كنت قد كتبت تعليقات أولية على اتفاق إعادة العلاقات السعودية- الإيرانية بوساطة وضمانة صينية صبيحة الإعلان عنه، وتكرم الزميل عصام شعبان -مشكورا -بتضمينها في تقريره الشامل حول الاتفاق هنا في موقع “مصر 360 “.

كان أول بند في تلك التعليقات هو أن هذا “تصالح المتعبين”، ولا أظن أن القارئ يحتاج إلى كثير من الشرح لإثبات شعور كل من الرياض وطهران بالإنهاك والاستنزاف، جراء المواجهة والحروب بالوكالة بينهما، على اتساع منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية. بدءا من اليمن، أو وصولا إليه، وامتدادا حتى شرق إفريقيا، وعلى عرض المشرق العربي من العراق حتى لبنان، مرورا بسوريا بطبيعة الحال. مضافا إلى ذلك غبار المواجهة الأمريكية- الإيرانية، والإسرائيلية- الإيرانية حول برنامج طهران النووي.

كل ذلك فيما أخفقت كل من الدولتين في تحقيق انتصار نهائي أو شبه نهائي على الأخرى، في أي من تلك الساحات العديدة. وفيما لا يلوح في الأفق إمكانية لتحقيق مثل هذا الانتصار هنا أوهناك في مستقبل مرئي، بينما يشهد النظام العالمي تحولات، أو بوادر تحولات كبيرة على قمته، وفي سفوحه. وهي تحولات تنطلق في معظمها من الشرقين الآسيوي والأوراسي، حيث الصين، وتبعات بروزها إقليميا ودوليا، ثم رمانة الميزان الهندية، وإعادة بناء وتوجيه التحالف الأمريكي مع اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان واستراليا وبريطانيا في آسيا، حيث الحرب الروسية على أوكرانيا في النطاق الأوراسي، كتعبير عن قلق المكانة والدور، وأشواق العظمة الضائعة لدي موسكو. وهو ما يلتقي في جانب منه مع طموح بكين لإقامة نظام دولي متعدد الأقطاب.

على أية حال، فقد تناول الزملاء الذي سبقوني في الكتابة هنا، وفي منصات أخرى، الكثير من هذه الخلفيات والزوايا. لذا، أركز حديثي على ثلاث زوايا محددة. هي، أولا: قضية الأمن الخليجي بين أمريكا والصين، وثانيا: آثار المصالحة السعودية- الإيرانية على العلاقات الخليجية- الإسرائيلية. وثالثا: بدائل الحركة في الإقليم أمام مصر، على خلفية تلك التطورات الإقليمية والدولية.

الأمن الخليجي بين واشنطن وبكين

قياسا على ما كان يقال في ماض ابتعد كثيرا حول قضية السلام والحرب في الشرق الأوسط، إنه “لا حرب بدون مصر، ولا سلام بدون سوريا”. فإنه يصح القول حاليا إنه لا حرب في الخليج بدون أمريكا، ولا سلام فيه بدون الصين.

فبما أن أحد طرفي المواجهة في الاقليم الخليجي، أي إيران، هو في حالة عداء مستحكم متعدد الجبهات مع الولايات المتحدة منذ عشرات السنين. فمن البديهي أن تكون واشنطن صفر اليدين، ليس فقط من رصيد الثقة والمصداقية من جانب إيران، ولكن أيضا صفر اليدين من أدوات التأثير على السياسة الإيرانية. خاصة وأن الأمريكيين لم يتركوا منذ الإطاحة بالشاه عقوبة إلا وفرضوها على النظام الإيراني.

في المقابل، فإن الصين التي تعتمد في نصف احتياجاتها من الطاقة على إيران والسعودية معا، تحظي برصيد سابق ومتجدد من الثقة في طهران، ورصيد محدّث ومتنام ٍ من الثقة لدي الرياض، وهو ما يؤهلها للوساطة. والأهم، أنه يؤهلها لتوفير الضمانات اللازمة لتنفيذ الالتزامات المتبادلة، وتوسيع المساحات المشتركة لبناء الثقة، وربما التعاون الثلاثي في مراحل تالية.

لكن ذلك شيء، والاعتماد المطلق على الولايات المتحدة في حفظ الأمن الخليجي بالمعني الدفاعي شيء آخر. وهنا ننبه إلى خلط يقع فيه الكثيرون بين درجات أو مستويات الأمن القومي، فليس كل تهديد أمني هو تهديد كبير أو شامل أو وجودي. فعلى سبيل المثال، لا يتساوى قصف الحوثيين في اليمن أهدافا داخلية في السعودية مع غزو صدام حسين للكويت، ولا يضاهي احتلال إيران القديم لجزر إماراتية أو تفجير إرهابي هنا أو هناك في السعودية، اجتياحا إيرانيا للبحرين (على سبيل الافتراض)، أو تمردا شيعيا يطيح بالأسرة الحاكمة هناك.

ففي حالة القصف الحوثي لأهداف سعودية، أو احتلال الجزر الإماراتية، يصنف هذا التهديد على أنه جزئي أو محدود، لا تراه الاستراتيجية الأمريكية كافيا للتدخل عسكريا لمساندة -فضلا عن إنقاذ- السعودية أو الإمارات، سيما وأنه لا يؤثر على المصالح ولا على الهيبة الأمريكية، وإن كان يقلق السعوديين والإماراتيين بطبيعة الحال. أما حالة الاجتياح الأجنبي أو تغيير نظم الحكم بالثورة المدعومة من الخارج، فهذه مما لا تسمح به الاستراتيجية الأمريكية في الخليج حتى الآن، وفي المستقبل المنظور، حتى وإن كان الاهتمام في واشنطن بالخليج قد تضاءل -نسبيا- لحساب الاهتمام بالشرق الآسيوي.

وإذا أردنا أدلة ملموسة على صحة هذا الرأي، فلنتذكر وقاحة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب وهو يقول متباهيا ومبتزا: “لقد قلت لملك السعودية: انظر، إنك بدون حمايتنا لن تبقي على عرشك أكثر من أسبوعين”. ولنتذكر أيضا أن أول ثمن طلبته الرياض من واشنطن مقابل التطبيع الكامل مع إسرائيل كان هو ضمانات أمنية جديدة وصريحة وشاملة. وفقا لما نشرته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية منذ أيام فقط، نقلا عن مسئول في البيت الأبيض. ورغم أن هذه الضمانات الجديدة لم تقدم، فإن ذلك لا يلغي الالتزام الأمريكي القديم والساري بأمن الخليج وعروشه، فضد التهديدات الجسيمة من النوع الذي سبق شرحه.

 

إسرائيل

ما بين الصدمة، والبصقة على وجه نتانياهو، وتبادل الملامة بين الساسة الإسرائيليين، والتحذير من لدغة العقرب الإيراني للضفدع السعودي. تعددت التعليقات الرسمية والصحفية في إسرائيل على مفاجأة التطبيع السعودي- الإيراني، ومع أنه لا يزال من المبكر التنبؤ بالمدي الذي سيصل إليه تأثير هذا الاتفاق على العلاقات الخليجية- الإسرائيلية، وكذلك مع وجوب الانتظار حتى تظهر نتائج ملموسة لهذا الاتفاق في اليمن ولبنان وعلى جبهة النزاع النووي مع إيران. فإنه لا يمكن اغفال بعض النتائج أو المؤشرات الأولية المهمة على العلاقات بين دول الخليج وبين إسرائيل، إذ من المؤكد أن يؤدي خفض التوتر الخليجي مع إيران إلى تهدئة الدافع الأول والأساسي للهرولة الخليجية نحو التطبيع والتعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، ويبطل البلاغيات الرنانة حول ما يسمي باتفاقات ابراهام، أو السلام الابراهيمي.

ويمكن القول إن التطبيع السعودي الكامل مع تل أبيب لم يعد الآن في مقدمة جدول أعمال الرياض، سيما في ظل التوتر المتصاعد في الضفة الغربية، وفي ظل الأزمة السياسية المتفجرة داخل إسرائيل حول النزعات الفاشية والعنصرية لحكومتها الجديدة.

بالطبع ليس متصورا إعادة عقارب الساعة إلى الوراء كلية، ولكن المتوقع والواجب هو وقف -أو إبطاء- مشروعات التعاون الاقتصادي والاستراتيجي الكبرى حول الطاقة والنقل الثقيل والتجارة الحرة بين الجانبين، الخليجي وإسرائيل. بما أن السعودية بثقلها السياسي والاقتصادي القيادي، وبموقعها الجغرافي كحاجز أو حلقة وصل بين الاقليم الخليجي والدولة اليهودية (عبر الأردن والبحر الأحمر) ستبقي دائما ضابط الإيقاع، أو حكم الساحة.

ولعلها مصادفة جاءت في وقتها أن يوم إعلان اتفاق التطبيع السعودي- الإيراني كان هو اليوم الذي أعلن فيه بنيامين نتانياهو رئيس وزراء إسرائيل، من روما أنه بحث مع المسئولين الإيطاليين مشروع تحويل موانئ ايطالية إلى مركز إقليمي لاستقبال صادرات الطاقة الشرق أوسطية وتوزيعها داخل أوروبا. وذلك من مركز تصدير رئيسي هو ميناء حيفا الإسرائيلي، على أن تستقبل حيفا امدادات الطاقة من السعودية وبقية دول الخليج عبر شبكة متكاملة من الناقلات البحرية والأنابيب والسكك الحديدية، وسيكون ذلك أسرع وأقل تكلفة من قناة السويس. أو “بدلا من التركيز على قناة السويس وحدها”، كما قال نتانياهو. فهل كانت هذه الصدفة هي ما جعل يائير لابيد، زعيم المعارضة في إسرائيل، يصف الاتفاق السعودي- الإيراني بأنه بصقه على وجه نتانياهو (مع الأسباب الأخرى طبعا)؟!

البدائل أمام مصر

ليس خطر طموح إسرائيل إلى دور قيادي في تصدير بترول وغاز الخليج والمتوسط إلى أوروبا هو التهديد الوحيد لمصالح مصر الاستراتيجية في الإقليم. وهو الطموح الذي قد يحد منه، أو يبطئه، الاتفاق الأخير بين السعودية وبين إيران، كما قلنا توا. ولكن كان التعاون الاستراتيجي بين الخليجيين وبين الإسرائيليين -ولايزال- يمثل كذلك تحجيما لدور مصر الإقليمي.  وكذلك يفعل كل استبعاد لمصر من أية ترتيبات إقليمية أو داخلية في دول الإقليم المهمة، كالسودان وسوريا وليبيا ولبنان واليمن. وغني عن القول إن العلاقات المصرية مع السعودية وبقية دول الخليج ليست في أحسن أحوالها، بل كلنا نعرف أنه هذه العلاقات تكاد تكون متأزمة.

ومع أننا سعدنا بزيارة وزير خارجيتنا لسوريا، وباستضافة القاهرة مؤخرا لندوات سودانية و لفرقاء ليبيين، وقبلها بالتفاهمات مع العراق والأردن، فإن هذا لا يكفي لمجاراة التحولات المتسارعة في الإقليم وفي العالم، ولمواجهة التهديدات في منابع النيل، وللدور التاريخي لقناة السويس، و لاستعادة ثقة الخليجيين في مكانتنا ودورنا، وكما سبق القول  في تعليقاتي الأولية، التي أوردها تقرير الزميل عصام شعبان -والذي سبقت الإشارة إليه- فلابد من التحرك السريع لإعادة العلاقات بين القاهرة وطهران، و التفاهم مع تركيا عموما، وحول سوريا وليبيا خصوصا، واستعادة التفاهم الوثيق مع السعودية .