عودة الفنان أحمد عيد إلى الشاشة، من خلال مسلسل “عملة نادرة” المزمع عرضه في رمضان القادم، خبر لا يسعني معه إلا الفرح، ولا أظنني وحدي الذي أملك هذا الشعور، تجاه أحمد عيد، فعلاقة جيلي به قوية من خلال أفلامه الأيقونية في ذاكرتنا: فيلم ثقافي، وليلة سقوط بغداد، وارتباط الفيلمين بالمخرج الذي ينتمي لسينما المؤلف محمد أمين.

والفيلمان ينتميان بحسب إسلام العزازي إلى صوت مضاد لتيار أفلام أواخر التسعينيات وأول الألفينيات، التي أنتجت خلال مرحلة ركود سياسي كبير، حيث بدأت شركات الإنتاج في السينما المصرية في استقطاب وسائل آمنة لخلق سينما تقع ما بين التجاري والجادّ مع صعود نجوم جدد وسرعة في تألقهم، وهي أفلام بغض النظر عن تفاوت مستواها تشترك في محاكاة قضايا مجتمعية آمنة أحيانًا وساذجة في أحيان أخرى.

ظهر محمد أمين في “فيلم ثقافي” صوتًا مضادًا لكل ذلك التيار، رغم أنّه جزء منه، ورغم أنه يعمل على ذات الوسائل الفاعلة التي تستخدمها سينما الكوميديا الآمنة، تغيّر بسيط وجوهري، يتفرد به محمد أمين، هو أنه بدلًا من أن ينأى بنفسه بعيدًا عن مواطن الخوف الكبرى عن المجتمع، ويستبدلها بأفكار آمنة ومحفّزة، فإنه يصطدم بهذه الأفكار، ويقدمها بأكثر الطرق مباشرة وصدامية مع القلق المجتمعي الحاصل.

ولم يكن اختيار أحمد عيد من قبل المخرج محمد أمين عشوائيًا، فوجهه وملامحه لا يحملان لا ملامح الجان، وكذلك لا يحمل ملامح الكوميديان التقليدي إذا ما استثنينا نحافته المبالغ فيها في بداية مشوراه الفني، بل ملامح عادية تمامًا، حتى طريقته في الإضحاك مختلفة عن نجوم ظهروا في تلك الفترة كهنيدي وآدم، بل ومن سبقوه من المضحكين، فهي لا تأتي من الإيفيهات الصارخة، بل من التعليقات العادية والذكية في آن، كأنه يمارس دردشة خفيضة الصوت فوق مقهى.

يلتفت فنان الكاريكاتير مخلوف، إلى ذلك التكوين الذي جعل منه اختيارًا مثاليًا للمخرج محمد أمين: كمواطن عادي يمر بظروف غير عادية، كأفضل تعبير عن كوميديا أحمد عيد، فهو دائمًا مواطن عادي يشبه الكثير منا في ملامحنا وجسمنا وطبقتنا الاجتماعية، قدرتنا وحظنا والاختيارات التي نضطر إليها، لكن يمر بظروف غير عادية، مثلنا تمامًا، ظروف متقلبة عبثية ظالمة، تذكرنا بالكوميديا السوداء، التي عشناها منذ العام 2005 وحتى الآن.

جملة عادية من تتر ليالي الحلمية: “ليه يا زمان ما سبتناش أبريا” تتحول على لسان أحمد عيد إلى إيفيه يعبر عن إحباطات جيل، المضحك هو الطريقة العادية التي نطقها بها عيد، كما أسلفت سابقًا كصديق محبط على مقهى مع أصدقائه.

تقول النميمة غير المثبتة، أن مشاركة الفنان أحمد في 25 يناير، هي وراء استبعاده من ساحة العمل الفني أو صعوبة تواجده على الساحة الفنية، فهو مثلا لم يعمل في السينما من بعد عام 2011 وحتى عام 2016، وقدم فيلمين فقط، في عامي 2017، وعامي 2018 على التوالي، هما ياباني أصلي، وفيلم خلاويص، الذي يشير إلى تدخل السلطة السياسية لإنتاج أخبار تضلل النظر عن المشاكل الحقيقية التي يواجهها المواطن، ولو دفعها ذلك إلى التأكد من وجود طفل في السجن متهمًا بجرائم نتيجة تشابه اسمه مع اسم أحد الجناة. تبدو فكرة كتلك كـ”تفليتة” في عصر لا يسمح لأفكار كتلك أن تنتج في السينما.

ينكر أحمد عيد ذلك الرأي، ويرى أنه كان مقلًا بسبب إصراره على وجود نص جيد، ولا يمكنني تكذيبه بالطبع، فمن المهم أنه عاد في النهاية، وربما بدا لي تائهًا بدون محمد أمين، وربما يكون غيابه أرحم من أن يقع في شرك محمد صبحي، الذي بانفصاله عن لينين الرملي، بدأ في التأليف مستبدلًا المفكر بالمصلح الأخلاقي الجامد، وكان أحمد عيد قريبًا إلى درجة كبيرة من الوقوع في هذا الشرك، في أفلام كرامي الاعتصامي، أنا مش معاهم. فالرؤية شيء مختلف عن أن تكون المرجعية الوحيدة هي الأخلاق بمفهومها الجامد.

أتمنى أن يعود أحمد عيد لمواصلة مشروعه الكوميدي، وألا يقع في فخ الخلط بين كوميديا تنشأ عن رؤية وقضية وبين حشر العظة، ففي ذلك الفارق الدقيق يكمن أن تكون تلك الكوميديا فنًا حقيقيًا.

كان شارلي شابلن مثلًا -على سبيل المثال- ينتج أفلامه من خلال رؤية تواجه سلطة المجتمع والشرطة وتحكم الآلة، لكنه كان مخلصًا للفن وللكوميديا ولدوره كمضحك، لذا عاش خالدًا في أذهاننا، لكن منذ فيلم الديكتاتور العظيم الذي نطق فيه للمرة الأولى بخطبة، وكانت خطبة جيدة، لكنها غير فنية، فوقع في ذلك الخلط، وفي مؤتمر صحفي عقد عقب فيلم مسيو فيردو، كان قد تعرض لهجوم قاس ومتربص بسبب آرائه السياسية التي لم ترض الولايات المتحدة الأمريكية في فترتها المكارثية اللعينة، لذا لم يكن أي انتقاد موجه إليه من تلك الزاوية، انتقادًا أمينًا بل انتقاد يجبره على الخرس كفنان، لكن أقسى وأصدق انتقاد تعرض له كان من صحفية، عندما دافعت عن حقه في أن يعتنق ما شاء من الآراء، إلا أنها تحمل اعتراضًا واحدًا تجاهه: لم يعد كوميديانًا جيدًا منذ أن قرر أن يضع رسائل هادفة داخل أفلامه، لتنهي تعليقها قائلة: “لقد خذلت جمهورك”.

عزيزي أحمد عيد.. إن واتتك الفرصة مجددًا لاستكمال مشروعك.. لا تخذل جمهورك.