لا نبالغ إذا اعتبرنا أن الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين التي انعقدت يوم الجمعة الماضي 17 مارس تمثل نقطة فارقة في مسيرة النقابة بشكل خاص وفي دور النقابات المهنية خلال المرحلة المقبلة بشكل عام، بل وتقدم رسائل بالغة الدلالة والأهمية فيما يتعلق بأوضاع الصحافة وخاصة مع ارتباطها بقضايا الوطن وحرية الرأي والتعبير.

نقطة البداية هي العدد الكبير للحضور والذى لم يسجل من قبل في تاريخ نقابة الصحفيين حيث شارك في الجمعية العمومية والتصويت في الانتخابات 5062 صحفيًا بما يفوق 51% من إجمالي الأعضاء المسجلين بجدول المشتغلين بالنقابة، ورغم أن هذا العدد يبدو متوافقًا مع الزيادة في أعداد أعضاء النقابة، إلا أنه أيضًا يعبر عن رقم ونسبة كبيرين في الحضور عما هو معتاد في الجمعيات العمومية لنقابة الصحفيين، والملاحظ على مدار السنوات الماضية أن تركيبة الجمعية العمومية للنقابة تشهد تغيرًا ملموسًا بشكل عام وجيليًا بشكل خاص.

بالإضافة للعدد الكبير، فقد كان واضحًا أن هناك حشدا واضحا من المؤسسات الصحفية القومية وغيرها، سواء بتوجيهات من المسئولين عن تلك المؤسسات لدعم المرشحين المنتمين لتلك المؤسسات أو بالأساس لدعم المرشح على موقع النقيب، ومع ذلك ومع كل ما شهدته الأيام الأخيرة من السباق الانتخابي من محاولات توجيه لرأي الصحفيين وأحيانًا التلويح بعواقب انتخاب مرشحين بعينهم وبالذات في موقع النقيب، فضلًا عن توزيع وجبات وهدايا خلال اليوم الانتخابي نفسه، إلا أن ما جرى لم يكن فقط رد فعل للصحفيين المفترض أن أساس مهنتهم هو حرية الرأي والتعبير، وبالتالي يبدو مذهلًا تصور أن هؤلاء يمكن توجيههم بهذه الطريقة، ولا يمكن أبدًا أن يتماشى مع طريقة تفكير الأجيال الجديدة عمومًا، والصحفيين منهم خصوصًا، وبالتالي انقلب قطاع كبير من ذلك الحشد على ما تم حشده من أجله، وشهدنا تصويتًا مضادًا لما كان مرغوبًا منه، وهي رسالة بالغة الوضوح والذكاء في نفس الوقت.

فالطرق القديمة لم تعد تصلح بل وقد تأتي بالضبط بالنتيجة العكسية لما يطلب منها بالذات مع هذا القدر من محاولات الضغط والتخويف والترهيب من جانب بعض المسئولين عن المؤسسات الصحفية الذين لعبوا هذا الدور، وبالتأكيد التعميم هنا ليس في محله، فالبعض الآخر نأى بنفسه عن ذلك حتى لو كانت مواقفه المعلنة غير ذلك.

لكن نتائج التصويت لم تكن فقط نتيجة تلك الممارسات الضاغطة قبل الانتخابات، لكنها أيضًا جاءت تعبيرًا عن رغبة واضحة في التغيير داخل نقابة الصحفيين، ورفضا لاستمرار تهميش النقابة وتغييب الجمعية العمومية، فضلًا عن تصويت واضح للمرشحين المدافعين عن قيم حرية الصحافة والمطالبين بإخلاء سبيل الصحفيين المحبوسين في قضايا رأي والمنتصرين لحرية الصحفي في ممارسة مهنته دون قيود أو توجيهات تفرض عليه، وهي رسالة بالغة الوضوح والدلالة على أن أوضاع الصحافة تحتاج لتحرير واسع من القيود المفروضة عليها سواء في التشريعات أو بالممارسة الفعلية، وربما هذه واحدة من أبلغ وأهم رسائل الجمعية العمومية ونتائج الانتخابات.

بهذا المعنى، فإن رسالة الجمعية العمومية للصحفيين لم تكن فقط رد فعل، دون تجاهل أن ذلك يمثل جزءًا بالتأكيد، لكنها أيضًا فعل مقصود ورسالة واضحة ومبادرة دالة على الرغبة في تغيير تلك الأوضاع القائمة سواء فيما يتعلق بالنقابة ودورها أو بالمهنة وأوضاعها، كما أنها في جانب آخر منها تعبير عن انحياز لتغيرات كبيرة في عالم الصحافة، باختيار مرشحين ينتمون بأفكارهم وانحيازاتهم لأجيال جديدة ولتجارب صحفية جديدة مثل المواقع والمنصات الإلكترونية، وهي مسألة صارت بالغة الإلحاح في طرح صيغ جديدة لها تضمن حقوق المشتغلين بتلك المواقع في عضوية النقابة عبر آليات تلائم طبيعة عملهم وتعديلات تأخرت كثيرًا في قانون النقابة ولائحتها.

أيضًا جاءت نتائج الانتخابات لتستبعد عددا من المرشحين الذين لعبوا دورًا من خلال عضويتهم في المجلس السابق ويمثلون جزءًا من المسئولية المباشرة عن المساهمة فيما وصل إليه حال النقابة وأوضاعها، رغم تصورات في بداية الانتخابات عن فرص شبه مؤكدة لهؤلاء عن غيرهم من المرشحين، بينما نجح آخرون رغم كونهم أعضاء في نفس المجلس لكن مسئوليتهم تبدو مختلفة بحكم مواقفهم المعارضة لهذا المسار. وبالتالي، هناك إحساس واضح بضرورة منح الفرصة لمن لديهم رؤى معارضة لهذه الأوضاع وتصورات مختلفة وحلول بديلة وانحيازات أخرى، بالإضافة إلى تجديد دماء مجلس النقابة سواء على موقع النقيب أو نصف أعضاء المجلس الذين تم انتخابهم.

إذا كان ذلك فيما يتعلق بالرسائل الخاصة بالنقابة والصحافة، لكن فيما هو أبعد وأعمق، فهي تعبير عن رسائل تتعلق بأوضاع الوطن كله وما يخص المجال العام فيه، وهو أمر ليس بجديد، فدائمًا ما كانت نتائج انتخابات النقابات المهنية وبالذات الصحفيين تعبيرًا عن اتجاه يتبلور في الوطن كله ويشق مسارًا له، فالتوق والشوق الواضح لممارسة الديمقراطية والتعبير عن الرأي من خلال صناديق الانتخابات يبدو واضحًا، كما أن الميل لمنح الفرصة لأصحاب الرؤى المختلفة والمعارضة والأجيال الجديدة منهم يبدو دالًا، ثم أن الانتصار لمن تصدت حملاتهم لقضايا الحريات بدا واضحًا في مواجهة من حاولوا فرض القيود أو توجيه الرأي لإبقاء الحال على ما هو عليه.

الجمعية العمومية للصحفيين ونتائج انتخاباتها لا تبدو منعزلة عن مجمل الوضع العام في مصر بل هي مترابطة ترابطًا وثيقًا معه، وتؤكد وجود حاجة لانفتاح واسع ومساحات جادة من الحريات وإعادة الاعتبار لفكرة الانتخابات كمسار آمن للتنافس والتعبير عن الرؤى والأفكار والبرامج والتصورات، ثم أنها تأتي في سياق أوسع سبقه قبل سنة تقريبًا عودة المهندس طارق النبراوي لموقع نقيب المهندسين رغم وجوده على رأس مجلس غير متناسق معه، وهي معركة أخرى تدور في الأفق الآن ودلالاتها تبدو واضحة أيضًا عبر قرارات الجمعية العمومية الأخيرة للمهندسين، والتي شهدت حشدًا هائلًا أيضًا بنتائج تبدو مماثلة من حيث جوهرها لما جرى في نقابة الصحفيين.

كما أن المحاولات الجارية حاليًا في نقابة المهندسين لإنهاء هيمنة طرف سياسي بعينه بكل ما يعبر عنه ويمثله وتدخله وتحكمه في شؤون النقابة بهذا الشكل والانحياز لما هو مهني ويعبر عن مصالح المهندسين ونقابتهم، وهو أيضًا أمر غير بعيد عن حراك المحامين الذي جرى قبل شهور قليلة وانطلق وتبلور أيضًا في نقابتهم.

عودة الحياة والروح للنقابات المهنية، وانتصارات المعبرين عن تيارات استقلالها، أمر بالغ الأهمية لمسيرة الوطن كله، والتفاعل مع ذلك من جانب السلطة يجب أن يكون إيجابيًا في الحقيقة دون تخوفات أو محظورات. وعلى العكس فربما يكون ذلك أكثر فائدة للجميع. وهو أمر ينبغي أن يمتد على استقامته لمساحات ومجالات أخرى سياسية وحزبية وغيرها.

أخيرًا، يبقى أن المجلس الجديد لنقابة الصحفيين يحتاج لتجاوز الكثير مما هو فرعي على أهميته، وأن يسعى ليكون مجلسًا مستقلًا بالفعل لا منقسمًا تأثرًا بنتائج انتخابات أو بغيرها من الحسابات أو التدخلات، وربما الروح الإيجابية بين المتنافسين على موقع النقيب بعد إعلان نتائج الانتخابات وحرصهم على تبادل التهنئة يبدو أمرًا إيجابيًا ولو من حيث الشكل.

وبالتأكيد، فإن هناك كتلة متنوعة ومختلفة في تركيبة المجلس الجديد، لكن هذا بذاته يمكن أن يكون أمرًا صحيًا وإيجابيًا ويحتاج للتعامل معه بقدر عال من المرونة وتغليب مصلحة النقابة والصحافة على ما هو غيره، شرط أن يكون ذلك من الجميع، وإدارة ذلك الملف، مثل إدارة ملف التفاوض مع الجهات الرسمية في الدولة ذات الصلة بملف الصحافة، واستمرار الخطاب الناضج المسئول والواضح في الوقت نفسه الذى تم طرحه في الحملات الانتخابية، تمثل خطوات بالغة الأهمية فيما هو مقبل.

لكن نقطة البدء هي الحرص على استمرار حضور الجمعية العمومية في القضايا الكبرى المتعلقة بالنقابة والمهنة، واستعادة حيويتها وحضورها في النقابة، والتعامل بمبادرات سريعة وجادة في الملفات ذات الأولوية التي طرحت ضمن برامج النقيب وأعضاء المجلس الجدد، وربما يكون على رأسها ملفات مثل رفع الحجب عن المواقع والسعي عبر الوسائل والآليات القائمة للمطالبة بالإفراج عن الصحفيين المحبوسين، فضلًا عن إدارة حوار جاد وواسع وحقيقى وعميق داخل النقابة ومع المؤسسات الصحفية المختلفة ومع الجهات ذات الصلة حول أوضاع الصحافة وأحوالها وكيفية التخلص من قيودها والتعامل ولو تدريجيا مع مشاكلها الاقتصادية وتحسين الأجور للصحفيين ومستوى وطبيعة الخدمات المقدمة لهم وإستعادة دور وحضور وتأثير ومصداقية الصحف الورقية والمواقع الالكترونية، وهو كله بالإضافة لغيره من الملفات لا يملك أحد حلولًا سحرية وفورية له، لكن التقدم بمبادرات وتصورات وإشراك أوسع قطاعات من الصحفيين فيه هو المدخل الصحيح له.

وفي نفس الوقت نحتاج لمنح المجلس بتشكيله الجديد وقتًا لترتيب أوراقه وأوضاعه، وكذلك نحتاج لمنح الفرصة كاملة للنقيب والأعضاء الجدد دون ضغط أو طرح طموحات أوسع وأعلى مما هو ممكن مع كل التقدير والتفهم لرسائل الأمل التي قدمها انتخابهم، لكن نحتاج ليكون الصحفيون جميعًا داعمين ومساندين ومتفهمين لحجم المشاكل وتعقد وتداخل الملفات، وأن يكونوا بحضورهم ودعمهم وحتى نقدهم دون مغالاة لكن أيضًا دون تهاون، سندًا حقيقيًا للمجلس الجديد.