أعلن مجلس الوزراء في الأيام الماضية عن توقيع اتفاق بين وزارتي التخطيط والتنمية الاقتصادية والمالية، بشأن برنامج الحوافز المادية بالمشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية. يهدف هذا الاتفاق لتشجيع السيدات والفتيات على الالتزام بعدم إنجاب أكثر من طفلين، عبر ادخار ألف جنيه سنويًا لكل سيدة متزوجة في المرحلة العمرية من 21 – 45 عاما، ويستحق المبلغ المتراكم لكل سيدة عند بلوغها سن 45 عامًا، بشرط التزامها بجميع شروط المشروع والمتابعة الدورية.

يأتي هذا الاتفاق ضمن عدة إجراءات تحاول الحكومة تطبيقها أملًا في خفض معدلات الزيادة السكانية، شاهدنا في السنوات الماضية حملات إعلامية لوزارة الصحة تساهم في توعية المواطنين بضرورة الاكتفاء بطفلين، وشاهدنا محاولات أخرى للتوعية بأضرار الزيادة السكانية، وبمساوئ زيادة عدد أفراد الأسرة على رب الأسرة، وتوجت تلك الجهود عبر إطلاق سياسة تحفيز مختلفة أعلنت عنها الحكومة في فبراير/ شباط 2022 وهي المشروع القومي لـ “تنمية الأسرة المصرية”.

استراتيجية البرنامج الحكومي الجديد تختلف في طبيعة فهم الحكومة لأسباب إقبال الأسر على الكثرة في الإنجاب، وهي معدلات الزواج المبكر في الأرياف تحديدًا، نتيجة قلة فرص العمل للسيدات مما يعتبر أحد الدوافع للزواج والإنجاب، بالإضافة لاعتبار كثرة الأبناء فرصة لزيادة دخل الأسرة من خلال مساعدة الأبناء لرب الأسرة في الزراعة أو غيره من الأعمال التي تحتاج لعمالة رخيصة لا تتلقى أجرًا، وبالتالي تعتبر هذه التجليات لدائرة الفقر الخبيثة، هي في ذات الوقت أسباب لزيادة الإنجاب وإعادة إنتاج الفقر مرة أخرى.

انطلاقًا من هذا المفهوم فإن ما أعلنته هالة السعيد وزيرة التخطيط في مؤتمر تنمية الأسرة المصرية كسياسة لحل تلك المشكلة فهي زيادة توليد الدخل والمزيد في إدماج السيدات في سوق العمل، بالتزامن مع برامج أخرى لتحسين خدمات الصحة الإنجابية، بالإضافة للجانب التوعوي، تعتبر هذه السياسة الجديدة هي التعامل المناسب مع جذور تلك المشكلة.

صحيح لا يمكن إغفال النقاش القديم المتجدد، حول مدى مسئولية الزيادة السكانية عن ضعف الأداء التنموي في مصر على مدار العقود الماضية، بين فريق يدعم رؤية الحكومات المتعاقبة حول اعتبار الزيادة السكانية أحد المعوقات الرئيسية ضد التنمية، باعتبار أنه كلما زاد عدد السكان فإن ذلك يؤدي لتآكل ثمار التنمية من نمو معدلات الاستثمار والوظائف وغيرها، مما يؤدي لثبات معدلات نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عند نفس المعدلات إن لم تكن تتراجع، وبالتالي فإن هذا الفريق لديه حجة قوية.

وفريق آخر يرى أن هذا الخطاب ما هو إلا مبرر غير واقعي، بدليل قوة الأداء التنموي للصين التي يتخطى عدد سكانها المليار نسمة، ومن هنا يظهر الفريق المخالف في الرأي والذي يعتبر الزيادة السكانية ثروة بشرية يمكن استغلالها لتحقيق التنمية.

لكن بغض النظر عن محورية هذا النقاش السياسي/ الاقتصادي، وبغض النظر عن حقيقة انخفاض معدلات الزيادة السكانية في مصر بالفعل خلال العقدين الماضيين عما كانت عليه في الخمسين عامًا السابقة، إلا أننا لن نتوقف عند النقاش في الفكرة الأساسية، فبكل تأكيد انخفاض الزيادة السكانية يتيح للحكومة إمكانيات أكبر للتدخل التنموي في إنشاء المدارس والمستشفيات وتحسين الإنفاق العام، لكننا سنناقش مدى فعالية برامج وسياسات الحكومة في تحفيز سياسة تحديد النسل وكيفية تطوير تلك البرامج التي تعلنها وتبدأ في تنفيذها.

تمثل فكرة الدعم النقدي المشروط للسيدات مقابل التزامهن بسياسة الطفلين سياسة تحفيز جيدة، فهي تعالج جوهر الأزمة للأسر الفقيرة في توفير أموال مناسبة ودعم مادي مقابل الالتزام بسياسات تنظيم الأسرة، وهي ذات الفكرة الأساسية في برامج الدعم النقدي المشروط مثل برنامج تكافل وكرامة – وهو النسخة المصرية من برنامج بولسا فاميليا البرازيلي – فهو يقدم للأسرة الفقيرة حوالي ٤٠٠ جنيه مصري مقابل الالتزام بحضور الأطفال للمدارس وانتظامهم في العملية التعليمية، مع برامج مكملة أخرى تحفز السيدات على ريادة الأعمال وتعلم مهارات سوق العمل.

يعتبر تقييم ومتابعة المشروعات والبرامج خطوة هامة في نجاح السياسات العامة، لا نعلم الكثير حول تقييم فعالية مشروع تكافل وكرامة والدعم النقدي الموجه للأسر الفقيرة في إخراجهم من دوائر الفقر، ولا توجد بيانات واضحة حتى الآن عن تأثير البرنامج على نسب التعلم والحضور في المدارس وتلقي الأطفال من الأسر المستفيدة لتعليم جيد يستطيع إخراجهم على المدى الطويل من حلقات الفقر، ونتمنى أن تظهر من الحكومة تقارير حول هذا التأثير.

لكن وبالرغم من عدم وضوح تلك البيانات فإن استمرار تدفق منحة مالية للأسرة بشكل شهري، بالإضافة لأي خدمات دعم اجتماعي أخرى مثل السلع التموينية التي تصرف لتلك الأسر، هي بالتأكيد تساهم في تخفيف حدة الفقر وتلطيف آثاره، حتى مع انخفاض قيمة ذلك المبلغ بسبب انخفاض قيمة العملة لأكثر من ٥٠٪، لكن يظل الدعم المادي الشهري للمستفيدين يحسن من وضعهم الاجتماعي ويساهم في ضخ تلك النقود في الاقتصاد الوطني من خلال تمكين تلك الأسر من الاستهلاك.

الإعلان الذي تم عن برنامج الدعم طويل المدى تظل فعاليته محل شك كبير، فمن ناحية المبلغ فهو ليس بالقدر الذي يدفع الأسر الفقيرة للاستغناء عن إنجاب المزيد من الأطفال ودفعهم للعمل مبكرًا من أجل جلب الأموال، ونحن نتحدث عن ٨٣ جنيه شهريًا أي أقل من ٣ جنيهات يوميًا، وهي أموال لا تساوي العائد من عمل الطفل في جمع المحاصيل أو قطاع المقاولات أو مواقف السيارات أو غيرها من المهن التي تنتشر بها عمالة الأطفال.

أما فكرة تراكم المبلغ لعدد كبير من السنوات قد يصل لـ 24 عامًا وعدم صرفه بشكل شهري أو سنوي، يمثل ثغرة أخرى أمام كفاءة البرنامج وفعاليته، فهو يتحول بهذا الشكل لما يشبه بسراب أو حلم بعيد المنال، لا سيما مع فهم المواطنين لفكرة التضخم وتراجع قيمة العملة الآن أكثر من أي وقت مضى، فهم شاهدوا تراجع سعر الجنيه أمام الدولار من 15 جنيها إلى 30 جنيها في السوق الرسمي في أقل من عام واحد، مما يجعل القوة الشرائية للمبلغ الحالي والتي هي بالأساس غير مشجعة، ستضعف أكثر من قيمتها وتأثيرها المنتظر.

صحيح نحن نعلم أن موقف الموازنة العامة ليس بأفضل حال، وإمكانيات الدولة حاليًا لا تسمح بتوسع كبير في الإنفاق الاجتماعي بما يساهم في زيادة العجز وصعوبة التوازن الاقتصادي وتزايد الحاجة للاقتراض، لكن في ذات الوقت نحن نريد أن تزيد كفاءة السياسات الحكومية، لذلك قد يكون إعادة النظر في آلية صرف الأموال بشكل سنوي أو نصف سنوي يساهم لحد كبير في تحسين كفاءة البرنامج، فضلًا عن ضرورة زيادة الأموال المخصصة بدلًا عن المعلن عنها، إذا كانت إمكانيات الحكومة تسمح بذلك خلال السنوات المقبلة.

أما العامل الأهم والذي لم نسمع عنه الكثير، فهو ضرورة تكامل سياسات الحماية الاجتماعية وربطها ببعضها البعض، بحيث تحصل الأسرة المستفيدة من معاش تكافل وكرامة على دعم آخر من دعم السلع التموينية ودعم تنظيم الأسرة وغيرها من أوجه الدعم الاجتماعي المتوفرة، وبالتالي تستطيع تلك البرامج جميعها أن تشجع قدرات تلك الأسر على الاستهلاك والإنفاق وتشجعهم على الالتزام بالخطط الحكومية في تنظيم الإنجاب وتعليم الأطفال وتمكين السيدات.

ما قررت الحكومة الإعلان عنه هو نواة مشروع جيد وكبير ضمن سياسات الحماية الاجتماعية المطلوبة، لكن التفاعل مع بعض الملاحظات التي يتم إبداؤها والاهتمام بتطوير ومراجعة السياسات العامة بشكل دائم يساهم كثيرًا في تحسنها وفي نجاح برامج الحكومة وسياساتها، وهو أمر ننشده جميعًا، ونحاول دومًا أن نقوم بدورنا فيه من خلال إبداء الآراء والملاحظات في هذه المساحة لعل هناك من يستجيب لها ويتفاعل معها.