عندما قامت الحرب الأهلية في روسيا (1918- 1922) كان سن ميخائيل ألكسندروفيتش شولوخوف 13 سنة (مواليد 24 مايو 1905). اختزن شولوخوف كل هذه الأحداث وتركها تتفاعل في روحه، وتتشابك مع أحداث لاحقة مثل ما حدث في سنوات التعقب والقمع والنفي الستالينية في النصف الثاني من ثلاثينيات القرن العشرين، ومع أحداث الحرب العالمية الثانية التي شارك فيها ميخائيل كصحفي ومصور وجندي وكاتب.

اختزن شولوخوف كل التفاصيل ككاتب موهوب في المستقبل، لكي يُظهر وجه الحرب المخيف من جهة، “والوجه الإنساني” للإنسان عموما، وللشعب الروسي المعذب والمنكوب من جهة أخرى. واستطاع شولوخوف في هذه الرواية الملحمية أن يظهر هذا الوجه من أول فقرة في الرواية. وظل يعزف عليه في التراكيب النفسية والذهنية لكل الأبطال رجالا ونساء، وفي تحولاتهم وترددهم وجنوحهم وجموحهم وضعفهم وقوتهم.

قدم ميخائيل شولوخوف (24 مايو 1905- 21 فبراير 1984) للعالم، وللبشرية، واحدة من الملاحم السردية المهيمنة على مستوى السرد والموضوع وجماليات النوع الفني. وفي عام 1965 فازت ملحمته الخالدة “الدون الهادئ” بجائزة نوبل في الأدب. ورفض شولوخوف الجائزة، انطلاقا من موقفه من “الغرب الإمبريالي الاستعماري”. وفي الحقيقة، يمكننا أن نتفادى التأويل والتفسير لكيلا نصدر أحكام قيمة وأحكاما أدبية وتاريخية على الكاتب. فلا أحد يعرف هل رفض جائزة نوبل بسبب ما بثته الدعاية السوفيتية بشأن الإمبريالية والرأسمالية العالمية ووقوف شولوخوف مع الشعوب المغدورة والمتضررة في “أوروبا والغرب المتخلفين” بالمعايير السوفيتية آنذاك، أم أنه كان يخشى التعقب والتهميش، وربما الاعتقال والسجن والنفي بتهمة التعاون مع الغرب الرأسمالي الاستعماري الإمبريالي، أم أنه تلقى إشارات معينة بضرورة رفض الجائزة لفضح الغرب وكشف الرأسمالية العالمية والإمبريالية. تفادي التأويل والتفسير هنا ليس هروبا من تحليل الموقف، ولكن خوفا من الجنوح خارج سياق الحدث وإسقاط أحداث أخرى عليه لا تمت إليه بصله وإنما عادة ما تكون ناجمة عن العصف الذهني وتبني مواقف أيديولوجية مناوئة.

المهم في هذا المقام هو أن الكاتب الروسي حصل على جائزة نوبل في الأدب عن واحدة من أهم الملاحم السردية- الاجتماعية- التاريخية التي تحكي قصة المجتمع الروسي بعد ثلاث ثورات (1905، وفبراير 1917، وأكتوبر 1917) في قالب ملحمي تتشابك فيه المصائر وتتغير فيه الضمائر والتوجهات والولاءات، وتحدث فيه تحولات داخلية بين العاطفي والاجتماعي والإنساني وبين السياسي والعسكري والحربي، وتحولات خارجية في وضع الاتحاد السوفيتي، كدولة وليدة تسعى نخبتها الحاكمة إلى تغيير العالم عبر ثورات شعبية واشتراكية، كل ذلك كان يتضمن أيضا تلك المصائر الإنسانية الهشة التي تعيش حياتها على خلفية تلك التحولات التاريخية المذهلة المخضبة بالدماء والملتحفة بالأمل، بناسها المترعين بحب الحياة والعدميين حتى النخاع والمحبين حتى الوجع والألم والمتناقضين حتى أعمق أعماق أرواحهم.

إن الملاحم الأدبية- السردية الروسية ليست كثيرة ولكنها مؤثرة في الأدب العالمي، منها ملحمة “كليم سامجين” لمكسيم جوركي، ملحمة “الحرب والسلام” لليف تولستوي، وملحمة “الدون الهادئ” لميخائيل شولوخوف. وهناك أيضا ملحمة “يفجيني أونيجين” الشعرية التي كتبها ألكسندر بوشكين في مطلع القرن التاسع عشر، والتي تضمنت خطا دراميا رئيسيا يتماثل ويتناص مع حياة الشاعر نفسه ويتنبأ بتفاصيل موته وبشكل هذا الموت بطريقة ملهمة ومذهلة في آن معا.

لميخائيل شولوخوف روايات وقصص قصيرة أخرى تقف جنبا إلى جنب مع عيون الأدب العالمي في أوروبا وأمريكا اللاتينية، بل من الممكن أن تشكل بمعايير النقد الحالي نَفَسَا جديدا وروحا حية للواقعية الروسية، على الرغم من هيمنة “الواقعية الاشتراكية” (الچدانوفية) آنذاك على الأدب في الاتحاد السوفيتي، والسعي إلى تسييد تلك النزعة التي كانت تعادي كل المذاهب والمدارس الأدبية والإبداعية، وتمجد البطل الفرد الذائب في “الجميع” وتمنحه صكوك التفرد والجدوى والأولوية بشكل وعظي وبدائي يفسد أبجديات الأدب والخيال ويحط من شأن علم الجمال السردي. وهنا قد تحضر، بشكل عابر، التقاليد الأدبية لدى الكتاب الروس الخمسة الذين فازوا بجوائز نوبل في الأدب. فإذا لاحظنا التقاليد السردية لديهم سنجدها امتدادات لتقاليد الواقعية الروسية في القرن التاسع عشر ولا علاقة لها بتقاليد ومبادئ و”مواثيق” الواقعية الاشتراكية “الجدانوفية”.

وعلى الرغم من كل ذلك، ظهر نقاد وباحثون أدبيون ليشككوا في حقيقة كتابة شولوخوف لهذه الرواية الملحمية المهمة، وقدموا أوراقا ومسوغات وقرائن ودلائل تثبت من وجهة نظرهم أن مؤلفها شخص مجهول، وأن ميخائيل شولوخوف استولى عليها بهذه الطريقة أو تلك. بل وظهر كتاب مغمورون يتحدثون عن علاقتهم بشولوخوف، وعن حكاياتهم له عن مشروعاتهم السردية، بينما خزَّن شولوخوف كل هذه الحكايات والأفكار وراح ليكتب ملحمته العظيمة.

وعلى جانب آخر، كان هناك نقاد وصحفيون وباحثون في الأدب أكثر مكرا وخبثا وشرا، إذ تركوا خط اتهام شولوخوف بالسرقة يسير وفق نظرية التفاعل المتسلسل في مجال الذرة، وامتشقوا سيوف النقد الاشتراكي الواقعي، وراحوا يكيلون السباب لشولوخوف الذي خان مبادئ الـ (چدانوفية) “الواقعية الاشتراكية”، وكيف فشل في تصوير البطل الاشتراكي، وكيف قدم للمواطن السوفيتي الاشتراكي نماذج ضعيفة ومهلهلة وخائنة ومتقاتلة وكارهة للاشتراكية، بينما الدولة الاشتراكية تصنع إنسانا عظيما يتسم بكل الصفات الاشتراكية الإيجابية والبطولات الخارقة.

وينسب لچدانوف (فبراير 1896- أغسطس 1948) المذهب الأدبي المعروف بالچدانوفية (Zhdanovism) وتعرفه الموسوعة العربية بأنه: نهج سياسي أيديولوجي اشتراكي متشدد وضع ضوابط ومعايير للكتّاب والفنانين والعلماء في الفترة ما بين 1934- 1953. والمقصود بهذا التعبير هو التأطير الصارم للعمل الإبداعي من خلال هيمنة المضمون على الشكل، وخلق أبطال إيجابيين من أوساط العمال وفق معايير معينة صارمة، والتركيز على آفاق الثورة الاشتراكية في العالم. وفي الحقيقة، كانت الظروف الجديدة التي نشأت في روسيا، بعد ثورة أكتوبر 1917، قد أدت إلى ضرورة ظهور فن من نوع جديد تحددت خطوطه ومهامه وأهدافه في مؤتمر الكتّاب السوفييت في عام 1934. وحدد مكسيم جوركي وأندريه ألكسندروفيتش چدانوف في هذا المؤتمر مفهوم الواقعية الاشتراكية، بأنها مدرسة أدبية فنية تتطلب تصويراً صادقاً وتحديداً تاريخياً للواقع في تطوره الثوري، وأن الصدق والدقة التاريخية في مجال تصوير الواقع هو شرط أساسي لخلق أي عمل إبداعي. وشارك مكسيم جوركي وچدانوف في وضع أسس هذا التوجه. وكان جوركي يمثل الوسط الإبداعي وچدانوف يمثل الحزب. ولكن المفارقة المهمة أظهرت أن وجهات نظرهما كانت متباينة في كثير من النقاط المهمة والحساسة. وكان جوركي غير راض عن الكثير من طروحات چدانوف. ولكن جوركي كان في وضع لا يحسد عليه، والوشايات تدور وتتناثر من حوله والتقارير تكتب فيه وعليه، وكان تقريبا تحت السيطرة الكاملة للمخابرات ولعيون ستالين شخصيا.

سار الخطان المرعبان: الاتهام بالسرقة والتشكيك في القدرة الإبداعية من جهة، والاتهام بالفشل وعدم الالتزام بالواقعية الاشتراكية المجيدة وأبطالها الإيجابيين من جهة أخرى… سار الخطان لتدمير الكاتب والقضاء عليه وتهميشه، عبر بلاغات و”تقارير نقدية” للأجهزة الأمنية ومقالات شريرة لتشكيك الناس فيه وفضهم من حوله.. وفي نهاية المطاف بقي ميخائيل شولوخوف في ذاكرة مواطنيه وفي ذاكرة باحثي الأدب وقرائه، وبقيت رواية “الدون الهادئ” واحدة من علامات الأدب العالمي التي تحكي واحدة من أحلك فترات روسيا السياسية- الاجتماعية، وتشكل درسا إنسانيا وروحيا خالدا بكل المعايير، يضع الإنسان أمام مفترق الطرق ومفترق المصائر، وأمام الاختيارات الصعبة، وأمام الضمير وجها لوجه.

لا أحد يتذكر كل الذين وشوا بالكاتب وشككوا في قدراته، ولا أحد يتذكر أو حتى يحفظ ما كتبوه، بما في ذلك أسماءهم. لكن شولوخوف موجود، و”الدون الهادئ” موجود كرواية، وكنهر يقدسه الروس، بينما هذا النهر ينظر من خلال صفحات شولوخوف إلى تلك الحرب الجديدة الدائرة بجواره، ينظر عابسا وحزينا وموجوعا عبر الحدود الروسية- الأوكرانية، يريد أن يحذر مجددا من تبعات الحروب عموما، ومن كوارث الحروب الأهلية على وجه التحديد.. يحذر من العمى الأيديولوجي والسياسي والانحيازات الذهنية- النظرية التي تتسبب في وقوع عشرات الآلاف من الضحايا والمشوهين نفسيا وروحيا قبل أن يكونوا مشوهين جسديا.