على اطلاع دائم بالمفاوضات منذ البداية، مضيفًا أن السعوديين أوضحوا لنظرائهم الأمريكيين اهتمامهم بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران. لكنه قال إن السعوديين أوضحوا أيضًا أنهم غير مستعدين لعقد مثل هذه الصفقة دون ضمانات قوية من الإيرانيين بأن الهجمات ضدهم ستتوقف وأنهم سيقلصون الدعم العسكري للحوثيين.

وعلى الرغم من أن الحد من تأثير الصين في الشرق الأوسط وأجزاء أخرى من العالم لا يزال يمثل أولوية لإدارة بايدن، إلا أن لها في الاتفاقية الأخيرة “رأيان”، كما عبّر جون ألترمان، الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: “إنها تريد أن يتحمل السعوديون مسئولية متزايدة عن أمنهم، لكنها لا تريد أن تعمل السعودية على تقويض الاستراتيجيات الأمنية الأمريكية”.

لكن التقويض الحقيقي يتجلى بوضوح في المسار الإسرائيلي الذي سعى لتطبيع العلاقات مع المملكة منذ عودة بنيامين نتنياهو للحكم. فالرجل الذي طالما حاول عزل إيران عبر إقامة علاقات رسمية مع الدول العربية يبدو أن سمعته السياسية تعرضت للضرر.

فمنذ الإعلان عن الاتفاق، شنت المعارضة الإسرائيلية هجومًا حادًا على رئيس وزراء الاحتلال الذي قدم نفسه لفترة طويلة على أنه الزعيم الإسرائيلي الأفضل تأهيلًا لمحاربة إيران. إذ قوض الإعلان آمال إسرائيل في تشكيل تحالف أمني إقليمي ضد إيران، كما ضاعف من الشعور بالخطر القومي الناجم عن الانقسامات الداخلية العميقة حول سياسات الحكومة، وتأثيرها على السياسية الخارجية.

وفي حين أن الاتفاق يشي بعدم تطبيع رسمي، إلا أنه سيبقي على وتيرة تزايد العلاقات بين السعودية وإسرائيل. وربما طلب المملكة لمزيد من الضمانات الأمنية الأمريكية لإبرام اتفاق.