خلال الأسابيع الأخيرة، هبّت رياح الخلافات العلنية بقوة بين رأسي المكوّن العسكري في السودان، عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ومحمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، قبل أن تهدأ تلك العاصفة مؤقتًا باتفاق الطرفين على تكوين لجنة أمنية مشتركة لمتابعة الأوضاع الأمنية بالبلاد.

الخلاف بين قادة الجيش والدعم السريع، تفاقم حول الموقف من “الاتفاق الإطاري” وإصلاح قطاع الأمن والدفاع والعلاقات الخارجية، وسط محاولات مدنية وعسكرية للتوسط بينهما؛ خوفًا من اندلاع مواجهات مسلحة بين القوتين، تهدد الجهود المضنية للانتقال الديمقراطي بالسودان.

في جوهر الأزمة، فإن التباين بين المكوّنات العسكرية وبعضها البعض، والمدنية وبعضها البعض يتجلى بوضوح. فالمكوّن العسكري ينقسم بين جيش وقوات دعم سريع، والمكوّن المدني ينقسم بين “الحرية والتغيير- المجلس المركزي” و”الحرية والتغيير- الكتلة الديمقراطية”، والفصائل المسلحة حيث الفصيل الواحد ينقسم إلى اثنين إثر الانشقاقات. وهنا يتموضع كل طرف ويتحالف مع طرف آخر وفقًا لمصالحه الآنية؛ فتزداد خريطة المشهد تعقيدًا.

ماذا حدث؟

في الثامن من مارس/آذار الجاري، شن حميدتي، هجومًا لاذعًا على العسكريين الذين يسيطرون على مقاليد الحكم في البلاد، قائلًا إنهم “يعارضون التنحي للسماح بانتقال ديمقراطي في ظل إدارة مدنية”. وأشار إلى أن صراعه مع القادة العسكريين الآخرين، يتمحور حول مسألة تسليم السلطة للمدنيين.

وأضاف متحدثًا لقوات الدعم السريع -التي تعتبر قوات عسكرية شبه نظامية أنشأها الرئيس السابق عمر البشير لمواجهة التمرد في دارفور- في قاعدة عسكرية في العاصمة الخرطوم “نحن ضد أولئك الذين يقفون ضد تسليم السلطة إلى حكومة مدنية. ونحن ضد أي شخص يريد أن يكون ديكتاتورًا”.

عُد ذلك، تنصلًا واضحًا من قبل حميدتي، الذي شارك البرهان في انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، قبل أن يعيد تموضعه -وهو أمر طالما اشتهر به- مُصرحًا بأن الانقلاب كان “خطأ”، وأنه كان “بوابة لعودة النظام القديم”، وذلك ضمن حملته في الأشهر الأخيرة لإعادة تشكيل صورته العامة وصورة قواته، وفقًا لوكالة أنباء”أسوشيتد برس”.

ويُعتقد أن تصريح حميدتي أتى ردًا على خطاب البرهان، الذي تحدث عن ضرورة دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني ضمن الاتفاق السياسي، من أجل تكوين جيش وطني سوداني موحد.

لذا، استدعى الأمر ردًا من قبل الجيش الذي جدد في بيان رسمي التزامه بالعملية السياسية و”الاتفاق الإطاري” الذي يفضي إلى توحيد المؤسسة العسكرية وتشكيل حكومة مدنية لحين إجراء انتخابات، خلال فترة انتقالية مدتها 24 شهرًا.

وقال البيان على لسان المتحدث باسم القوات المسلحة: “مزايدة البعض على مواقف القوات المسلحة وهي أول من بادر بالخروج من العملية السياسية، والحديث عن عدم رغبة قيادتها في إكمال مسيرة التغيير والتحوّل الديمقراطي في محاولات مكشوفة للتكسب السياسي والاستعطاف، لن تنطلي على فطنة وذكاء الشعب ووعي ثوار وثائرات وشباب بلادنا”.

الاتفاق يشعل الخلاف

يُنظر إلى “الاتفاق الإطاري” -الذي وُقع في ديسمبر/كانون الأول الماضي- على أنه السبب في تجدد الخلافات بين الرجلين. إذ ورغم توقيعهما على نصه بخروج المؤسسة العسكرية من السلطة، فإن تصريحاتهما اللاحقة كشفت عن تباين، فبينما أقرّ حميدتي بـ”فشل الانقلاب”، وأعلن دعمه الكامل للاتفاق باعتباره مخرجًا، بدت تصريحات البرهان كمحاولات للتملص من الاتفاق، وسرعان ما تحول هذا التباين إلى “ملاسنات”.

تبدى ذلك في موقف البرهان بضرورة أن يشمل الاتفاق الإطاري أطرافًا أخرى (وهو نفس الموقف الرسمي الذي تتخذه القاهرة الجار التاريخي للسودان). أما حميدتي، فجدد التزامه بالاتفاق الإطاري، مشيرًا إلى أن “الاتفاق حزمة واحدة يجب أن تنفذ كلها دون تجزئة”، في مغازلة واضحة لقوى الحرية والتغيير.

بابكر فيصل، القيادي بالحرية والتغيير وأحد عرابي الاتفاق الإطاري، حذر في مقال له، من حرب أهلية شاملة قد تنشب بسبب سعي “القوى المضادة للثورة وفلول النظام البائد” لتأجيج نيران الصراع المسلح بين القوى العسكرية.

وقال إن هذه القوى “لا تأبه لمصير الوطن مقابل عودتها للحكم”. ودعا فيصل إلى حل “المعضلة الخطيرة” عن طريق تسريع التوقيع على الاتفاق السياسي النهائي، وتحقيق الإصلاح الأمني والعسكري والجيش القومي الواحد.

واعتبر الاتفاق “الفرصة الوحيدة، وربما الأخيرة، المتاحة للاتفاق على هذه القضية وإيجاد حل سياسي.. دون ذلك، فإن الاحتمالات مفتوحة على خيارات أخرى، وتأتي في مقدمتها المواجهة العسكرية، التي ستقود لا محالة لحرب أهلية شاملة”.

وسبق أن نقلت صحيفة “سودان تريبيون” -في سبتمبر/ أيلول الماضي- عن مسئولين سودانيين أن إرشادات قدمها مقربون من حميدتي وتحليلات أجرتها استخبارات الدعم السريع أكدت أن البرهان سعى عقب الانقلاب والإطاحة بحكومة عبد الله حمدوك، لتعزيز سيطرته على مفاصل الخدمة المدنية، وإعادة الإسلاميين عبر قرارات قضائية لضمان الولاء. وجاء اتخاذ البرهان لتلك الخطوة “المحفوفة بالمخاطر” للحد من سيطرة حميدتي عليها.

ونقلت الصحيفة عن مستشار سابق لحميدتي أن الجزئيات الخاصة بإعادة “الإسلاميين” ومنسوبي النظام السابق لوظائفهم بالخدمة المدنية، ذات أهمية بالغة في التأثير على أحلام قائد الدعم السريع من منطلق مشاعر الكراهية التي لا يخفيها الإسلاميون لحميدتي وربما “تشكل خطوة حاسمة في مصير صراعه للسيطرة عليها. خاصة بعد الضغط المقصود عليه للقبول بهيكلة ودمج قواته في الجيش”.

ولكن قد يكون هذا التسريب متعمدًا من قبل حميدتي في إطار محاولته اجتذاب القوى اليسارية والليبرالية المعادية للإسلاميين، خاصة أنه يحاول التحالف معهم حاليًا.

دمج قوات الدعم السريع

يعتبر دمج قوات الدعم السريع في القوات المسلحة، إحدى نقاط الخلاف الأساسية حاليًا، بسبب وجهات النظر المتباينة بين الطرفين بشأن الدمج. مصادر متطابقة من الجيش السوداني ذكرت لموقع “الشرق” السعودي، أن قيادة الدعم السريع تتردد في دمجها بالقوات المسلحة.

المصادر ذكرت أن الاتفاق الإطاري أعطى الدعم السريع استقلالية عن القوات المسلحة على أن يكون البرهان قائدًا للقوات المسلحة وحميدتي قائدًا للدعم السريع، وأن يخضع كلاهما للرئيس المدني الذي سيعين بمقتضى الاتفاق الإطاري، وهو ما يرفضه الجيش.

تبدى هذا الملف، في تنفيذ وحركة الانتشار لقوات الدعم السريع في دارفور. إذ قالت مصادر عسكرية لـ”سودان تربيون” إن قيادة الجيش رفضت نشر قوات الدعم السريع بشكل “انفرادي” دون التنسيق مع القوات المشتركة الموجودة حاليًا في دارفور.

وعلى جانب آخر، ذكرت تقارير أنه مع الشروع في ترتيبات المرحلة الجديدة التي تعقب مغادرة المكون العسكري السلطة وتسليمها إلى حكومة مدنية تدير البلاد خلال مرحلة انتقالية، وجد حميدتي أنه بعد حل مجلس السيادة سيصبح عضوًا بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي سيضم القيادات العسكرية في الجيش والمدير العام للشرطة والمدير العام للاستخبارات، متساويًا في العضوية معهم دون أن يتميز عليهم بصفة أخرى، مما يعني تقليص صلاحياته وربما إخراجه من المعادلة السياسية.

يرى الناشط الحقوقي الصادق حسن أن الحملات الإعلامية المتبادلة لن تفضي إلى صدام الطرفين؛ لأن ذلك ضد مصلحتهما معًا “المؤسسة العسكرية السودانية تسعى للحفاظ على مصالحها الحالية، في البقاء داخل المشهد السياسي، ولن تغامر بما قد يخرجها منه”.

وأضاف “حميدتي من جانب آخر صنع إمبراطورية سياسية واقتصادية وعلاقات عابرة للحدود ولن يفرط فيها. وهو يرى الاتفاق الإطاري أداته للمحافظة عليها؛ لذلك لن يدخل في حروب قد تفقده كل شيء”. لكن وزير الإعلام السابق في حكومة حمدوك، فيصل محمد صالح، يظن أن “البرهان أقل التزامًا بالاتفاق، وتبدو عليه الرغبة في الخروج عليه، وسيفعلها متى ما امتلك القوة والإمكانات الكافية”.

العلاقات الخارجية في الصورة

مثلت إدارة الملفات الخارجية -ولا تزال- تحديًا كبيرًا للجانبين، بحسب المصادر العسكرية التي أوضحت أن أبرز القضايا الخلافية في هذا الملف تتمثل في العلاقات بين السودان وإسرائيل وروسيا إلى جانب العلاقات مع الدول المجاورة.

ويتهم الجيش، حميدتي بالسعي لخلق علاقات دبلوماسية موازية للدولة، ودلل على ذلك بزياراته إلى عدد من الدول التي يزورها البرهان ما يعطي إيحاءً بأن هناك قائدين للبلاد.

وذكرت مصادر دبلوماسية لـ”الشرق”، أن هناك تنافسًا بين الرجلين لفتح قنوات اتصال مع إسرائيل. إذ يسعى حميدتي لتأسيس علاقة مع جهاز “الموساد”، وهو ما دفع البرهان وحمدوك للاحتجاج لدى الجانب الإسرائيلي قبل الانقلاب.

ولاحقًا، قرر البرهان تسليم ملف العلاقات مع إسرائيل إلى اللواء متقاعد مبارك بابكر في إبريل/نيسان 2022، لتوحيد قنوات الاتصال بين البلدين. وهي خطوة هدفت لوضع العلاقة في إطارها الصحيح، بحسب عسكريين. ويبدو أنه نجح في ذلك، إذ أعلن حميدتي عدم علمه بزيارة وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين إلى الخرطوم، مطلع فبراير/شباط الماضي، وأنه لم يلتق به أو الوفد المرافق له.

أما على صعيد العلاقات مع روسيا، فقد نشب خلافًا كذلك بين الرجلين باعتبار أنها تؤثر بشكل مباشر على علاقة الخرطوم مع واشنطن. ففي فبراير/شباط 2022 وفي زيارة مثيرة للجدل، سافر حميدتي إلى العاصمة الروسية موسكو والتقى الرئيس فلاديمير بوتين ووزير الخارجية سيرجي لافروف. وهي الزيارة التي تزامنت مع بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.

أثار ذلك حفيظة الجانب الأمريكي، وعقدت القائمة بأعمال السفارة الأميركية في الخرطوم، لوسي تاملين، اجتماعًا مع البرهان وعدد من أعضاء المكون العسكري، استفسرت خلاله عن سبب زيارة حميدتي. ورد البرهان بأن حميدتي زار موسكو بصفته قائدًا لقوات الدعم السريع وليس نائبًا لرئيس مجلس السيادة.

ماذا يحمل المستقبل؟

“سياسة حافة الهاوية التي تتم عبر مسارات متوازية قد تكون قاتلة لإمكانية تعافي السودان في حالة تشكيل حكومة جديدة.. لم يُظهر أي من الجنرالين حسن النية، بخلاف الخطاب الفارغ بأنهما مستعدان للتنازل عن السلطة لحكومة مؤيدة للديمقراطية. كما يتجلى في المخاطر الكبيرة الحالية بينهما بشأن مستقبل حميدتي في المجلس العسكري، والرؤى المتصارعة حول الاندماج في جيش موحد”، تقول خلود خير، المدير المؤسس لـConfluence Advisory، وهي مؤسسة فكرية في الخرطوم.

وتضيف –في تحليل لمعهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط– “لقد أدى شد الحبل بين الجنرالات إلى تهديد الأمن المحلي والإقليمي للسودان ويهدد بفعل المزيد إذا لم تعترف العمليات السياسية بالبرهان وحميدتي على حد سواء بوصفهما فاعلين سيئي النية، بدلاً من كونهما ركائز محتملة للاستقرار”.

وتوضح أن الجهات الفاعلة الإقليمية، لا سيما في أبوظبي والقاهرة، كانت تسعى بنشاط إلى اتباع نهج أمني مع “مرشحيهم المفضلين” حميدتي والبرهان على التوالي. مع تحفيز الولايات المتحدة على ما يبدو للرجلين، بشكل منفصل؛ لمواجهة درجات متفاوتة من النفوذ الروسي. “الافتقار إلى نهج مشترك لقطاع الأمن يزيد من ترسيخ الانقسامات. وقد يصبح من الصعب قريبًا معرفة الفرق بين مقاربات الغرب والآخرين”، تختتم خير.