يصعب القفز إلى استنتاجات أخيرة لما قد يحدث بعد المصالحة السعودية الإيرانية.
تناقضات المشهد الإقليمي تطرح تساؤلات وتحديات لا يمكن تجاوزها بالرغبة المشتركة وحدها في طي صفحة الخلافات، أو بالتقاط صور تذكارية غير مسبوقة بالعاصمة الصينية التي احتضنت التفاوض.
خطوة المصالحة تطور جوهري في الأجواء الإقليمية الملبدة بالأزمات تساعد على تهدئة التوترات وحلحلة أزمات شبه مستعصية.
هذه حقيقة لا شك فيها.
لم تكن المصالحة مفاجـأة كاملة، ولا كان سيناريو التهدئة مستبعدًا في الأفكار والتصورات التي حلقت فوق الخليج على مدى عامين كاملين جرت خلالهما جولات تفاوض في مسقط وبغداد.
لمرات عديدة تردد علنًا على لسان قيادات قريبة من ملف التفاوض أن ثمة تفاهمات إيجابية جرى التوصل إليها دون أن يكون واضحًا حدودها وطبيعتها وموعد إعلانها.
بدا كل شيء معلقًا على مفاوضات أخرى في فيينا بشأن إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
ارتهن مشروع التصالح على إرادات أخرى ومصالح متداخلة أمريكية وأوروبية وإسرائيلية.
أفضل ما يُنسب للمصالحة السعودية الإيرانية أنها فكت الارتباط مع الاتفاق النووي الإيراني دون انتظار لما تسفر عنه مباحثات فيينا المعطلة.
فكرة الارتباط تعني بالضبط أن تشرف واشنطن على إعادة ترتيبات المنطقة بعد التوصل إلى تسوية للملف النووي.
لم تكن هناك مشكلة في نصوص الاتفاق النووي، فقد أقر على عهد “باراك أوباما” عام (2015)، قبل أن يلغيه “دونالد ترامب” فور صعوده إلى البيت الأبيض.
تلخصت المشكلة عمليًا في الإجراءات والتصرفات والأثمان التي يتعين على طهران أن تلتزم بها، أهمها وأخطرها مشروعها الصاروخي الباليستي وأدوارها الإقليمية.
المصالحة بالطريقة التي جرت بها بدت اختراقًا في قواعد الإدارة الأمريكية لأزمات الشرق الأوسط، لكنها ليست زلزالًا سياسيًا يؤذن بمرحلة ما بعد الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
اللعبة في أولها والتحديات ماثلة في تعقيدات المشهدين الإقليمي والدولي.
بعد فورة التوقعات بدا أن هناك ميلًا لإبداء الحذر من الإفراط في التفاؤل فـ”الاتفاق لا يعني حل جميع الخلافات” بتعبير وزير الخارجية السعودي “فيصل بن فرحان”.
هكذا فإننا أمام نصف انقلاب إقليمي، تمركزات وحسابات ومصالح اهتزت دون أن تتبدى أوضاعًا جديدة مفارقة.
أنصاف الانقلابات تعطي رسالة وعكسها بالوقت نفسه، قد تفتح المجال لتغيير كبير في حسابات وتوازنات الإقليم، أو قد تتقوض رهاناتها في منتصف الطريق وربما أوله!
بالنسبة للسعودية فإن للمصالحة ضروراتها في وقف النزيف الاقتصادي والعسكري الذي تتعرض له في حرب اليمن بالإضافة إلى النزيف الفادح في الصورة.
إنهاء الحرب اليمنية يفضي بالضرورة إلى تأمين خاصرتها الجنوبية وحماية أراضيها من أية ضربات صاروخية دأب الحوثيون على إطلاقها استهدافًا لمواقع نفطية وحساسة.
وبالنسبة لإيران المأزومة في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية بأثر العقوبات الأمريكية عليها والمحاصرة في محيطها المباشر بدواعي التوتر مع دول الجوار فإن مصلحتها تقتضي اختراق الحصار بالمصالحة مع البلد الخليجي الأكبر.
بحسابات وضغوطات أمريكية وإسرائيلية تعطلت المصالحة رغم أن الطرفين المعنيين مباشرة يطلبانها دون تردد كبير.
بالوقت نفسه تصاعدت دعوات بناء تحالف عسكري ضد إيران أطلق عليه “الناتو العربي” فيما تقوده إسرائيل فعليًا.
كان ذلك خيارًا انتحاريًا لأية قيمة في العالم العربي.
بصياغة المحلل الإسرائيلي “تسيفي برئيل” في “هاآرتس”: “لقد تلاشى حلم إسرائيل في إقامة تحالف عربي دولي ضد إيران”.
اللافت هنا أنه زج باسم مصر في عبارة موحية: “المصالحة تمنح إيران شرعية أساسية بين الدول العربية، وقد تؤدي لاحقًا إلى علاقات دبلوماسية مع دول أخرى مثل مصر”.
إنها مصر رغم كل شيء، دورها ومستقبلها في ثنايا المشهد الإقليمي المتحول
دخول الصين على خط المصالحة بدا اختراقًا جديدًا لحسابات وموازين القوى في عالم يتغير.
لم يعهد عن الصين لعب مثل هذه الأدوار، لكنها تقدمت إلى الوساطة وأنجزت المهمة في خمسة أيام.
بحكم علاقاتها الجيدة مع البلدين اكتسبت دور الضامن.
إننا أمام صين جديدة تتقدم إلى المسرح الدولي بثقل سياسي يضيف إلى وزنيها الاقتصادي والعسكري صفة الدولة العظمى.
لم تكن محض مصادفة تدخلها بالوساطة بتوقيت واحد في أزمتين معقدتين أولاهما إقليمية، بالمصالحة السعودية الإيرانية وثانيتهما دولية بالوساطة لإنهاء حرب المنهكين الأوكرانية رغم تحالفها الافتراضي مع موسكو.
بالمعلومات المتاحة لم تكن موسكو بعيدة عن مشروع المصالحة.
سألت السعودية عبر وفد رفيع أرسلته إلى موسكو إذا ما كانت مستعدة أن تلعب دورًا لدى الحوثيين يوقف الهجمات التي تتعرض لها من وقت لآخر.
كان الرد الروسي: “نحن نفضل أن يكون الكلام مباشرة مع إيران”.
كانت الصين جاهزة تمامًا لاستضافة جولة التفاوض الأخيرة على خلفية إشارات وتفاهمات جرت أثناء القمة العربية- الصينية بالرياض في ديسمبر (2022).
باليقين فإن الولايات المتحدة خسرت بفداحة في حسابات الصورة والهيبة، لكنه لا يمكن الادعاء أن أدوارها انتهت كليًا وتحالفاتها التاريخية مع السعودية تقوضت تمامًا.
كل ما جرى أن التفكير السياسي في السعودية استثمر في أزمة الطاقة المتفاقمة على خلفية الحرب الأوكرانية لاكتساب نقاط جديدة في إدارة مصالحه.
نحن الآن أمام اختبارات حقيقية ومنهكة سوف تحكم على حدود المصالحة وفرصها في تأسيس خرائط إقليمية جديدة.
الاختبارات كلها ملغمة، لا يوجد اختبار واحد يمكن تجاوز تعقيداته بسهولة متوهمة.
لتخفيف وطأة الضربة السياسية التي تلقتها الإدارة الأمريكية أعلنت على لسان “جون كيربي” المتحدث باسم مجلس الأمن القومي أنها كانت على علم مسبق بهذه الخطوة.
هناك فارق بين إبلاغ الإدارة من حليف تاريخي كالسعودية بأنه سوف يعلن اتفاقًا للمصالحة مع إيران من بكين، وبين أن تكون طرفًا مباشرًا يحدد الأولويات ويضبط الإيقاع وفق مصالحه وتصوراته.
الترحيب الأمريكي بالمصالحة أقرب إلى مراوغة دبلوماسية.
بمنطق المصالحة فإنها سعي لتخفيف التوتر الإقليمي وإنهاء الحرب في اليمن على رأس الأولويات، وهذا ما لا يقدر أحد على الاعتراض عليه.
“سوف ننتظر مدى التزام إيران بأية تعهدات قطعتها على نفسها”.
كانت تلك عبارة ملغمة في التصريحات الرسمية الأمريكية.
بتعبير لافت للرئيس الأمريكي “جو بايدن” نفسه: “كلما كانت علاقات إسرائيل وجيرانها أفضل كان ذلك أفضل للجميع”.
المعنى هنا أن التطبيع ماثل في صلب الموقفين الأمريكي والإسرائيلي ثمنًا استراتيجيًا مقابلًا للمصالحة السعودية الإيرانية.
قبل إعلان المصالحة بساعات أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتانياهو” من روما عن تطبيع مرتقب مع السعودية وخطط لمد خط سكك حديدية بين المملكة وحيفا يستهدف كما أوحى قناة السويس.
مصر وقناة السويس مرة أخرى.
المصالحة بدت صدمة حقيقية لـ”نتانياهو” وتهديدًا لطموحه أن يستكمل الاتفاقات الإبراهيمية بتطبيع العلاقات مع السعودية وإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي حتى يمكنه الاستفراد بالضحية الفلسطينية قتلًا وتشريدًا دون أي غطاء عربي.
إلى أي مدى تقدر السعودية على تحدي الضغوط الأمريكية المتوقعة للتطبيع بأقرب وقت ممكن مع إسرائيل؟
إذا ما استطاعت أن تصمد أمام هذه الضغوط فبوسعها أن تتطلع لدور أكبر في العالم العربي، وإذا استسلمت فإن مثل هذا الدور يستحيل سرابًا.
هناك أربعة ملفات إقليمية ملتهبة تدخل في اختبارات المصالحة.
الملف الأول الأكثر إلحاحًا وخطورة، وقف النزيف اليمني.
المصالحة الداخلية ممكنة، لكنها لن تكون يسيرة بالنظر إلى تعقيدات الحقائق على الأرض وتداخل أطراف عديدة متباينة، أو متناقضة فيه.
عشية الإعلان عن المصالحة السعودية الإيرانية انعقدت في عدن اجتماعات متواصلة لـ”هيئة التشاور والمصالحة”، للبحث في صياغة وثيقة سياسية لـ”إطار رؤية السلام الشامل ومبادئ المصالحة بين المكونات السياسية” و”تشكيل وفد التفاوض المشترك مناصفة بين الشمال والجنوب”.
كان ذلك تمهيدًا مقصودًا لمفاوضات بين الفرقاء اليمنيين.
لم يكن أحد في عدن على علم بأن شيئًا يوشك أن يعلن في بكين، لكن الجو العام أعطى انطباعًا قويًا بأن تغيرًا ما قد يحدث يتعين معه أن تكون هناك جاهزية تفاوضية.
الملف الثاني، الأزمة اللبنانية المستحكمة.
يستلفت النظر أن حزب “الله” لم يكن على علم بما يجري في كواليس المصالحة.
قبل أيام قليلة من إعلانها صرح زعيمه “حسن نصر الله”: “الذين ينتظرون تسوية إيرانية سعودية سوف ينتظرون طويلًا”.
المعنى هنا أن الطرفين السعودي والإيراني تكتما المصالحة على حلفائهما الإقليميين خشية أن تتسرب معلومات وتتداخل قوى دولية وإقليمية تعطل الفكرة كلها.
الملف اللبناني قابل للحلحلة أكثر من اليمني، لكن لكل خطوة أثمانها لتخفيف حدة الاحتقانات السياسية والاقتصادية، وبعض الأثمان يصعب تمريرها!
الملف الثالث، سوريا ومستقبلها.
إيران متداخلة جوهريًا والسعودية دورها تقوض بسوء إدارة فادح.
لا يوجد دور سعودي يعتد به الآن باستثناء رفع الحظر الذي كانت تبديه في إعادة دمج سوريا بالجامعة العربية.
مستقبل الأزمة السورية قضية إقليمية ودولية تتداخل فيها بالإضافة إلى إيران.. تركيا وروسيا وأمريكا بتمركزات عسكرية واستخبارية.
الملف الرابع، العراق الذي تقادمت عليه محن الاحتلال وانتهاك ثرواته وحقوقه وسيادته.
العراق يحتاج بنية سياسية صحية وحديثة وحرب حقيقية على الفساد المستشري حتى يتعافى بعد عشرين سنة من احتلاله، وهذه قضية تحتاج إلى العالم العربي كله، وحوارات جادة مع الجار الإيراني في الألغام الماثلة التي يتعين تجاوزها.
بدرجة أو أخرى إذا ما عادت سوريا وتعافى العراق فإن شيئًا من التوازن قد يعود إلى مشرق العالم العربي.
المعضلة الدبلوماسية المصرية أمام التطورات الجارية الدراماتيكية أنها إذا أقدمت على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران قد يكون ذلك محرجًا، وإذا تلكأت في اتخاذها فإنها تنعزل عن تفاعلات محيطها وتحكم على نفسها بالذبول السياسي.
تلكأت مصر طويلًا في الحديث مع إيران بالعلن الدبلوماسي، كان يمكنها أن تفعل ذلك على الأقل منذ عام (2014) حين كان الإيرانيون يطرقون الأبواب طلبًا للحوار وإعادة العلاقات دون جدوى.
أفضل الخيارات المتاحة إعادة العلاقات الدبلوماسية مع طهران ودمشق بوقت واحد، وعدم الاعتداد بأية ضغوطات أمريكية وإسرائيلية.
إذا ما أدركنا قيمة الوزن التاريخي لمصر فإن الحاجة إليها ماسة في التسويات المحتملة للملفات الإقليمية الملغمة ولا ينبغي أن تنعزل عنها بأية ذريعة.