في مؤتمر قادة الدفاع الأفارقة الأخير، الذى عقد في روما، ندد مايكل لانجلي، قائد القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا “أفريكوم”، بالتحركات الروسية في القارة، وتحديدًا دور مجموعة “فاجنر” الروسية في كل من ليبيا وموزمبيق ومالي وإفريقيا الوسطى. وأشار إلى تداعيات هذه التحركات على أمن إفريقيا.

يتزامن ذلك مع نهج عسكري روسي يحتل أهمية كبيرة في أدوات السياسة الخارجية الروسية اليوم، يعكس طموحات استعادة أمجاد الإمبراطورية السوفيتية السابقة، وقد  بدت منذ بداية الألفية الثالثة  ملامح حرب باردة بين روسيا والولايات المتحدة، تُعد إفريقيا إحدى ساحاتها. وتُكثِف أمريكا من زيارة مسئوليها للقارة في محاولة للحد من النفوذ الروسي هناك. وبدأ أنطوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي، أمس الثلاثاء، زيارته لإثيوبيا والنيجر والتي تمتد إلى الجمعة 17 من الشهر الجاري.

تغير في التدخلات

سابقًا، مثلت كل من فرنسا والولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين الشريك الأمني التقليدي بالنسبة للدول الإفريقية، مع الأخذ في الاعتبار العامل التاريخي والإرث الاستعماري والخبرة الطويلة في التعامل مع أنظمة الحكم في إفريقيا، لكن السنوات الأخيرة شهدت تغيرا في التدخلات في القارة لا سيما منطقة الساحل والغرب.

وعلى مدار ما يزيد عن 12 عامًا، لم تتمكن فرنسا وحلفاؤها الأمريكان والأوروبيون من تحقيق الأهداف التي أعلنوها، ومنها القضاء على الإرهاب وإقرار الأمن والاستقرار ودعم النظم الديمقراطية في القارة.

وفي الآونة الأخيرة، شهد غرب القارة أكبر عدد من الانقلابات العسكرية في تاريخها، بالتوازي مع استمرار تهديد الجماعات الإرهابية، وعملت هذه الأوضاع غير المستقرة على تنامي الاستياء الإفريقي من تواجد القوات الغربية في القارة، وصل إلى حد المطالبة برحيل قوات فرنسا وفرقة عمل تاكوبا العسكرية الأوروبية في القارة “في مالي”.

محفوظ ولد السالك الصحفي والباحث في الشؤون الإفريقية

محفوظ ولد السالك الصحفي والباحث في الشؤون الإفريقية

يشير محفوظ ولد السالك الصحفي والباحث الموريتاني في الشؤون الإفريقية، إلى التحولات في نظرة الأفارقة للغرب مثلما حدث في جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة بوسط القارة، حين رفعت في وجهه الأعلام الروسية بالكونغو الديمقراطية، على الرغم من أنها دولة ناطقة باللغة الفرنسية.

وعلى جانب  آخر كثفت روسيا من زيارات وزير خارجيتها سيرجي لافروف لإفريقيا كما تحضر لقمة ثانية مع إفريقيا خلال أشهر من اليوم.

بجانب الوضع الفرنسي، تراجع اهتمام الولايات المتحدة بقارة إفريقيا في عهد دونال ترامب، إذ أقر الرئيس السابق سياسات تستهدف سحب القوات الأمريكية من بعض المناطق منها الصومال. وهي الخطوة التي استمرت في عهد الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن. وأن كانت الولايات المتحدة في عهد هذا الأخير أصبحت تبدي اهتماما ملحوظا بالقارة ظهر في تعدد زيارات المسئولين السياسيين الأمريكيين.

وبالتوازي مع هذه المتغيرات، اندفعت الصين وحليفتها روسيا نحو القارة، باستخدام نفس أدوات الغرب ولكن بطريقة مغايرة، فقد  ارتكزت الصين على الأداة الاقتصادية حتى أصبحت الشريك الاقتصادي الأول في القارة بإجمالي حجم تجارة يزيد عن 265 مليار دولار.

بينما عملت موسكو على أن تحل محل الدور الغربي من خلال الترويج لفاعلية الأدوات العسكرية، وإثبات نفسها كقوة عظمى، وتقوم العقيدة الأمنية الروسية في إفريقيا على مجموعة من الأدوات أبرزها قوات فاجنر، إلى جانب الاتفاقيات العسكرية.

وفي هذا الصدد، يشير الباحث في الشأن الإفريقي محفوظ ولد السالك، أنه يمكن القول إن روسيا ابتداءً من قمة سوتشي مع إفريقيا عام 2019، بدأت تعي أهمية العودة للقارة الإفريقية، بعد فترة من تراجع اهتمامها بها، تزايد  هذا الاهتمام مع بدء الحرب الروسية الأوكرانية حيث تحولت إفريقيا إلى ساحة تنافس حقيقي بين روسيا وخصومها الغربيين.

استراتيجية الكرملين

تشكل الرغبة في إحباط أهداف السياسة الأمريكية في إفريقيا، الدافع الرئيسي للكرملين في استراتيجيته الإفريقية، بجانب هدف الوصول إلى موارد القارة السمراء.

ومنذ عام 2006، سعى بوتين إلى إعادة بناء وجود روسي في إفريقيا، الذي ضعف بشدة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.  وبين عامي 2015 و2019، وقعت موسكو نحو 19 اتفاقية تعاون عسكري مع الحكومات الإفريقية.

وتعتبر شركات الأمن الخاصة، الأداة الأبرز روسيًا، حيث توسع دور فاجنر ما بين تقديم التدريبات على مكافحة التمرد ومكافحة الإرهاب وتقديم المشورة للحكومات المحلية،  وخلال 2017، نشرت فاجنر  500 رجل لإخماد الانتفاضات المحلية في السودان، كما ساندت الرئيس فوستن تودايري في جمهورية إفريقيا الوسطى، ضد المتمردين منذ عام 2018.

وفي السياق ذاته، تدخلت قوات فاجنر في ليبيا لدعم القائد العسكري خليفة حفتر في حربه ضد حكومة ليبيا السابقة برئاسة فايز السراج، وتدخلت في عام 2017، لدعم حكومة موزمبيق لمكافحة حركة الشباب الإرهابية.

ويعد غرب إفريقيا ساحة بارزة للتدخل العسكري الروسي، حيث بوركينا فاسو وغينيا ليبيريا وسيراليون وساحل العاج، كما

زادت مجموعة فاجنر من وجودها في مالي في الأشهر الماضية بقوة قوامها ألف فرد، تزامنًا مع انسحاب القوات الفرنسية، وأقامت المجموعة علاقات مع المجلس العسكري في مقابل تقديم الحماية.

وتعتبر صادرات الأسلحة من أهم مظاهر التعاون العسكري بين روسيا والدول الإفريقية، إذ نمت صادراتها الدفاعية إلى إفريقيا بجانب الولايات المتحدة، وفرنسا، وألمانيا، والصين كأكبر مصدرين للأسلحة للقارة، واستحوذت موسكو وحدها على 20% من حصة سوق السلاح في إفريقيا، وتأتي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة (37%)، وتأتي بعدهما فرنسا بنسبة 8.2% وألمانيا 5.5٪ والصين 5.2% وفقًا لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام.

واستطاعت روسيا  استغلال الظرف السياسي في السودان، ووضعت أقدامها في منطقة البحر الأحمر. وأعلن رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان في فبراير/ شباط الماضي الموافقة على إنشاء قاعدة بحرية روسية على البحر الأحمر، مما يهدد  مصالح أمريكا في المنطقة.

روسيا وأمريكا

تمثل تحركات روسيا في إفريقيا إشكالية كبيرة بالنسبة لمصالح الولايات المتحدة، خاصة مع الانسحاب الفرنسي من مالي وانتشار قوات روسيا في مناطق عدة من القارة. وانعكس تنامي العلاقات الروسية الإفريقية في موقف الأفارقة إزاء الغزو الروسي لأوكرانيا، فمن بين 54 دولة إفريقية، صوتت 28 دولة لإدانة الغزو الروسي، فيما عارضت قرار الإدانة 16 دولة، واختارت 9 دول عدم التصويت.

وبدأت الولايات المتحدة في إصلاح سياستها في القارة منذ أواخر العام الماضي، مع تكثيف الزيارات الرسمية وإطلاق استراتيجية جديدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء أغسطس/ آب الماضي، والتي تتكيف مع المتغيرات الأخيرة، والتي صنفت بمثابة خروج عن وثائق الاستراتيجية الإفريقية السابقة.

وزير الخارجية الأمريكي أنتوني ج.بلينكين يوضح استراتيجية إدارة بايدن لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أغسطس 2022 (وكالات)
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني ج.بلينكن يوضح استراتيجية إدارة بايدن لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، أغسطس 2022 (وكالات)

وتضمنت الاستراتيجية الجديدة إعادة صياغة لأهمية إفريقيا بالنسبة لمصالح الأمن القومي للولايات المتحدة، وركزت على الجانب السياسي والاقتصادي والأمني، حيث أكدت التزامها بدعم الأنظمة الديمقراطية، ومنع ومعالجة الصراعات الناشئة والطويلة الأمد، واتباع سياسات لتحسين ظروف المواطنين الأفارقة.

وكذلك، استهدفت مكافحة سياسات الصين وروسيا، والعمل مع الحلفاء والشركاء الإقليميين لوقف الاستبداد والانقلابات العسكرية، ودعم المجتمع المدني، وتمكين الفئات المهمشة، والعمل على بناء اقتصادات إفريقية أكثر استقرارًا وشمولية.

وفى اجتماع وزراء الدفاع الأفارقة الأخير أكد مايكل لانجلي قائد أفريكوم، على  أن الدبلوماسية والتنمية والدفاع هو قوام نهج الولايات المتحدة في إفريقيا، قائلا  “إن رد الولايات المتحدة على اختراق الميليشيات الروسية يكمن في دعم الدول الإفريقية من خلال نهج شامل”.

وتابع لانجلي: “أعتقد أنه بشكل جماعي عبر كل هذه العمليات والاستثمارات والأنشطة، يمكن تحقيق أهداف طويلة الأجل لهذه البلدان”.

من جهته، علق كلاوديو بيرتولوتي، الباحث في المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية، قائلًا إنه من بين النماذج ثلاثية الأبعاد للنهج الشامل تم تطوير أسلوب الدفاع فقط حتى الآن.

واعتبر أن تصريحات لانجلي تشير إلى التزام الولايات المتحدة باحتواء النفوذ الروسي في إفريقيا والاستعداد لدق ناقوس الخطر للحلفاء.

وتابع أنه في حال لا يمكن للجميع المساهمة في الدفاع، يمكنهم القيام بذلك من خلال العنصرين الآخرين أي التنمية والدبلوماسية.

بينما يقول ولد السالك أن الولايات المتحدة تعتمد في علاقاتها مع إفريقيا على بعدين، أحدهما عسكري ويتجلى من خلال “أفريكوم”، والثاني اقتصادي من خلال إبرام بعض الشراكات الاقتصادية.