الأمر الجيد في قرار  الحكومة تخصيص ألف جنيه مصري سنويا لكل سيدة مصرية تكتفي بإنجاب طفلين، مع صرف ذلك المبلغ عند وصول السيدة سن 45 عاما، هو أنه بداية لطريقة جديدة في النظر إلى مشكلة الزيادة السكانية، طريقة تلجأ إلى التحفيز بدلا من العقاب (على غرار الحذف من البطاقات التموينية)، وتضاف إلى الطرق التوعوية، ووسائل المساعدات على منع الحمل، لكنها بالتأكيد مجرد بداية لا تكفي.

ما دمنا نتكلم عن التحفيز، فإن هناك مستقرة في الاقتصاد المصري (ما دمنا نتكلم عن حافز مالي)، وهي ما يمكن أن نطلق عليه إن صح التعبير “البخل التحفيزي”. يمكنك أن تلاحظ هذه العادة مثلا في الرسائل القصيرة التي تمطرك بها الشركة التي يتبع لها خط هاتفك المحمول، إذ تطاردك الشركة طوال اليوم برسائل تقدم ما يفترض أنه عروض مميزة. بتفحص تلك العروض، ولو من باب التخلص من الصداع الذي تسببه لك، يندر أن تجد منها ما يغريك حقا حتى لو كنت تستخدم هذا الخط منذ عشرين عاما، غالبيتها العظمى “تغريك” بمكافآت مليئة بالأفخاخ، كأن تستخدمها في ساعات محددة، أو تجبرك على أن تستخدم ما هو أكثر بكثير من احتياجك لتحصل على خصم بلا معنى لأنك اضطررت بالفعل لزيادة استهلاكك ومدفوعاتك.. إلخ، على غرار ما تتحدث عنه الصيغة الساخرة “اشتري تسعة بنطلونات لتحصل على العاشر بنصف الثمن”.  بالطبع، يعرف البعض كيف يستفيد من مثل تلك “العروض”، ولكننا نتكلم عن المستخدم العادي، العميل الطبيعي، لا على من يلجأ إلى طرق بهلوانية ليستطيع أن يكسب قرشا هنا أو هناك. أو على بعض التجار الذين يستغلون العروض التجارية للربح من خلال إعادة البيع، لأن بخل التخفيض لا يمكن معه الاستفادة إلا من خلال الكميات الكبيرة.

قد تظن أن تلك هي طبيعة الحال، وأن هذا هو الوضع في كل مكان، لكنك لو كنت ممكن خاضوا تجربة السفر، ولو لفترات قليلة أثناء حياتك، فإنك تعرف أن هذا غير صحيح، وأن العروض في الأسواق التي تنتمي إلى اقتصاد صحي، هي عروض حقيقية، تمنح المستخدم أو المستهلك، مكاسب أو توفيرات حقيقية، وهي جزء مهم من تنافسية اقتصاد السوق، والمساهمة في انتعاشه عبر توسيع قاعدة الاستهلاك.

كنت أود أن أتطرق إلى أسباب ذلك البخل التحفيزي في أسواقنا لكن هذا سيبتعد بنا كثيرا عن موضوعنا، فلنكتف بالقول بأن هذا هو الوضع. وأن ما استدعى المسألة هو المبلغ الزهيد الذي أعلنته وزارتي المالية والتخطيط للمرأة التي تكتفي بإنجاب طفلين.

ألف جنيه سنويا، أي أقل من مئة جنيه شهريا، أي أقل من ثلاثة جنيهات في اليوم. هل يمكن أن يشكل هذا المبلغ الزهيد حافزا في مواجهة اتخاذ قرار مهم كالإنجاب؟ هذا إذا ظلت قيمة الجنيه على حالها ولم تنخفض أكثر حين يحين موعد صرف المبلغ للمستفيدة عند سن 45؟

يسري القرار على السيدات بين عمري 21 و45 عاما، هل تتصور تلك السيدة وهي في سن – لنقل أنه مثلا – الخامسة والثلاثين، وهي تقرر أن تنتظر عشرة أعوام لكي تتمكن من صرف 10 آلاف جنيه سنة 2033؟

وإذا كانت عروض الأسواق وشركات المحمول رغم بخلها تمنحك “المكسب” حالا، وفوائد شهادات البنوك يتنوع عائدها بين الشهري والربع سنوي والسنوي، ويمتد أطولها عمرا إلى ثلاث أو خمس سنوات. فإن الوعد الاقتصادي بمبلغ زهيد تتقاضاه بعد عدد طويل من السنوات، كما في حالة الألف جنيه وتنظيم النسل، لن يكون مؤثرا في قراراتك الاجتماعية والاقتصادية، أو لنقل إن تأثيره سيكون مساويا لنسبته إلى إجمالي مصروفاتك وتحدياتك الاقتصادية، فإذا كان يمنحك في سنة كاملة ما يقل عن ثلث الأحد الأدنى الشهري للأجور، فلا تحتاج إلى أن تكون عبقريا لتعرف أن تأثير القرار سيكون زهيدا جدا أيضا.

وفي مسألة تنظيم النسل يسهل القول أن المشكلة اجتماعية ثقافية، وأنها تكمن في أن الأهل يعتقدون أن “العيل بييجي برزقه” إلى آخر هذه الاعتقادات. لكن في هذا منطق مقلوب ووضع للعربة أمام الحصان، فالثقافة تبرر الواقع وليس العكس، وليس بدليل أكبر من الأموال الهائلة التي يستثمرها المصريون في شهادات البنوك رغم شيوع الأفكار التي تتهم ذلك الاستثمار بالربا. إن سد الحاجة الاقتصادية دائما أقوي وأكبر تأثيرا من العادات الاجتماعية، ولكن بشرط يكون العائد حقيقيا يسد الحاجة، وليس عرضا بخيلا على طريقة عروض شركات المحمول. الفقراء ينجبون أكثر في كل مكان في العالم، لأسباب اقتصادية وخوفا من الغد، وإذا كانت الحكومة قررت أن تقدم تحفيزا ماليا لتنظيم النسل، فإن عليها أن تعرف أن الأمر لا يختلف عن أي سوق، وأن عليها أن تقدم عرضا مناسبا يستطيع أن يقنع “الزبائن”. لكنها قبل ذلك، ينبغي أن تقتنع هي نفسها، بأن النجاح في تخفيض الزيادة السكانية، أشد وفرة بكثير، من “عرض الألف جنيه”.