العدالة تعتبر مرآة التحضر البشري والرقي الإنساني، وهي المعيار الدال على الاحترام المكفول لآدمية الإنسان وإنسانيته، فإن تحقق العدالة لا يتأتى إلا بوجود قضاء كفء، نزيه وعادل، وهذا الأخير مرهون بسيادة المناخ القانوني الذي تُضمن تحت رايته الحقوق أو بالأحرى ضمانات لكل ما يُوجهُ إليه الاتهام من قبل السلطة المختصة، بدعوى قيامه بفعل مجَرم، ولا يتوفر كل هذا إلا في جو يسود فيه الاحترام الكامل للحقوق والحريات.

وفي إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان وعلاقته بالعدالة الجنائية يظل الهدف دائما أن يتمتع الإنسان بضمانات معينة سواء في مرحلة ما قبل المحاكمة أو أثناء المحاكمة أو بعد المحاكمة، ومن هنا فإن التشريع الجنائي الوطني لأية دولة يجب أن يحترم ويضع ويُدخل هذه المعايير في حسابه ومن هنا جاز القول بأن المحاكمة العادلة التي تحترم المعايير الدولية المنصوص عليها ضمن حقوق الإنسان هي دليل على صحة النظام القضائي الجنائي في بلد ما ودليل على مستوى احترام حقوق الإنسان، وعدم تطبيق تلك المعايير هو دليل على ظلم النظام القضائي الجنائي في بلد ما ودليل على انتهاك صارخ لحقوق الإنسان.

وهناك مجموعة من المبادئ أو المعايير التي يجب تحققها بشكل يقيني، حتى نضمن وجود محاكمات عادلة ومنصفة للمواطنين.

و تتمثل هذه المبادئ أساسًا في مبدأ قرينة البراءة وهو أحد المبادئ الأصولية التي ترتكز عليها حقوق الإنسان فمجرد توجيه الاتهام إلى شخص معيّن بارتكاب جريمة لا يعني ثبوت إدانته وصفته كمتهم لا يقوم إلا متى توفرت دلائل جدية على ارتكاب الجريمة وصدور حكم بات بالإدانة بعد توفر الضمانات الضرورية للدفاع عن نفسه ويتطلب احترام هذا الأصل ضمانات لحماية الحريّة الشخصيّة للمتّهم ويلتزم القاضي بضمان هذه الحريّة بعدم الخروج عن الإطار الذي حدّده قانون الإجراءات الجزائية لتطبيق العقوبات والإطار الذي حدّدته الاتفاقيّات والإعلانات الدولية التي تبناها المشرّع.

ولا يقف ذلك عند حد قرينة البراءة كمفترض رئيسي للمحاكمات الجنائية، والتي يجب أن تنطلق منها المحاكمات كافة، ولكن لا بد من توافر عناصر أخرى ذات تأثير مباشر على تحقيق المحاكمات العادلة، ومن الممكن أن يكون القانون هو حجر الزاوية التي يقف عندها ذلك الحق، فهو المفترض الرئيسي لدولة القانون ذاتها في المجالات كافة.

وكلما كان هناك قانون عادل يتفق ومبدأ المشروعية منذ لحظة صناعته كان هناك توافر للمحاكمة العادلة بقدر توافر ذلك القانون، إذ لا يكفي مجرد توافر النصوص الدستورية الداعمة لذلك الحق بشكل أو بآخر، فربما تتوفر النصوص الدستورية، ولكن لا يتواجد معها النصوص القانونية التي تعمل على تحقيق ذلك الحق بشكل كبير، إذ قد يمنح القانون للإدارة سلطة مقيدة فيفرض عليها اتخاذ قرار معين إذا ما توافرت شروطه آلية دون منحها فرصة لتقدير هذا التصرف، و قد يمنحها نوعا من الحرية في اتخاذ القرار أو عدمه على الرغم من توفر شروطه كافة فيكون لها السلطة التقديرية في ذلك.

فمثلًا منح المشرع للوالي أو رئيس البلدية سلطات اتخاذ القرارات الملائمة للمحافظة على النظام العام في الظروف التي يراها مناسبة و المحيطة بالوقائع، فالسلطة التقديرية هنا تستند إلى اعتبارات عملية لا تستطيع السلطة التشريعية تصورها أثناء سن القوانين، و لا يستطيع القاضي معايشة ملابساته و تفاصيله، ولئن كان هناك اتفاق عام على أن المقصود بمبدأ المشروعية هو الالتزام بأحكام القانون بالنسبة للجميع حكاماً ومحكومين، وعلى قدم المساواة؛ فإن التعبير عن هذا المعنى قد أُطلق عليه مصطلحات عديدة، منها: المشروعية، الشرعية، سيادة حكم القانون، الخضوع للقانون، فالهدف واحد لدى الجميع وإن جرى التعبير عنه بمصطلحات مختلفة.

وقد أدلت المحكمة الدستورية بقولها عن المحاكمات العادلة في أكثر من موضع، منها ما جاء في الحكم الذي قالت فيه أنه ” تتمثل ضوابط المحاكمة المنصفة في مجموعة من القواعد المبدئية التي تعكس مضامينها نظامًا متكامل الملامح يتوخى الأسس التي يقوم عليها صون كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية ويحول بضماناته دون إساءة استخدام العقوبة بما يخرجها عن أهدافه، وذلك انطلاقًا من إيمان الأمم المتحضرة بحرمة الحياة الخاصة وبوطأة القيود التي تنال من الحرية الشخصية. ولضمان أن تتقيد الدولة عند مباشرتها لسلطاتها في مجال فرض العقوبة صونًا للنظام الاجتماعي بالأغراض النهائية للقوانين العقابية التي ينافيها أن تكون إدانة المتهم هدفًا مقصودًا لذاته، أو أن تكون القواعد التي تتم محاكمته على ضوئها مصادمة للمفهوم الصحيح لإدارة العدالة الجنائية إدارةً فعالة، بل يتعين أن تلتزم هذه القواعد مجموعة من القيم التي تكفل لحقوق المتهم الحد الأدنى من الحماية التي لا يجوز النزول عنها أو الانتقاص منها. وهذه القواعد – وإن كانت إجرائية في الأصل – إلا أن تطبيقها في مجال الدعوى الجنائية – وعلى امتداد مراحلها – يؤثر بالضرورة على محصلتها النهائية، ويندرج تحتها أصل البراءة كقاعدة أولية تفرضها الفطرة، وتوجبها حقائق الأشياء، وهي بعد قاعدة حرص الدستور على إبرازها في المادة 67 منه مؤكدًا بمضمونها ما قررته المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على ما سلف بيانه، والمادة السادسة من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان”.

وكل ما سبق لا يعدو أن يكون سوى إيجاز لبعض معاني ومتطلبات الحق في المحاكمة العادلة والمنصفة، التي بدونها لا يستطيع أن يميز الإنسان ما بين الدولة والغابة لا يسود فيها منطق القوة على منطق العدل، وإذ أن العدل هو الغاية المثلى التي يتطلبها المجتمع ولا تقوم له قائمة بدونها، فإننا نهيب بكل عناصر الدول أن تسعى جاهدة على توفير كافة متطلبات المحاكمة العادلة والمنصفة سواء كانت من احتياجات مادية أو تشريعية أو إدارية بما يضمن أو يتماشى مع  ما صادقت عليه من اتفاقيات ومواثيق دولية معنية بحقوق الإنسان، ويأتي على الرأس منها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، ومن قبل كل ذلك قد أتت به الشرائع السماوية، ساعية منها لتحقيق العدل الذي هو غاية سامية لا تستقيم كافة الأمور الحياتية بدونها.